الآية 60
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــة
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} (60).
* * *
معاني المفردات
{طُغْيَانًا}: ظلماً.
* * *
مناسبة النزول
في الدر المنثور أخرج ابن جرير، عن سهل بن سعد قال: رأى رسول الله (ص) بني فلان ينـزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك. فما استجمع ضاحكاً حتى مات. فأنزل الله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ}.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر أن النبي قال: رأيت ولد الحكم ابن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة. وأنزل الله في ذلك: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} يعني الحكم وولده.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم، عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله (ص): أريت بني أمية على منابر الأرض، وسيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، واهتم رسول الله (ص) لذلك، فأنزل الله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ}.
وفيه أخرج ابن مردويه، عن الحسن بن علي، أن رسول الله أصبح وهو مهموم فقيل: مالك يا رسول الله؟ فقال: إني أريت في المنام كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا، فقيل: يا رسول الله، لا تهتم فإنها دنيا تنالهم. فأنزل الله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ}.
* * *
حكمة إلهية في اختيار الناس
في هذه الآية وضوحٌ في المعنى من جهة المفهوم العامّ الذي توحي به، وغموض من جهة التطبيق، وذلك من جهة ما يراد من الرؤيا التي أراها الله للنبي (ص) وما يقصد من الشجرة الملعونة في القرآن... حيث اختلف المفسرون في ذلك.
فمدلول الآية يتضمن الإيحاء للنبي (ص) بأن الله قد أحاط بالناس في علمه، فهو المطّلع على كل شيء مما يضمرونه أو يظهرونه، كما أحاط بهم في قدرته، فهو المهيمن على وجودهم كله، فلا يستطيعون التحرك بمقدار شعرةٍ، بعيداً عن سيطرته، ولا يتمكنون من الهروب من ملكه.
وقد كان من حكمة الله أن يختبر الناس، ويفتنهم بما يكون محلاً للأخذ والرد والنفي والإثبات، سواءٌ في ذلك الحوادث التي تحدث في ساحتهم، أو الظروف التي تضغط عليهم، أو الأجواء التي يثيرها في وجدانهم، من خلال ما يلقيه إلى النبي من كلماتٍ أو ما يريه من مناماتٍ، ليحدّث بها النبي (ص)الناس، فيختلفون حولها. وهكذا يريد الله أن يجعل الرؤيا التي أراها له فتنةً للناس، كما هي الشجرة الملعونة في القرآن، ولكن الناس لا يواجهون ذلك بمسؤوليةٍ، في ما يفرضه المصير من تأمّلٍ وتبصّرٍ واستعدادٍ، فلا يخافون الله، بل يزدادون تمرداً وطغياناً من خلال أجواء اللامبالاة التي يواجهون بها أمر الله سبحانه.
* * *
وجوه في تفسير الرؤيا والفتنة
ولكن ما هي هذه الرؤيا التي رآها النبي (ص)؟
ذكر صاحب مجمع البيان عدة وجوه في تفسيرها:
أحدها: أن المراد بالرؤيا رؤية العين، وهي ما ذكره في أوّل السورة من إسراء النبي (ص) من مكة إلى بيت المقدس وإلى السموات في ليلة واحدة، إلا أنه لما رأى ذلك ليلاً وأخبر بها حين أصبح سمّاها رؤيا، وسمّاها فتنةً، لأنه أراد بالفتنة الامتحان وشدّة التكليف، ليعرّض المصدّق بذلك لجزيل ثوابه والمكذّب لأليم عقابه.
ثانيها: أنها رؤيا نوم رآها أنه سيدخل مكة، وهو بالمدينة، فقصدها فصدّه المشركون في الحديبيّة عن دخولها، حتى شكّ قوم ودخلت عليهم الشبهة، فقالوا: يا رسول الله، أليس قد أخبرتنا أنّا ندخل المسجد الحرام آمنين؟ فقال(ص): أوَقلت لكم إنكم تدخلونها العام؟! قالوا: لا، فقال: لندخلها إن شاء الله. ورجع ثم دخل مكة في العام القابل. فنزل: {لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ}.
ثالثها: أن ذلك رؤيا رآها النبي (ص)أن قروداً تصعد منبره وتنزل، فساءه ذلك واغتمَّ به، روى سهل بن سعيد عن أبيه أن النبي(ص) رأى ذلك، وقال له(ص): لم يستجمع بعد ذلك ضاحكاً حتى مات، وروى سعيد بن يسار أيضاً، وهو المروي عن أبي جعفر «الباقر» وأبي عبدالله «الصادق(ع)»[1] .
رابعها: ما ذكره تفسير الكشاف من احتمال أن يكون المراد بالرؤيا، ما يمكن أن يكون قد رآه النبي (ص) من مصارع المشركين في بدر، قبل المعركة، فحدث به أصحابه في ما كان يروى عنه من قوله حين ورد ماء بدر: «والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» وهو يومىء إلى الأرض ويقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان... فتسامعت قريش بما أوحي إلى رسول الله(ص) من أمر يوم بدر وما أري في منامه من مصارعهم، فكانوا يضحكون ويستسخرون ويستعجلون به استهزاءً[2]. أمَّا الشجرة الملعونة فقد فسرت بأنها «عائلة بني أمية» على أساس الوجه الثالث في تفسير الرؤيا، ويكون اللعن في القرآن متعلقاً بهم من خلال انطباق أحد العناوين الملعونة من المنافقين والظالمين وأمثالهم، وبذلك يحصل هناك انسجام بين الرؤيا وبين الشجرة الملعونة التي تمثل المضمون الواقعي للرؤيا.
أما مسألة الفتنة في ذلك، فمن جهة المراكز التي يتبوأونها، من خلال الخلافة التي قد تخدع الكثيرين من الناس، فتوحي إليهم بشرعية تصرفاتهم الطاغية المستكبرة والمنحرفة عن خط الإسلام، في ما يفتتن به الناس من الأشخاص الذين يحملون صفات معينة تتصل بالدين، ما يمنحها طبيعة القداسة التي تحوّل الضلال إلى عنصر مقدّس، وتجعل لرموزه قداسةً في ميزان التقييم الديني للأشخاص.
وقيل إنها اليهود، لأن الله تحدث عن لعنهم في القرآن، وقيل إنها شجرة الزقوم الملعونة من حيث طعمها ونتائجها السيئة، قالوا: وإنما سمّى شجرة الزقوم فتنةً لأن المشركين قالوا: إن النار تحرق الشجرة فكيف تنبت الشجرة في النار وصدّق به المؤمنون.
* * *
مناقشة الآراء
هذه هي خلاصة الآراء في معنى الكلمتين. وقد نلاحظ على التفسير الأول للرؤيا بأنه خلاف ظاهر الكلمة التي تدل ـ بحسب إطلاقها ـ على ما يراه الإنسان في المنام. كما أن التفسير الثاني لا ينسجم مع الطبيعة المكية للسورة، مما لا يتفق مع رؤيا دخول مكة التي كانت في المدينة، حيث كانت متأخرةً عن مورد نزول الآية.
أما التفسير الرابع، فقد تكون نقطة ضعفه أنه لا دليل على وجود رؤيا من هذا القبيل في هذا الشأن، لأن ما ذكره الله من منام الرسول، في يوم بدر، هو ما يتعلق بحجم الأعداء، لا بمصارعهم.
وبذلك يكون التفسير الثالث أقرب إلى الذهن وإلى جوّ الآية من خلال ما توحي به كلمة الإحاطة من الانفتاح على الأشياء المستقبلية، المتصلة بحركة الإسلام في المستقبل في ما يريد الله أن يعرّف به رسوله، بما ينتظر دينه من تطورات على صعيد التطبيق في حركة الواقع. كما أن مفهوم الفتنة يلتقي بالواقع المنحرف الذي يقود إلى الارتباك، أكثر مما يلتقي بما يختلف الناس حوله من الأخبار.
ومن الأمور التي تؤكد هذا التفسير، التقاء روايات أئمة أهل البيت (ع) الذين هم الحجة في تفسير القرآن، بروايات غيرهم من أهل السنة، وانسجامه مع حركة الآية في تحذير الناس من الانحراف عن خط الله، من خلال الواقع المنحرف الذي يقودهم إلى الهلاك.
* * *
حكمة إلهيّة
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} فاطّلع على كل ما يحدث لهم في الحاضر والمستقبل، وأراد لك أن تطلَّع على كثير مما يخفى عنك مما يتّصل بحركتك في خط الرسالة وحركتها في مواجهة أحداث المستقبل. {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتي أَرَيْناكَ}، كسبيلٍ من سبل تعريفك بما قد يحدث لك ولأمتك، {إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} وذلك لما يمكن أن تثيره فيهم من اهتزازٍ وارتباكٍ، {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} من هؤلاء الذين يتحركون، ليقودوا خط الضلال والانحراف بعيداً عن خط الإسلام والاستقامة، أو هذه الشجرة التي تحدث عنها القرآن، فأثارت كثيراً من الجدل الناشىء عن عدم الفهم {وَنُخَوِّفُهُمْ} بما يثيره فيهم الحذر الذي يوجههم نحو الخير. {فَمَا يَزِيدُهُمْ} ذلك {إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} أي ظلماً وعدواناً من خلال أجواء الغفلة واللامبالاة التي تقودهم إلى الاستخفاف بكل حالات الإنذار والتخويف؛ والله العالم.
ــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:6، ص:548.
(2) تفسير الكشاف، ج:2، ص:455.
تفسير القرآن