من الآية 61 الى الآية 65
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيـات
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا* قَالَ أَرَأيْتَكَ هَـذَا الَّذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً* قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا* وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا* إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (61ـ65).
* * *
معاني المفردات
{لأَحْتَنِكَنَّ}: لأقودنّ. مأخود من تحنيك الدابة، إذا شدّ على حنكها الأسفل بحبل يقودها به. أو لأقتطعنهم من الأصل، من احتنك الأرض إذا جرّد ما عليها.
{مَّوفُورًا}: تامّاً، مكمّلاً.
{وَاسْتَفْزِزْ}، الاستفزاز: الاستخفاف والاستنهاض.
{وَأَجْلِبْ}: من الجلبة وهي الصّياح.
* * *
تكرار قصة آدم وإبليس للعظة والاعتبار
وتبقى قصة آدم وإبليس، هي القصة التي يُراد لها أن توحي للإنسان بالحذر انطلاقاً من الخط الذي تحرك في بداية الخليقة، وبدأ بحالة الكبرياء الذاتية العنصرية، التي دفعت إبليس إلى الامتناع عن السجود لآدم كما أمره الله، وإلى التخطيط لإضلال بنيه في المستقبل ليخرجهم من الجنة، كما كان أبوهم سبباً لإخراجه من رحمة الله، في ما تحركت به النوازع إلى هذا المصير.
وهذا ما يريد الله للإنسان أن يعيشه في مواجهة الشيطان، كحقيقة ثابتة تفرض نفسها عليه في عملية إغواء وإضلال، ولكنها لا تستطيع أن تشلّه وتجمّده، لأنه يملك العقل الذي يحدّد له مواقع الخير والشر، كما يملك الوحي الذي يقوده إلى تفاصيل الواقع ويحذّره من نتائجها السلبية بطريقة حاسمة.
وتبقى القصة المتكررة في القرآن، أسلوباً لا يريد أن يكرر الواقعة كخبرٍ للمعرفة، بل يريد أن يحركها في كل موقع للفكر، وللعظة، وللاعتبار.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} تحيةً له وتكريماً لمقامه، أو خضوعاً لله الذي خلقه في أحسن الخلق وأروعه، {فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ} لم يسجد، لأنه كان يعيش في داخل نفسه عدم التوازن بين حس الكرامة في الذات وحس العبودية لله، فلم يعرف أن المخلوق لا يملك أيّة إرادة أمام الله، فلا بد له من أن يعيش الاستسلام المطلق لذاته المقدّسة، وأن كرامته مستمدّة من طاعته لله، لا من استسلامه لنوازعه الذاتية، وأن الله هو الذي يحدّد للخلق مكانتهم من خلال اطّلاعه على عمق السرّ الذي يتمثل في وجودهم، بعيداً عن كل الأوضاع الظاهرة التي تميز مخلوقاً عن آخر، بغض النظر عن المعاني الخفيّة الكامنة في الداخل. وبذلك ضاع إبليس عن الطريق السويّ، واختلطت المقاييس في ذهنه، فانحرفت به عن خط الوضوح في الرؤية، واستغرق في ذاته، كما لو كانت تملك الأصالة الذاتية بعيداً عن كونها مخلوقةً لله. ولاحظ العنصر الذي وجد منه وهو النار، والعنصر الذي صنع منه آدم وهو الطين، ففضل عنصره من دون التفاتٍ إلى أن الذي أودع الخصائص في النار هو الذي أودع الخصائص في الطين، وعرف سر الذات في كل منهما، فهو الذي يحدد مواقع الفضل في هذا أو ذاك، لا المخلوق الذي لا يملك من المعرفة إلا ما عرفه الله.
* * *
عقدة الانتقام
{قَالَ أَأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} أي كيف أسجد لهذا المخلوق الذي لا يملك أيّ تفوّق عليّ في عنصره، وهو الطين. وتعاظمت الكبرياء في ذاته، وتحركت العقدة في نفسه، وحاول أن ينفّس عن هذه الحالة النفسية المعقّدة، بعد أن يحصل على الخلود في الأرض، ما دامت الحياة فيها، فأعلن خطته الشريرة في الانتقام من هذا المخلوق، الذي سيكون له ولأولاده شأن في هذه الأرض، وذلك بالانتقام من أولاده. {قَالَ أَرَأيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} أي أخبرني عن هذا المخلوق الذي فضَّلته عليّ، كيف كرَّمته عليّ وأنا في المستوى الأعلى بالنسبة إليه. {لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} أي لأستأصلنهم بالإغواء، وبذلك أبعدهم عن رحمتك، وأنزلهم عن هذا المستوى الذي رفعتهم إليه، وأردتهم أن يديروا به الأرض من خلال وحيك، وأن يخضعوها لإرادتك، وأن يرتفعوا إليك بالطاعة... {إَلاَّ قَلِيلاً} منهم، ممّن يرتفع إلى مستوى عقله، ولا يخضع لنداء شهوته، ولكنه يتوازن فيعطي للشهوة دورها في حركة الحياة في الجسد، بما يلبي حاجته الطبيعية، ويمنع عنها حريتها، في ما يهدد حياتها وطهرها وصفاءها في آفاق الروح، ويتحرك في اتجاه الدور الطبيعي المميز الذي خلقه الله من أجله، وهو الخلافة في الأرض.
* * *
الإيحاء لإبليس باستعمال كل وسائل التضليل
{قَالَ اذْهَبْ} وتصرّف بما يحلو لك، مما قد تعتبره تنفيساً للعقدة، وثأراً للكرامة، وانسجاماً مع كبرياء الذات... ولكنه في الواقع مظهر الغرور، يشعر صاحبه بالانتفاخ الذي لا يمثل شيئاً من القوّة، بل يمثل أعمق نوازع الضعف، تماماً كما هو الورم الذي يوحي بضخامة الجسد، ولكنه يذهب كالهواء... امض لشأنك وخذ حريتك. ولكن ما النتيجة، وما العاقبة؟ فإن الأمور تعرف بنتائجها لا بمقدماتها. {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} وأطاعك، وترك عقله، وأطاع شهوته، وعصى ربه... {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا} لا نقصان فيه.
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} أي استخفَّه حتى يستثيره نداؤك ليسعى إليك، وذلك بإثارة عناصر الإغراء والإغواء والتزيين والتحسين أمامه {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} الجلبة: الصياح الذي يصدر عن صاحب الخيل والرجال من خلفه، ليحثه على السبق واللحاق به، والرجل جمع رجل.. وهو وارد على سبيل الكناية والتمثيل، مثّل حاله في تسلُّطه على من يغويه بمغوارٍ أوقع على قوم، فصوّت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيّالةٍ ورجّالةٍ، حتى استأصلهم ـ كما ورد في الكشاف ـ[1]. وبهذا كانت الفكرة إيحاءً للشيطان بأن يستعمل كل وسائله وإمكاناته وقواه في سبيل الإضلال {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَلِ وَالأولادِ} وذلك بتوجيههم إلى الوسائل غير الشرعية في اكتساب المال كالقمار والربا والسرقة والغصب، أو في إنفاقه في الموارد المحرّمة، أو بتوجيههم إلى الوسائل غير الشرعية في إنجاب الأولاد عن طريق الزنا، أو في التربي على غير النهج الشرعي ـ إذا كانت ولادته شرعية ـ أو ما شاكل ذلك... الأمر الذي يجعل المال والولد شركة بين الشيطان وبين صاحبه، من خلال علاقته المحرّمة به، بالإضافة إلى النسبة الذاتية التي تنتسب فيها الأشياء إلى أصحابها، والأولاد إلى آبائهم.
{وَعِدْهُمْ} بكل المواعيد الكاذبة التي تثير فيها أمامهم أحلام المستقبل الذهبية، التي تترتّب على معصيتهم لله وانحرافهم عن خطه المستقيم، وتؤدي بهم إلى الاستسلام إلى أماني المغفرة والرحمة والشفاعة، ونحو ذلك مما يخضع ـ في طبيعته ـ إلى شروط معينة. {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} فليس له حقيقةٌ في الفكرة ولا في الواقع، بل هو صورةٌ في الخيال، وحركةٌ في الوهم والحس والشعور، لأنه يظهر الباطل في صورة الحق، والخطأ في مظهر الصواب، والانحراف في خيال الاستقامة.
* * *
نجاح الشيطان مع المستسلمين له
افعل كل ذلك، واستنفد كل طاقتك، واصرخ بأعلى صوتك، فسوف لن يستمع إليك ولن يتبعك إلا الضعفاء في عقولهم وإراداتهم، الذين لا يعيشون في الآفاق الرحبة من معرفة الله، ولا يتحركون في مواقع المسؤولية، بل يستسلمون للشهوات ويمارسون كل أوضاع الحياة من خلال اللاّمبالاة، كما لو كانت الحياة فرصةً طيبةً للهو والعبث، بعيداً عن الفكر والهدى، أما عباد الله الذين يعيشون الإحساس بالعبودية في عمق الذات، على أساس أنه سرّ الوجود الإنساني في شعورهم بحاجتهم المطلقة لله في كل شيء، من أول حركةٍ في رحلة الوجود حتى آخر نبضةٍ منه، فليست العبودية عندهم حالةً طارئةً، تنطلق من غلبةٍ أو تشريعٍ أو ما أشبه ذلك، بل هي المعنى والحقيقة والمضمون في داخل الشخصية، فهم ينظرون إلى المسؤولية نظرةً جدّيةً، تتصل بإنسانيتهم التي تعني الانسجام مع النظام الكوني في حركته، للوصول به إلى الغاية الأساسية، والّتي تفرض النظرة إلى عناصرها الذاتية، كأمانةٍ لله عندها، في ما يجب أن تقوم به أو تتحرك به من خططٍ ومشاريع... ولذلك فإنهم يعيشون الحرية أمام الشيطان وأمام العالم، بالعمق نفسه الذي يعيشون فيه العبودية أمام الله.
{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} لأن سلطانك على الذين يتبعونك لا يعود سببه إلى ما تملكه من قوّةٍ مهيمنةٍ ضاغطةٍ ساحقةٍ، أو لضعفٍ فيهم لا يمكن أن يترجم إلى قوّة، بل هو ناشىءٌ من تنازل هؤلاء عن قوتهم في الفكر والإرادة، واستسلامهم لك في ساحة الصراع، ولكن عبادي الذين آمنوا بي وبرسلي، وأخلصوا لرسالتي، يستنفرون كل طاقاتهم الفكرية والعملية لمواجهة أساليبك الشيطانية وضغوطك الشهويّة، فلا تستطيع إغواءهم لأنهم يتمرّدون على كل عناصر الإغواء الذاتية، ولا تتمكن من إضلالهم، لأنهم يصرّون على السير بقوّة في اتجاه الخط المستقيم، من خلال المنهج الفكري والعملي الذي خطته الرسالات للإنسان من أجل بقائه مع الله في جميع أوضاعه العامة والخاصة.. فهو الذي يمد الإنسان بالقوّة عندما يريد أن يتحرك نحوه ويتجه إليه، ويقوم على رعايته وحمايته من كل شرّ يضغط عليه بما لا قِبَلَ له به. {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} وكافلاً لعباده المخلصين السائرين على طريقه وهداه.
ـــــــــــــــــــ
(1) تفسير الكشاف، ج:2، ص:456.
تفسير القرآن