تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 80 إلى الآية 81

 من الآية 80 الى الآية 81

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتــان

{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْني مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا* وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (80ـ81).

* * *

معاني المفردات

{زَهُوقًا}: الزهوق: الهلاك والبطلان.

* * *

الدعاء انفتاح حرّ مطلق على الله

كما أنّ للصلاة دورها في التعبئة الروحية عند المؤمن، كذلك للدعاء دوره الروحي في وجدانه، ولكنه يتميز عنها كونه لا يتحدد بوقتٍ، فللإنسان أن يدعو ربه في كل وقتٍ دون تحديد زمنٍ معيّنٍ، ولا يتحدد بمضمونٍ، فله أن يدعو بما شاء من القضايا التي تحيط بذهنه، أو الأمور التي تتصل بحياته، ولا يتحدد بكلمات معينة، فله أن يختار ما يشاء منها والطريقة أو اللغة التي يدعو بها. إنه يمثل الانفتاح الحرّ المطلق على الله في كل همومه وتطلّعاته، سواء كانت صغيرةً أو كبيرةً، وهذا ما يعبّر عن الحاجة المطلقة إلى الله، واللجوء إليه في كل شيء، والشعور العميق بالحضور الدائم معه، في جميع خصوصياته، من أصغر شيء إلى أكبره، والانفتاح على الأمل الكبير في الحياة، الذي يشعر معه أنه لا مجال لليأس في كل موقعٍ من مواقعها ما دام الأمر مرتبطاً بقدرة الله التي لا يثقلها أو يعجزها شيء، فكل الموانع تتساقط أمامه، وكل الحواجز تتكسر عنده، لأنه القادر على كل شيء، والمهيمن على كل وجود.

وقد أراد الله للإنسان أن لا يقتصر في الدعاء على حاجاته المادية المتصلة بالجانب الحسي من حياته، لئلا تكون اهتماماته العامة والخاصة في حديثه مع الله محصورةً في هذه الدائرة المادية، فينعكس ذلك سلباً على تصوّره للأشياء، من خلال ما يوحي به الدعاء من حالةٍ ثقافيةٍ، تنفتح فيها الآفاق على كل الجوانب المهمّة في الحياة، التي تنمّي في الإنسان الشخصية المتوازنة في نظرتها إلى العنصر المادي والروحي معاً، وفق الطريقة التي خلق الله الحياة عليها. وفي ضوء ذلك، جاء القرآن ليقدّم بعض النماذج المتصلة بالجانب العملي المتحرك في الحياة، في الخط الذي يسير عليه، والأفق الذي يتطلع نحوه ـ كما نرى ذلك في الآية التالية ـ ليلجأ إلى الله في تحديد الخطوط التي تحكم الجانب العملي الحركي الرسالي، كما يلجأ إليه في تحديد الدوائر التي تتحرك فيها حاجاته المادية.

* * *

دعوة لطلب الصدق في جميع المواقع

{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} إنه الصدق الذي يحكم الاهتمامات الروحية والعملية في كل مداخل الإنسان ومخارجه، سواء في الأفكار التي يتبنّاها كمدخلٍ طبيعيٍّ لحركته في الحياة، أو في العلاقات الخاصة والعامة التي تربطه بالواقع وبالناس، لتحدد له موقعه في ساحات الصراع واللقاء، على المستوى الإيجابي أو السلبي، أو في المشاريع المتنوعة التي تنظِّم للإنسان حركته، وتحدد له دوره وطريقه في الوصول إلى أهدافه وأسلوبه في ممارسة ذلك. وهكذا يعيش الصدق في كل موقعٍ يدخل إليه، ويتحرك فيه، لأن ذلك مما ينسجم مع دعوة الحق، كواجهةٍ للرسالة، وكعمقٍ للحركة، وكطابعٍ للشخصية، في ما يمثله ذلك الواقع من انسجام الكلمة والأسلوب والموقف.

{وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} في جميع المواقف التي يريد الإنسان التحرك منها إلى موقفٍ آخر، أو في كل المواقع التي تلتقي بالخط السلبي في الحياة، فلا يكون الموقف منطلقاً من الزيف والدجل والرياء، ولا يكون الموقع مختلفاً مع الثوابت المتصلة بالرسالة، بل يستمد الصدق والثبات من حركته الإيجابية في خط العقيدة والتشريع.

إنها الكلمة التي تعبِّر عن العقيدة، وتنسجم مع الفعل. وهذه هي الدعوة التي يطلقها المؤمن من كل قلبه، مبتهلاً إلى ربه أن يعينه على الإخلاص في النية والفكر والشعور، وعلى الصدق في القول والعمل في مواجهة الضغوط التي تتحدّى فيه ثباته، وتخاطب انفعاله، وتتلاعب بعاطفته، وتضغط على حركته... إنه لا يريد أن يسترخي للدعاء، ليكون بديلاً عن الجهد والمعاناة في سبيل تأكيد الموقف، ليترك الأمر للإرادة الإلهية المباشرة في ما يدخل فيه، وما يخرج منه، ولكنه يوحي بأنه يريد أن يتجه هذا الاتجاه، ويعمل على تأكيده، ويعاني ـ كل المعاناة ـ في سبيله، ويريد من الله أن يثبّته في مواقع الزلل، ويقوّيه في مواطن الضعف، كما يريد الله للإنسان أن يعمل ما يستطيع، ويستعين به على ما لا يستطيع.

{وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا} وتعبر كلمة السلطان عن جوانب القوة والسلطة والمنعة التي تدعم الموقف من الداخل والخارج، لينصره أمام الأعداء في تحدياتهم لفكره ومواجهتهم لموقفه، واعتدائهم على حياته، وإضعافهم لإرادته، فلا يضعف أمام الباطل ولا يتنازل عن موقف الحق.

وهذا ما ينبغي للمؤمن أن يتعلّمه ويربّي نفسه عليه في اللجوء إلى الله ـ سبحانه ـ في استمداد القوّة والعون من عنده، في كل مواقع الخوف والضعف والاهتزاز.

* * *

جاء الحق وزهق الباطل

{وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} أي إعلان الحقيقة على الناس دون خوف، لأن مسألة إثارة الحق في وعي الناس لا يمكن أن تخضع لعوامل الإخفاء، بل لا بد من التأكيد على الموقف في ساحة التحدّي، ليعرف الناس كيف يواجهون الحياة من مواقعه، لئلا يضيعوا في غمار الضلال، وهذا ما جعل الأنبياء ينطلقون في دعوتهم للإيمان بالله والسير في طريقه، بكل قوّةٍ وإصرار ومعاناة، ويتحملون في سبيل ذلك كل الصعوبات، ويقدمون أغلى التضحيات... حتى فقد الكثيرون حياتهم من أجله.

إنه الإعلان المتحدي؛ لقد جاء الحق، ودخل الساحة، وسيفرض نفسه عليها، وسيواجه كل الأعداء، وسيهجم على كل المواقع، بكل أدواته وأساليبه وخطواته العملية، وزهق الباطل وهلك، لأن الحق سوف يفضح كل نقاط ضعفه، وسيكشف عن كل الزيف الذي يختبىء داخله، وعن كل السحر الزائف الذي يبرز ملامحه بطريقة خادعة... وسيواجه كل قواه، وسيسقطه وينتصر عليه، مهما امتد الزمن، ومهما ارتبكت المواقف واهتزت المواقع، فإن الحقيقة ستفرض نفسها، ولو بطريقةٍ متحركةٍ، تتقدم حيناً، وتتأخر حيناً آخر.

{إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} لا يحمل عناصر البقاء الحقيقية التي تمنحه القدرة على الاستمرار والدوام، إذ إنّه لا يملك عمق الثبات في ذاته، بل كل ما هناك، أنه يستعير عوامل القوّة من الأوضاع الخارجية التي تحيط بالساحة، في عملية تجاذبٍ وصراعٍ. وهذا ما يريد الله للمؤمن أن يستوحيه في نفسه، وأن يؤكده في ساحته، وإن وقفت هذه العوامل في مواجهته على مستوى الفكر والسياسة والاجتماع.