تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 66 إلى الآية 69

 من الآية 66 الى الآية 69

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا* وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا* أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً* أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} (66ـ69).

* * *

معاني المفردات

{يُزْجِى}: الإزجاء: سوق الشيء حالاً بعد حال.

{ضَلَّ}: هنا بمعنى غاب وذهب.

{حَاصِبًا}: الحاصب: من حصبه بالحجارة: أي رماه بها.

{قَاصِفًا}: كاسراً.

{تَبِيعًا}: مطالباً أو محاسباً.

* * *

مواجهة الحقيقة

وإذا كان الله وكيلاً وكافلاً لعباده، فكيف لا يستذكر العباد ذلك، وكيف يغفل البعض عن الله، فيرتبط في شعوره وإحساسه بالأمن، بالجانب الحسّي من الحياة، ولا يلتفت إلى أن الله الذي يمنح الإنسان النجاة في مظاهر الأمن الحسّي، قادرٌ على أن يسلبه ذلك في الموقع نفسه، لأن الله يحفظ الإنسان ويحرسه من حيث يحتسب أو لا يحتسب، ويهلكه من حيث يشعر أو لا يشعر، ما يفرض عليه أن يتعلق بالله في خوفه وأمنه، ولا يتعلق بمظاهر خلق الله، لأن الله هو الذي خلق أسباب الموت والحياة. وهذه هي الفكرة التي تعالجها هذه الآيات في أكثر من نموذجٍ من مواقع الحفظ أو الهلاك.

{رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} ويجريها فيه بقوانينه الطبيعية التي أودعها في الكون، في حركة الرياح التي تخضع لها حركة السفن في البحر.

{لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} في ما يرزقكم من رزقه الذي يسخره لكم في البحر، وما يوصلكم إليه من مواقعه في البر، عندما لا يكون هناك طريقٌ بريٌّ إليه.

{إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فقد أغدق عليكم من شآبيب رحمته في أصل الوجود وفي حركته، وهو يريد أن يوصلكم إلى النعيم في جنته ورضوانه في دار السلام.

{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} وثار الموج من كل مكان، واهتزت السفينة في قبضة الرياح الهائجة، وعشتم الخوف والهلع، ورأيتم الموت أمامكم ماثلاً في كل موجةٍ، وفي كل اهتزاز... فإلى من تتجهون بقلوبكم؟ ومن هو القادر على إنقاذكم؟ وكيف تتصرفون؟؟ فكّروا جيداً في هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله، هل ترون فيهم ملجأً من الخوف، ومهرباً من الموت؟ هل يملكون لكم نفعاً؟ فهم لو كانوا في مثل حالتكم لما استطاعوا إلى الخروج من هذا المأزق سبيلاً، بل يخافون كما تخافون، ويطلبون المدد من الغيب كما تطلبون، لأنهم عباد أمثالكم، يحملون مثلكم نقاط الضعف الذاتية، ولكنكم خدعتم أنفسكم بمظاهر القوة التي يملكونها، ولم تنفذوا إلى ما وراءها من عوامل الضعف، فعبدتموهم من دون الله، حتى واجهتم الحقيقة الآن. فماذا هناك؟

* * *

الله هو القوة المطلقة المهيمنة

{ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ} لقد ضاع كل هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء من دون الله، وتبخّرت كل صورهم وأشكالهم وظاهر قوتهم في الهواء، أمام قوّة الرياح وعسف الأمواج، وتحوّلوا إلى أشباح تتطاير في الخيال، ولا تملك أن تتماسك لحظةً في البال... لقد ضاع هؤلاء جميعاً، وبقيت الحقيقة الثابتة المشرقة التي مهما غفل الإنسان عنها فإنها تبرز من جديد، لتفرض نفسها على الفكر والشعور والوجدان، ولتؤكد وجودها في الحياة من موقع حاجتها إليها في كل لحظةٍ. لقد ضاع كل هؤلاء إلا إيّاه. هو القوّة المطلقة، الإله الخالق المهيمن على كل شيء، والقادر على كل شيء. إنك لن تحتاج إلى أن تلفظ اسمه لتعرفه، لأن كل كيانك يتجه إليه من دون جهد، بكل عفوية الحقيقة وبساطتها الماثلة في كل شيء، ولا يتجه إلى غيره، لأنه ليس هناك من يستطيع أن ينقذك من ضرّك غيره، ولكن الإنسان يبقى إنساناً في نسيانه وغفلته، فلا يحتفظ في وعيه بالحقائق التي تربطه بالعمق، بل يظل في مستوى السطح، حيث الذاكرة لا تحوي إلا الأمور الشخصية.

* * *

اللّجوء إلى الله مظهر للإيمان لا حالة طارئة

{فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} عن ذكره في ضمائركم، وانحرفتم عنه لأنكم شعرتم بالأمن على اليابسة التي تثبت أقدامكم في الموقع الصلب الذي تمتد صلابته إلى أعماق الأرض، فلا مجال للخوف من احتواء الأعماق لكم في ظلامها المميت، كما هو البحر الذي يشد الغريق إلى القعر، ولا يعلو به إلى السطح حتى يأخذ منه حياته. وتلك هي قصة الإنسان الذي لا يشده إلى الله عمق إيمانه، بل يربطه به خوفه من الحوادث المحيطة به، فيحتاج إليه في خلاصه منها، فإذا زالت الأحداث انقطعت صلته بالله. إن الإيمان لا يتنافى مع اللجوء إلى الله في حالة الخوف، بل يؤكده، ولكنه يريد أن يكون الالتجاء إليه مظهراً من مظاهر الإيمان، لا مجرد حالة طارئة سريعة تأتي مع الحدث وتذهب معه، ولا تترك أي تأثير في الداخل كما تتركه النعمة العظيمة في نفس المنعم عليه لصاحب النعمة، بحيث يتذكره في كل وقت، ويعترف بجميله، ويعمل على أن يشكره بكل وسائل الشكر القولية والعملية، لا سيما إذا كانت النعمة في حجم هذه النعمة التي تتحدث عنها الآية، وهي إنقاذ الحياة من أخطار الموت.

* * *

الارتباط بالأمور المحسوسة

{وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} بنعمة ربّه، لأنه يرتبط بالأمور المحسوسة في حياته الماثلة بأشخاصها أمامه، ولا يرتبط بالغيب الذي قد يكون حضوره في حياته أعمق من الحس المتحرك حوله. ولذا فإنه يحتاج إلى المزيد من المعاناة والتفكير والجهد في ممارسة الإيحاء الذاتي بالمفردات المتحركة في حياته في حال الخوف والأمن، والفقر والغنى، والراحة والتعب... التي تربطه بالله وتوحي له دائماً بحضوره ـ سبحانه ـ في حياته في الحالات الطبيعية، لأنه السبب الأعمق في الأشياء كلها... وتلمّس ظواهر الأمن في بعض الأشياء لا يعني عدم قدرة الله على أن يثير عناصر الخوف فيها من حيث لا يعرف، مما أودعه الله في الكون من خصائص الأوضاع المألوفة أو غير المألوفة.

* * *

دلالة الآية على وحدانية الله

وقد اعتبر علماء الكلام هذا المضمون المذكور في الآية دليلاً على وحدانية الله سبحانه، فالإنسان قد يخضع لحالة معينة كالإشراف على الغرق، بعيداً عن كل الوسائل التي تنقذ حياته، لكنّنا لا نراه يعيش اليأس القاتل والاستسلام الكلي أمام الموت الفاغر فاه ليلتهمه، بل نرى الأمل يتحرك في قلبه في قوّة وحيوية واخضرار، متعلقاً بوجود قوة قادرة رحيمة، وليس هناك معنى لذلك إلا أن هناك سبباً فوق الأسباب يرجع الأمر كله إليه، وهو الله ـ سبحانه ـ الذي تنطلق الفطرة من عمق الصفاء فيها، لتلتقي به وتكشف وجوده وحضوره في حياة الإنسان، ولكن الشوائب الطارئة، والزخارف المغرية، والأهواء العابثة، هي التي تحجب الفطرة عن الله، وتنتهي بالإنسان إلى الغفلة عنه.

{أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} فكيف تأمنون لصلابة الأرض التي تقفون عليها، وأنتم تعرفون مبلغ قدرته التي يزلزل بها الأرض، ويحول الجبال إلى تراب تذروه الريح. {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} يرميكم بالحجارة أو يقصفكم بالريح المهلكة في البر... فكيف تأمنون في البر من مكر الله ما لا تأمنونه في البحر، مع أن كل القوانين في البر والبحر طوع إرادته وقدرته؟!

{أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} فيرجعكم إلى البحر بسبب أو بآخر، {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ} يقصف السفن فيكسرها، {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} بالله وبنعمه. {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا}، وهو التابع الذي يتبع الشيء، فيتابع المسألة مع الله ليسأله لِم فعل هذا أو ليحاسبه على ذلك، لأن الله هو الأعلى الذي لا يقترب من جلاله شيء، ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.