تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 71 إلى الآية 72

 من الآية 71 الى الآية 72

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيـتان

{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَأونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً* وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخرةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (71ـ72).

* * *

معاني المفردات

{بِإِمَامِهِمْ}: أي بمن اتبعوه وائتمّوا به.

{فَتِيلاً}، الفتيل: ما كان في شق النواة.

* * *

من هو الإمام؟

{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} إشارة إلى الموقف يوم القيامة، الذي يواجه الإنسان فيه المسؤولية أمام الله، وذلك في ما تمثله كلمة الإمام من المضمون الكامن في العنوان الذي يشير إلى طبيعة العمل الإنساني ووجهته في خط المصير.

وقد اختلف المفسرون في تفسير كلمة «الإمام» في الآية في وجوه عديدة ـ كما في مجمع البيان ـ.

الأول: إن المراد به النبيّ، باعتبار أن كل نبي هو الإمام لأمته ولأتباعه.

الثاني: الكتاب المنـزل من الله، كالتوراة والإنجيل والقرآن والزبور، باعتبار أن المؤمنين به يتبعونه في أوامره ونواهيه وجميع تعاليمه.

الثالث: الشخص الذي يؤتمّ به من الأئمة والعلماء.

ويجمع هذه الأقوال ـ في ما ذكره في المجمع ـ ما رواه الخاص والعام عن الرضا علي بن موسى (ع) بالأسانيد الصحيحة، أنه روى عن آبائه (ع) عن النبي (ص) أنه قال فيه: يدعى كل أناس بإمام زمانهم، وكتاب ربهم، وسنة نبيهم. وروي عن الصادق (ع) أنه قال: ألا تحمدون الله، إذا كان يوم القيامة فدعا كل قوم إلى من يتولونه، ودعانا إلى رسول الله (ص)، وفزعتم إلينا، فإلى أين ترون يذهب بكم؟ إلى الجنة ورب الكعبة. (قالها ثلاثاً).

الرابع: إن معناه بكتابهم الذي فيه أعمالهم[1].

ولعلّ المنصرف إلى الذهن في فهم الآية ـ لأوّل وهلة ـ هو المعنى الأخير، بقرينة ما بعده من تفصيل الكلمة من حيث طبيعة الكتاب ومضمونه. ولكننا نعتقد أن الأقوال الثلاثة لا تبتعد عن ذلك من حيث المضمون، أو من حيث الالتزام والإيحاء، لأن من الطبيعي أن الأعمال التي يتضمنها الكتاب هي الصورة الملائمة أو المخالفة لتعليمات النبي، وللكتاب الذي جاء به، ولكلمات الإمام أو العالم أو المرشد، باعتبارهم يتحدثون بكلام الله وكلام نبيّه. وعلى ضوء هذا، فإن مفهوم هذه الفقرة من الآية، أن الله ينادي كل قومٍ بالرمز الذي كانوا ينتمون إليه، ويأتمّون به في الحياة، من نبيٍّ وكتابٍ ومرشدٍ، في ما يتضمنه من خطوط وتعاليم وإرشادات، ليكون ذلك حجّةً لهم أو عليهم، في ما يشتمل عليه كتاب الأعمال من خير أو شر. وربما كانت كلمة الإمام أوفق بالوجوه الثلاثة، بقطع النظر عن القرينة التي ذكرناها، لأنها مأخوذة من الموقع المتقدم الذي يتبعه الإنسان ويسير خلفه، أمّا إطلاقه على كتاب الأعمال، فعلى أساس العناية التشبيهية، باعتبار أنه يمثل حركة المصير الأخروي الذي يسير الإنسان وراءه، لأنه هو الذي يحدّد له خط السير هناك.

* * *

كل يرى عمله

{فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَأونَ كِتَابَهُمْ} ويقبلون عليه بشغف ولهفة ويدققون في كل تفاصيله بشوق ومحبّة، لأنهم يعرفون من خلال ذكريات الدنيا كيف كانت أعمالهم منسجمةً مع خط الحق الذي جاء به النبي عن الله، ودعا إليه الأئمة والعلماء، ويعرفون أن الله لا يضيع عمل عامل منهم من ذكر أو أنثى، {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ولا ينقصون منها شيئاً، حتى بمقدار الفتيل، وهو المفتول الذي في شق النواة، أو في بطنها، في ما يمثله ذلك من الشيء الدقيق الخفيّ.

{وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى} وهو الذي لم ينطلق في حياته من مواقع النور التي جاء بها الكتاب المنزل من قبل الله، أو التي بشر بها وخطط لها الرسول (ص) ودعا إليها الإمام أو المرشد، بل اتبع ـ في خطواته العملية ـ هواه، وهوى الناس الذين يضلونه من دون الله، ويخططون له الخطط الفكرية والعملية في اتجاه الضلال، فكان يتخبّط من زاويةٍ إلى أخرى، ويصطدم بجدارٍ هنا، وآخر هناك، ويتيه في متاهات الأفكار والأوهام التي لا تؤدي به إلى هدفٍ واضحٍ قويمٍ. وهكذا كان مثله مثل الأعمى الذي لا يرتكز في خطواته على وضوح الخط وإشراق الرؤية، لأن الهوى النفسي لا يمثل الخط الواحد الذي يحدد البداية والنهاية، بل يمثل الخطوط المتحركة التي تختلف في كل وقتٍ تبعاً للمزاج بين يمين ويسارٍ ومتعرّجات ملتوية، بينما يمثل الهدى الإلهي والنبويّ والقياديّ الملتزم، النور الذي يتحرك في الفكر فيبعث فيه الإشراق في الفكرة والوضوح في الرؤية، ويتحرك في القلب، فيبعث فيه النور في النبضات والخفقات والمشاعر، فلا يتصل إلا بمواقع النور الروحية في الحياة، وينطلق في الحياة فيخطط للطريق ليحدد كل مواقعه في خط البداية والنهاية وعلامات السير، ويفتح في كل جانبٍ من جوانبه باباً يطل على النور من أوسع الآفاق، ويشير إلى الخطوات كي تتحرك في مواقع النور حيث الرحابة في الأفق وفي الأرض... وهكذا تكون المواقع في الدنيا هي التي تحدد المواقع في الآخرة، فمن كان سائراً في خط الهدى، فإنه سيسلك ـ في ساحة الآخرة ـ الطريق الواضح المستقيم الذي يؤدي به إلى الجنة، ومن كان متخبطاً في عماه الفكري والروحي والعملي في الدنيا، وسائراً في طريق الضلال، {فَهُوَ فِي الآخرةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}، لأنه سوف يجد أمامه النار التي تقوده إلى المصير الأسود، الذي لا ينتهي إلى أمد معين في نطاق الزمان.

ـــــــــــــــــــــ

(1) راجع: مجمع البيان، ج:6، ص:555.