تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 78 إلى الآية 79

 من الآية 78 الى الآية 79

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتـان

{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّليْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا* وَمِنَ الَّليْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} (78ـ79).

* * *

معاني المفردات

{لِدُلُوكِ}: لزوال.

{غَسَقِ الّلَيْلِ}: ظهور ظلامه.

{وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ}: صلاة الصبح.

{فَتَهَجَّدْ}: تيقّظ واسهر تاركاً النوم.

{نَافِلَةً}: زيادة.

* * *

الصلاة منبع للقوة المتجددة

{أَقِمِ الصّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}. ويبقى للصلاة دورها الأساس في التعبئة الروحية، التي تمد الرسول بالإمداد الروحي المنفتح على الله ـ سبحانه ـ في مناجاةٍ حبيبةٍ للروح، شهيّةٍ للفكر، عميقة الإحساس في القلب والوجدان. وهذا ما نستوحيه من الكلمة المأثورة عن النبي في ما حُبِّب إليه من دنيا الناس، حيث روي عنه أنه قال: «حبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة»[1]. وهذا ما يوحي باللذة الروحية التي يعيشها في ذاته، من خلال هذا اللقاء الروحي بالله، فتقرّ عينه، ويرتاح قلبه، وتصفو روحه، وتتساقط المشاكل في هذه الأجواء الرحبة، فلا تتحول إلى عقدةٍ يتأزّم فيها الفكر والشعور، بل تتحوّل إلى قضيّةٍ تتحرك في خط المسؤولية التي يعيش فيها الإنسان رسالية الفكر، وتفاؤل الحل، وامتداد الحياة.

إنها القوة المتجددة المتحركة، التي يعيش معها الإنسان الحضور الإلهي في روحه وقلبه وفكره وحياته، فيخضرُّ في داخله الأمل، ويُعشب فيه الفكر، وتتفايض في حياته ينابيع الخير، وتنساب في مشاعره نبضات المحبة، وتتحرك في قلبه خفقات الرحمة، وتلتقي في خطوات حياته مواقع المسؤولية. وهكذا كانت الصلاة وسيلةً حيّةً من وسائل التنمية الروحية، والتعبئة الوجدانية، في أجواء الإنسان في حركة الحياة.

وهذا ما أراد الله إثارته في وعي الرسول ـ بصفته الإنسان المسلم الأول ـ والسائرين في خطاه، أن يقيم الصلاة في جميع أوقات اليوم، كي تحتوي الزمن كله، فلا يبتعد الإنسان عن الله في وقتٍ، حتى تأتيه الصلاة لترجعه إليه في وقتٍ آخر، وبذلك لا يخلو ذهنه من الله في أيّة لحظة، لأن عمق المسؤولية المتصلة بالله، تفرض تنمية هذا الحضور الدائم في وعيه ووجدانه، فتتحرك التوبة لتطوِّق المعصية، وتنطلق الاستقامة لتواجه الانحراف، ويتفجر النور ليهزم الظلام... وهكذا حتى يستطيع هذا الإنسان أن يغيِّر نفسه، ويطوِّر حياته بين يدي الله.

وهكذا كان الله يريد للإنسان أن يقيم الصلاة عند دلوك الشمس، المفسَّر بالزوال لدى بعض، أو من لدن زوالها إلى غروبها لدى بعضٍ آخر، لتحدِّد له صلاة الظهر والعصر... وربما فسّرها ثالثٌ بالغروب. وحاول بعض أن يفلسف المسألة في التفسيرين الأولين بأن أصله من الدلك، فسمي الزوال دلوكاً لأن الناظر إليها يدلك عينيه لشدّة شعاعها، وفي التفسير الثالث، أن الغروب سمي دلوكاً لأن الناظر يدلك عينيه ليتبينها، كما ورد في مجمع البيان[2].

ولكن الظاهر هو التفسير الأول، لأن الثالث، يعني عدم التعرض لصلاة النهار، فلا تكون الآية شاملةً لأوقات الصلاة كلها.

أمّا غسق الليل، فهو ظهور ظلام الليل، أو شدّته، وهو الذي يتمثل في منتصفه، وبذلك تكون متعرضةً ًلصلاة المغرب والعشاء التي تمتد إلى ذلك الوقت.

{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الفجر، باعتبار أن الصلاة تمثل الجوّ القرآنيّ لما تشتمل عليه من القرآن الذي هو روح الصلاة، ذلك أن القراءة هي التعبير التفصيلي عن الأجواء الروحية والفكرية والشعورية التي تثيرها الصلاة في نفس المسلم المؤمن، من خلال سورة الفاتحة، والسور الأخرى التي تتلوها، لا سيما سورة التوحيد، في ما تجسده للإنسان من التصور العقيدي الذي يلتقي بالله في توحيده، وشمول ربوبيته للعالمين، وإفاضة رحمته على الناس كلهم، وسلطته المطلقة على الطرق التي تحتاج إلى الهادي من الداخل أو الخارج. وبهذا ينطلق الخضوع في الرّكوع والخشوع في السجود، والاستسلام في الموقف وفي كل حركات الصلاة، ليكون نتيجةً لما عاشه الإنسان في القراءة فكراً ووجداناً، ليمارسه في الركوع تطبيقاً وتجسيداً.

{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} باعتبار أن وقت الفجر هو الخط الفاصل بين الليل والنهار، ففيه بعض ملامح الليل في هذا الغبش الضبابيّ المثقل بالظلام وهو يتنفّس النور، وبعض ملامح النهار في حركة النور الباحث عن الشمس في موعد الشروق. وبذلك تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، ويشهده الله قبل ذلك وبعده. ولعل التعبير عن صلاة الصبح بالقرآن دون سائر الصلوات، باعتبار أنها الصلاة التي يتمثل فيها الجوّ القرآني في روحانيته المتميزة بهدوء الليل وانفتاح النور، لتكون الوجه الذي يشير إلى الصلوات الأخرى بأبلغ تعبيرٍ، وأروع صورةٍ.

{وَمِنَ الَّليْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} أي فاسهر واستيقظ ببعض الليل، كما عن بعضٍ، أو بالقرآن، على رأي بعض آخر، لتكون صلاة زائدة على الفريضة، لتنتفع بها من خلال ما تحصل عليه من القرب لله والحصول على ثوابه.

{عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} في يوم القيامة، أو في الدنيا والآخرة، { مَقَاماً مَّحْمُودًا} أي موقعاً من مواقع الحمد، أو مكاناً مميزاً محموداً في موقعه وفي ثوابه... وربما كان ذلك نظراً إلى مقام الشفاعة الذي جعله الله للرسول (ص) في يوم القيامة، بما يحمده عليه جميع الخلائق، لو كان الخطاب موجهاً للنبي (ص)، أما إذا كان موجّهاً إلى كل إنسانٍ فإن المراد به ـ والله العالم ـ هو المقام الذي يناله المؤمن المخلص في صلاته، وذلك لما يمنحه الله من الثواب والكرامة والرضوان عنده.

ـــــــــــــــــ

(1) البحار، م:26، ج :73، ص:649، باب:19، رواية:9.

(2) مجمع البيان، ج:6، ص:559.