تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 73 إلى الآية 75

 من الآية 73 الى الآية 75

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً* إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} (73ـ75).

* * *

معاني المفردات

{لَيَفْتِنُونَكَ}: ليصرفونك.

{لِتفْتَرِيَ}: لتخترع.

* * *

مناسبة النزول

وقد ذكر المفسرون في هذه الآيات عدة روايات في مناسبة النزول، (منها) أن قريشاً قالت للنبي(ص): لا ندعك تستلم الحجر حتى تلمَّ بآلهتنا. فحدّث نفسه وقال: ما عليّ أن ألمّ بها، والله يعلم إني لكاره لها ويدعوني أستلم الحجر. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

(ومنها) أنهم قالوا له: كفّ عن شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا، واطرد هؤلاء العبيد والسقاط الذين رائحتهم رائحة الصنان، حتى نجالسك ونسمع منك . فطمع في إسلامهم، فنزلت الآية.

(ومنها) أن رسول الله (ص) أخرج الأصنام من المسجد، فطلبت إليه قريش أن يترك صنماً على المروة، فهمّ بتركه ثم أمر بعد بكسره، فنزلت الآية.

(ومنها) أن وفد ثقيف قالوا: أجّلنا سنة، حتى نقبض ما يهدى لآلهتنا، فإذا قبضنا ذلك، كسرناها وأسلمنا. فهمَّ بتأجيلها، فنزلت الآية[1].

وإننا نحب أن نلاحظ أن هذه الروايات لا تقدّم إلينا الصورة النبوية المشرقة، المتمثّلة في شخصية النبي (ص) الرسالية الواعية لطبيعة السّاحة وشخصياتها والأساليب الملتوية التي يتبعونها، بل تُقدِّم إلينا صورة النبي الذي يضعف أمام الأساليب الساذجة التي كانوا يحاولون خديعته بها. إلاّ أنّ المسألة لا تكمن في البحث عن عصمته في حركة التبليغ، ليتحدث المتحدثون بأن ذلك لا ينافي العصمة، إذ إنّه لم يقدم لهم تنازلاً على حساب الرسالة، بل كان يحاول تجميد بعض الأساليب العملية لحساب الرسالة، من أجل تسهيل مهمة دخولهم في الإسلام، كي يترك بعض الأشياء القاسية ضدهم، حتى ينفتحوا عليه وعلى الإسلام... ولكن المسألة هي مسألة الشخصية الضعيفة التي تقدمها إلينا الروايات.

ونحن لا نمانع من أن يكون القرآن هو السبيل الذي كان الله يريد ـ من خلاله ـ أن يحدِّد للنبي خطواته العملية، فيثبّت له مواقفه، ويحدّد له مواقعه، ويربّيه على أساليب الحركة في الدعوة والجهاد، لتتكامل له التجربة والمعرفة على هذا الأساس القرآني، لأن دور القرآن ـ في الإسلام ـ في تدريجية نزوله، هو دور الكتاب الذي يلاحق الدعوة الإسلامية في بداية انطلاقها وحركتها قبل الهجرة في أجواء الدعوة والتبليغ، وفي حركتها الفاعلة المتحدية المحاربة في أجواء التحدي والمواجهة.

إلاّ أن النبي كان هو القائد الرسالي، الذي يثبّت المواقف في مواقع الاهتزاز، فلا يمكن أن يعيش الاهتزاز في مواقع العمل، كنتيجة لبعض الأساليب الملتوية التي يثيرها المشركون معه، لأن ذلك سوف يضعف موقفه عندهم وعند المؤمنين به. ولذا فإننا نستبعد هذه التفسيرات للآية.

وهناك ثغرات أخرى:

(منها) أن الآية مكية، بينما تتضمن بعض هذه الروايات حوادث مدنية، كتكسير الأصنام الذي كان بعد فتح مكة، ومجيء وفد ثقيف إليه في المدينة كان بعد الهجرة، لا قبلها في مكة.

(ومنها): أنها لا تنسجم مع مضمون الآية، الذي يوحي بأن المطلوب منه أنه يكذب على الله في التبليغ، فيفتري عليه غير ما أنزله عليه من وحي، بما يُحدثه من آيات شخصية، تتوافق مع طريقتهم في التفكير وفي الخط العملي، بينما تتحدث هذه الروايات عن تجميد بعض أساليبه في المواجهة، أو بعض ممارساته العملية، أو إمهال البعض في الدخول في الإسلام، وما شابه ذلك، مما لا يدخل في أيّ لونٍ من ألوان الافتراء على الله، في الكلمة أو في المضمون أو في توجيه العمل إلى غير وجهته.

* * *

النبيّ الصادق الأمين

وهذا حديثٌ عن الأساليب التي كان المشركون يمارسونها مع النبي (ص)، من أجل الانحراف به عن الخط الصادق في تبليغ وحي الله إلى الناس بكل دقّة من دون زيادةٍ أو نقصان. فقد كان الصادق الأمين الدّقيق في قول الحق والانسجام معه، مهما كانت طبيعة هذا الحق الذي يريد نقله إلى الناس، من ناحيةٍ مضمونيةٍ أو عاطفيةٍ أو ذاتيةٍ، فكيف لا يكون صادقاً في كلام الله؟! ولكن المشركين كانوا يجادلونه كي ينحرف عما أنزله الله، ليسلك اتجاهاً آخر في كلمات يصوغها لتقترب من أفكارهم. وكانت المحاولة تفشل، ولكنهم ـ على ما يظهر ـ لم يتراجعوا، بل كانوا يصرّون على تجديد المحاولة، بتغيير الأساليب التي تخاطب فيه الجانب العاطفي الحميم، وكانوا يعملون على الضغط عليه بواسطة أقربائه، ومنهم عمه أبو طالب الذي كان السفير بينه وبينهم، ولكن النبي لم يتراجع عن موقفه، بل تابع الصلابة في الموقف، إلى جانب المرونة في الأسلوب بالكلمة الحلوة واللفتة والنظرة، والبسمة والحركة، من دون أن يقدم أيّ تنازلٍ، وذلك ما توحي به الكلمة الحاسمة التي قالها لعمه (أبي طالب):

«والله ـ يا عم ـ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».

* * *

كيف نفسر الآية؟

ذكر صاحب تفسير الميزان، عن عيون أخبار الرضا، بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم، عن أبي الحسن الرضا (ع)، أن المأمون سأله: أخبرني عن قول الله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] قال الرضا(ع): هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله بذلك نبيه، وأراد به أمته، وكذلك قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] وقوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} قال: صدقت يا بن رسول الله[2].

وعلى ضوء هذا، فإن الجواب عن المشكلة، أن النبي (ع) ليس هو المعنيّ بالأمر الذي تضمنته الآيات، بل المعني به هو المسلمون، في ما يواجههم من أساليب الكفار بالانحراف عن الخط المستقيم للحصول على محبتهم وصداقتهم.

ولكن لا بد لنا من التأمُّل في هذه الآيات، لندرس طبيعة الأسلوب الذي جاءت به، للوصول إلى هذا الخطاب للأمة من خلال النبي، فنلاحظ أن الآية الأولى قد أثارت وجود أساليب مؤثّرة، لفتنة النبي(ص) عما أوحى الله إليه، وهي أساليب توحي بقوّتها وتأثيرها بالمستوى الذي يمكن له أن يضغط على المشاعر والأفكار، التي لا تعيش الالتزام العميق بالرسالة، والثبات الصلب على المبدأ، والوعي المنفتح على الأساليب الملتوية المحيطة به، لذا يمكن أن تكون واردةً في مقام تصوير الحالة في ذاتها، من خلال طبيعة العناصر الموجودة في داخلها، بقطع النظر عن خصوصية الشخص الذي توجّه إليه، في ما يملك من قوّة ذاتية مميّزة، وذلك للتنبيه على أن الكفار يمكن أن يثيروا أمام الداعية إلى الله بعض الأساليب الساحرة المثيرة، التي تضغط على مشاعره وأفكاره بطريقة لا شعورية، ما يفرض عليه أن يحترس من ذلك باللجوء إلى إيمانه وعقله، ليأخذ منهما الوعي الذي ينفتح على المسألة من موقع العمق لا من موقع السطح. فهي تعالج الحالة من مواقع النظر إلى الإنسان في طبيعة مواجهته للأسلوب في ذاته، ولذلك تحدثت عن تثبيت الله للنبي، الذي لولاه لتأثّر بتلك الأساليب. ومن الطبيعي أن التثبيت لم يكن حالةً طارئةً، كما توحي به الروايات التي تضمنت نزول الآية للتحذير من هذه الحالة، مع أن الظاهر هو أنها جاءت إخباراً عن حالةٍ سابقةٍ، بل كان التثبيت ناشئاً من قوّة الإيمان في شخصيته التي أودعها الله فيه من خلال لطفه ورعايته له، الأمر الذي يوحي للداعية المسلم أن يكون حذراً في مواجهة أساليب الإغراء والتخويف التي تمارس معه أو ضده، لئلا يسقط أمامها بطريقةٍ غير إراديّةٍ.

* * *

إغراء النبي لتقديم التنازلات

{وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ}، فيواجهونك بالأساليب التي تثير الاهتزاز والانحراف في مسيرتك، {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} ليصرفوك عنه، {لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} لتزيد فيه، فتقول علينا ما لم نقله ولم ننزله إليه، {وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} وصديقاً، لانسجامك معهم واستجابتك لهم، كما ينسجم الإنسان مع صديقه ويستجيب له. وهذا هو الأسلوب الإغرائي الذي يحاولون من خلاله أن يستميلوا النبي أو الداعية في ما يمكن أن يحققه من نتائج، أو يبلغه من غايات. وهذا ما نجده في الأساليب المتبعة في واقعنا، فالدعوات الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية التي تريد أن تؤكد امتدادها في الساحة، توحي للآخرين بأساليب المودّة الحميمة من أجل تقديم بعض التنازلات هنا، وبعض المواقف هناك، ليكون ذلك سبيلاً للاستفادة منهم في بعض المواقف والأهداف، باعتبار أن الأجواء الحميمة تستطيع أن تحقق للإنسان ما لا تحققه الأجواء الفكرية من نتائج على صعيد الأهداف. وهذا ما يجب أن يتنبّه له العاملون في سبيل الله، لأن هؤلاء لن يفتحوا قلوبهم لهم حتى يكونوا معهم في كل شيء، ولن يحصلوا منهم على شيءٍ بهذه الطريقة.

* * *

ماذا توحي لنا الآية؟

وقد نستطيع استيحاء قاعدة عامة من أجواء الآية، وهي أن الإسلام لا يريد للمسلم أن يفكر بالصداقة بطريقة ذاتية، بل يريد له أن يفكر بها ويمارسها على أساس اتصالها بالخط الفكري والعملي له، بحيث لا تؤثّر عليه تأثيراً سلبياً من أيّة جهة كانت، لأن الله يريد من المؤمن أن يخلص له ولرسوله ولدينه، أكثر من إخلاصه لأي شخص، فالإيمان يتحرك في الجانب الشعوري من شخصية الإنسان، كما يتحرك في الجانب العقيدي والعملي لديه.

{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} إنها العصمة الإلهية التي وضعت في شخصيتك الخصائص الفكرية والعملية التي تمنعك من التأثُّر بأيّة حالة من حالات الخديعة والإغراء والانحراف... ولولاها لكان لهذه الأساليب، التي أثاروها أمامك، تأثيرٌ كبيرٌ على شخصيتك كإنسانٍ، لأن الإنسان يتأثر بالأساليب العاطفية التي تخاطب فيه العاطفة، وتثير لديه حالات الانفعال. ونلاحظ أن الآية عبّرت بكلمة «كدت» التي تعني القرب والدنوّ، ما يوحي بأن الثبات سابقٌ عليها، وأن المسألة تتصل بالأسلوب في قرب التأثير.

{إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي ضعف العذاب في حال الحياة أو الموت، أي لو أنك ركنت إليهم، لعذبناك ضعف ما نعذب به المجرمين في حياتهم، وكذلك بعد مماتهم، أي في الدنيا والآخرة.

{ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} ينصرك منا ليخلّصك من العذاب الأليم.

ـــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:6، ص:557 ـ 558.

(2) تفسير الميزان، ج:13، ص:174ـ175.