تفسير القرآن
الإسراء / الآية 70

 الآية 70

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـات

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (70).

* * *

معاني المفردات

{كَرَّمْنَا}: فضلنا بكثير من المميزات.

* * *

الإنسان خليفة الله

لقد خلق الله آدم وأمر الملائكة بالسجود له، تحيّةً لهذا المخلوق الذي يتميز بصفات كماليّة، وذلك لما تختزنه الإنسانية في داخله من عناصر النموّ في سبيل الكمال، وخضوعاً لله الذي كان هذا الإنسان مظهر قدرته، وذلك لما يتميز به من عقلٍ ووعيٍ وقدرةٍ على الانفتاح على كل جوانب المعرفة التي تحتاجها الحياة في نموّها وتطوّرها وبلوغها إلى مستوى الأهداف التي أراد الله للإنسان تحقيقها، وما يملكه من قابلياتٍ يحركها في قيادة الواقع، والاستفادة من كل ما سخره الله له في الأرض والسماء، من أجل أن تتوازن الحياة في المواقع المتنوعة التي يحمل كل منها خصوصية للفكر وللعمل وللحياة.

ولم يكن آدم ـ بشخصه ـ موضعاً لهذا التكريم الإلهي، في حفلة الخلق الأولى، وفي حركة الوجود بعد ذلك، وفي امتداده في نطاق الزمن، بل كان آدم ـ الإنسان ـ النوع، في كل مظاهره النوعية وخصائصه الإنسانية؛ من العقل والعلم والقدرة على التنوع في الحركة في مجالات النمو والإبداع، هو سر هذا التكريم.

إنه سيّد الأرض، وحامل الرسالة، ومستودع علم الله الذي يريد للإنسان أن يحمله، وخليفته في إدارة النظام الكوني، بالمقدار الذي يستطيع ـ معه ـ أن يستوعب أسراره، ويملك حركته. وذلك هو الفرق بين الإنسان وبين الحيوان الذي يملك الحياة ويمارس بعض الدور فيها، ولكنه غير قادرٍ على التطوير والتنويع والحركة، لأنه خاضعٌ في حياته للفطرة الذاتية التي تتحرك وتقف بحساب دقيق، دون أن يملك القدرة على الخروج من هذه الدائرة، بل هو في كل حياته خاضعٌ للإنسان، مسخّرٌ له، وواقعٌ ـ في أغلب مجالاته ـ تحت سلطته. أمَّا الجن، فقد يملك بعض الخصائص العقلية، التي نعرفها من خلال مسؤوليته أمام الله عن الإيمان وعن الحركة في اتجاهه، ولكنه ـ على ما يبدو ـ لا يملك هذا النوع من القدرة على الإبداع الذاتي، أو الاختزان الروحي للمسؤولية، ولذا كان الإنسان هو الرسول الذي أرسله الله من أجل أن يهديه ويرشده ويخطط له طريق الهدى، كما حدثنا القرآن عن ذلك في سورة الجن.

وإذ كانت هناك بعض العقائد التي توحي بالقدرة الخارقة التي تمكّن الجن من السيطرة على الإنسان والضغط عليه، وتجميد عقله، وإرباك حياته، وتعقيد مشاعره، وإثارة أعصابه، فإنها لا ترجع إلى أساسٍ علميٍّ أو دينيٍّ موثوق به، بل هي مجرد انطباعاتٍ واستنتاجاتٍ يحملها الناس من خلال الثقافات المشوشة، التي تفرض نفسها على الذهن، حتى تحوّله إلى ما يشبه العقائد الموروثة.

وقد يكفي في قيمة الإنسان أمامه، أن الله حمله مسؤولية إدارة الحياة وحده، من خلال عقله وإرادته وإمكاناته المنفتحة على كل جوانب المسؤولية في الحياة، ولم يحملها لأحد غيره.

* * *

تكريم الإنسان في الأرض

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ} في تلك الخصائص الذاتية التي يستطيع من خلالها اكتساب خصائص أخرى، تضيف إلى عقله عقلاً جديداً، وإلى علمه علماً منفتحاً، وإلى حركته في الواقع قوّةً جديدةً... وقد استطاع الإنسان، على مر العصور، في نماذجه العليا المتمثلة بالرسل والأئمة والأولياء، وفي بقية النماذج المتنوعة في طاقاتها، أن يكون في المستوى الكبير في تحريك هذه الطاقات، وفي الوصول بالمعرفة إلى عوالم جديدة، لم يكن له عهدٌ بها من قبل، وفي إدارة الحياة على طريقةٍ مبدعةٍ، توحي بالعمق والسموّ والامتداد، في ما تعبر عنه من حركة العقل والمعرفة والإرادة.

وإذا كانت هناك سلبياتٌ كثيرة على مستوى الانضباط في خط المسؤولية، وذلك من خلال مظاهر الانحراف عن إرادة الله التشريعية في كثير من الأعمال والأوضاع، فإن هناك إيجابياتٍ كثيرةً، على مستوى الإبداع في استخراج دفائن الأرض، واكتشاف آفاق السماء، والتحرك على أساس إدارة المعرفة في خدمة الحياة، من خلال ما أراد الله له أن يفجره من أسرار الكون لخدمة الإنسان والحياة.

* * *

هل التكريم أصلٌ فقهيّ؟

وقد يخطر في البال، أن لا يكون هذا الإعلان عن تكريم الله لبني آدم مجرد حديث عما أفاض الله على الإنسان من ألطاف التكريم التكويني في طبيعته ودوره في الحياة، بل يتعدّاه إلى الخط التشريعي الذي يوحي بكرامة الإنسان كأصلٍ من أصول النظرة القرآنية إليه، بحيث تؤكد كل تصرّف يكرّس كرامته، وترفض كل ما يؤدي إلى إهانته من موقعه الإنساني، بعيداً عن العناوين الثانوية التي قد تجيز إهانته والتعدي على حرمته، على أساس بعض الأوضاع أو الصفات أو الانتماءات المنحرفة عن خط الله... فتكون لنا من خلال ذلك قاعدةٌ شرعيةٌ، هي احترام الإنسان في نفسه وماله وعرضه، كأصلٍ إسلاميٍّ فقهيٍّ، لا يجوز الخروج عنه إلا بعنوانٍ آخر مخصّصٍ له.

وقد يكون الأساس في استيحاء هذا الأصل الفقهي من الآية، هو أن الله إذا كرّم بني آدم في إعدادهم التكويني والعملي، فإننا نستفيد من ذلك أنه يريد لهم أن يؤكدوا هذه الكرامة على مستوى وجودهم الحياتي وفي علاقاتهم الاجتماعية التي تحكم تصرف كل واحد منهم تجاه الآخر، سيما وأن التصرف السلبي المخالف لذلك يتنافى مع خط الكرامة الإلهية للإنسان، لأنه ينتهي إلى الإهانة لمن يريد الله احترامه.

أمّا ما ثبت في الشرع من جواز التعدّي على أنفس بعض الناس وأموالهم وأعراضهم، فلأنهم أهدروا احترام إنسانيتهم بالانحراف عن الخط، الذي أراد الله لهم أن يحترموا أنفسهم ودورهم فيه، فابتعدوا عن مواقع الكرامة باختيارهم، فلا مجال لاحترامهم بعد ذلك..

وقد نستطيع استيحاء النظرة الإسلامية إلى بعض الأعمال التي يقوم بها المستضعفون في بعض البلاد، كالهند ونحوها، من جر العربة التي يركبها الناس مكان الحصان أو الدابة التي تقوم بذلك، فنرى أنها أمور تتنافى مع مظهر الكرامة الإنسانية، وأمثال ذلك من الأوضاع السلبية الموجودة في أكثر من مكان.

إننا نريد إثارة هذه المسألة، لما يترتب عليها من آثارٍ شرعيّةٍ عمليّةٍ، ولما تثيره من مفهوم إسلاميٍّ أصيلٍ حول الخط الإنساني في الإسلام. وإننا نستقربه من ناحيةٍ علميةٍ على أساس الاستيحاء الاستظهاري من الآية. وعلى ضوء هذا، فإننا لا نجد ضرورةً للبحث عن أساس لاحترام الإنسان من خلال عنوان معين، بل يكفي عدم وجود عنوانٍ آخر مضادٍّ لذلك حسب الأدلة الخاصّة. وندعو إلى مناقشة هذا الرأي من ناحيةٍ تفسيريةٍ وفقهيةٍ.

{وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فسخرنا لهم قطع البراري والقفار، وتسلق الجبال، وركوب البحار بالوسائل التي أعدّها الله للركوب، أو التي ألهم الإنسان لمعرفتها والقيام بصنعها، للتخفيف من عناء التنقل وحمل الأثقال، واختصار الزمن، والوصول إلى الغايات الكبرى في الحياة من أقرب طريق. وهذا مظهر حيٌّ من مظاهر تكريم الله للإنسان، لأنه لا يريد له الوقوع في الجهد والمشقّة التي تثقل وضعه وتعطّل كثيراً من حركته في الوجود.

{وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} في ما يأكلون ويشربون ويتلذذون ويستمتعون ويلبسون أو يسكنون، ليعيشوا الحياة في رخاءٍ ورفاهيةٍ وراحةٍ، بعيداً عن الضيق والتعب وشظف العيش.

{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} كالحيوان والجنّ، اللذين يعيشان في الأجواء التي يعيش فيها بنو آدم، والتفضيل لا يأتي عبثاً بل يعود لقابلية الإنسان، وللدور الذي أعدّه الله للإنسان في مسؤوليته عن الحياة، وعن المخلوقات الموجودة فيها، كما ألمحنا إلى ذلك في صدر تفسير الآية.

* * *

هل الإنسان أفضل من الملائكة؟

ويردُ هنا سؤالان حول هذه الفقرة:

الأول: هل الآية تشمل الملائكة، ليكون الإنسان أفضل منهم، أو أن الآية لا تتعرض لهم، فلا تدل على الموقف منهم، فيرجع البحث في تقرير الوجه في المسألة إلى الآيات الآخرى أو الأحاديث المتصلة بالموضوع.

وقد ذكر صاحب الميزان أن الغرض من الآية «بيان ما كرّم الله به بني آدم وفضَّلهم على سائر الموجودات الكونية، وهي ـ في ما نعلم ـ الحيوان والجن، وأما الملائكة فليسوا من الموجودات الكونية الواقعة تحت تأثير النظام المادي الحاكم في عالم المادة»[1].

ولكننا لا نجد للآية ظهوراً في ذلك، لا سيما إذا لاحظنا أن القرآن الكريم يتحدث عن الملائكة في أجواء الحديث عن الإنسان، سواء في بداية الخليقة عند خلق آدم، أو في بعض المجالات التي يتحدث فيها عن فكرة الملائكة في وعي الناس ودعوى أنهم بنات الله، أو أن المفروض في الرسول أن يكون ملكاً، ما يجعل من الكلمة {مِّمَّنْ خَلَقْنَا} لا تبتعد عن أجواء الملك كما لا تبتعد عن أجواء الجن والحيوان. وإلاّ فمن الممكن أن يقول قائل بأن الآية تتحدث عن المخلوقات المنظورة التي تعيش في الجانب الحسي من حياة الإنسان، فلا تشمل الجن لأنهم لا يتحركون في المحيط المألوف للإنسان، وإن كانوا يتحركون في وعيه من خلال العقائد التي يحملها الناس عنهم حقاً أو باطلاً.

وقد ذكر بعضهم أن الآية تدل على أن الملائكة أفضل من الإنسان حتى الأنبياء(ع) قال: لأن قوله تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا} يدل على أنّ ها هنا من لم يفضلهم عليه، وليس إلا الملائكة، لأن بني آدم أفضل من كل حيوان سوى الملائكة بالاتفاق.

ولكن هذا الوجه غير ظاهر من الآية، إذ المذكور، في هذا الوجه، مجرد استنتاج، ويمكن المناقشة فيه، على أساس أن التفضيل على الكثير، لا ينفي وجوده بالنسبة إلى غيرهم، ويمكن أن يكون الأمر على سبيل التساوي بينه وبين الملائكة. فلا دلالة ـ في الآية ـ على المسألة سلباً أو إيجاباً.

أما الموضوع في ذاته، فقد لا يكون فيه فائدةٌ مهمةٌ فكرياً وعقيدياً وعملياً، لأنه من الأمور التي لم يكلفنا الله الاعتقاد بها، وليس لها علاقة بحياتنا العامة. وقد أفاض العلماء والمفسرون في تحليل المسألة من خلال العمق الفلسفي، الذي يحاول أن يجد في حرية الإرادة الإنسانية بين الخير والشر، أساساً لتفضيل الإنسان على الملك، لأنه يتحرك في الخير من موقع الاختيار، بينما الملك مطبوعٌ عليه. وبذلك انفتح بابٌ آخر للخلاف يتصل بجانب الثواب الذي يحصل عليه الملك، لأنه لم يكن نتيجة إرادته في العمل، ما لا يجعل له فضلاً يؤكّد استحقاقه... وغير ذلك من الأبحاث التي تدخل في الفكر التجريدي الذي لا يؤدّي إلى نتيجة، كما هو الكثير من أحاديث التفضيل التفصيلية بين الأنبياء، مما أثار القرآن بعض الحديث فيه لمناسبات معينةٍ تتصل ببعض مظاهر النبوّة، أو الأحاديث عن تفضيل الإنسان على المخلوقات التي أريد فيها تأكيد النعمة عليه ليشكر ربه على ذلك، ولينطلق من هذا الموقع، من أجل التكامل في مدارج الكمال... ولغير ذلك مما يتصل بحركة الإنسان في الحياة وموقعه من الله في تعامله معه، بعيداً عن مسألة التصور المجرّد الذي يراد ـ من خلاله ـ إثارة الزهو التجريدي بالمسألة على أساس ذاتيٍّ. ولكننا ـ في خاتمة المطاف ـ قد نحتاج إلى الإشارة إلى الآيات التي ذكرها الله سبحانه في بداية الخليقة، في حواره مع الملائكة حول خلق الإنسان واعتباره خليفةً له، وقدرته على وعي المعرفة بالأسماء كلها بما لا يقدر عليه الملائكة، أو بما اختصه الله به من دون الملائكة. ثم أمر الملائكة بالسجود لآدم بصفته الإنسانية، لا بصفته الذاتية، كما يظهر من ردّ فعل إبليس الذي فهم المسألة من خلال النوع لا من خلال الشخص، ولذا وجه الانتقام إلى ذرية آدم.

إن هذه الآيات قد توحي بأن للإنسان دوراً في الخليقة لا يقترب الملائكة منه، ما يجعل له بعض التميّز عليه، وإن كانت المسألة لا توضح تفضيله عليهم من ناحيةٍ شموليةٍ؛ والله العالم.

السؤال الثاني: ما الفرق بين التكريم الذي جاء في أوّل الآية، وبين التفضيل الذي جاء في آخرها، فهل هو واردٌ على سبيل التأكيد، أم أن هناك فرقاً معنوياً بينهما؟

وقد أجيب عن ذلك بأجوبة كثيرة، والظاهر أن كلمة التكريم واردة على أساس النظرة إلى طبيعة الخصائص الذاتية التي خلقها الله فيه، باعتبارها مظهراً لكرامة الله وإعزازه له، بعيداً عن تفضيله على غيره، إذ لا مانع من أن يكرم الله غيره بما أكرمه به أو بما يماثله في ذلك.

أما التفضيل، فهو ناظر إلى المقارنة بين ما وهبه الله له وبين ما وهبه لغيره لإثبات جانب الامتياز فيه، وبذلك كان أحدهما يكمّل الآخر في المعنى، ولا يكتفي بتأكيده له؛ والله العالم.

ــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج :13، ص:154.