من الآية 83 الى الآية 84
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيتان
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً* قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً}(83ـ84).
* * *
معاني المفردات
{وَنَأَى بِجَانِبِهِ}: بَعُدَ بأحد شقيه: اليمين أو اليسار. وهو كناية عن استكباره وتعاظمه.
{شَاكِلَتِهِ}: طريقته ومذهبه. ويراد بها نيته.
* * *
التعلق بالظواهر
ويتناول القرآن طبيعة الإنسان الخاضعة للعوامل المباشرة في حياته، التي يستسلم من خلالها للانفعالات السريعة المتصلة بالجانب الظاهر من الواقع دون النفاذ إلى العمق، فيؤدي به ذلك إلى فقدان التوازن في النظرة والموقف.
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ} فأعطيناه الصحة والأمن والمال، وسهّلنا له أمور الحياة، فأصبح في المستوى الكبير من الراحة والنعيم والعلوّ في الموقع... {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} وتولّى عن الله، وابتعد عنه، وانقطع عن الاتصال به، كمن يعرض بوجهه عن صاحبه ويتخذ لنفسه موقعاً بعيداً عنه، في تعبيرٍ عن انقطاع الصلة الحميمة به، أو عن العلو والاستكبار... فينسى الله، ويغفل عن عمق الصلة الكونية التي تربط كل شيء من حوله به ـ تعالى ـ في ما يتقلّب فيه من النعم، أو ما يتحرك فيه من الأوضاع، فليس هناك نعمةٌ إلاَّ من الله خالق كل شيء. ولكن المشكلة في الإنسان، أنه لا يتعمّق في خصائص الواقع في نظرة تأملٍ وتفكيرٍ ليخلص إلى أنه لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، كما لا يملك أيّ شيء في الحياة إلا بالله، ما يفرض عليه أن يفكر بالله في كل موقع من مواقع النعمة، وفي كل مظهر من مظاهر النجاح، حتى طاقاته الفكرية والجسدية، التي يحركها في سبيل الحصول على موارد الحياة، فهي مظهرٌ لقدرة الله في تنظيم وجوده الجسدي والعقلي، الذي تتحرك أجهزته بقدرة الله، ولذا فإن عليه أن لا يستسلم للغفلة وللشعور بالذاتية ولشعور القوّة والاستقلال عن الله عندما يواجه مواقع القدرة والنعمة في حياته، لأن الله الذي خلقها قادرٌ أن يجمّدها في أيّة لحظة.
{وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً} وهذه هي النتيجة للارتباط الكلي بالعناصر المادية المحيطة به، والانشداد إليها كمصدرٍ وحيد للقوّة، فإذا انفصلت عنه، وانطلقت الظروف المعاكسة التي تثير في حياته الخوف والجوع والفقر، فإنه يسقط أمامها ويستسلم لليأس، وربما تؤدّي به الصدمة إلى الهلاك، لأنه يجد أبواب الأمل موصدةً أمامه، ونوافذ الحياة مغلقةً في وجهه. وقد تتحرك الصدمة في اتجاهٍ آخر، فتهز مشاعره، وتزيل الضباب عن عينيه، وتفتح قلبه على الله في قدرته المطلقة على حماية الإنسان من حيث لا يشعر، ورزقه من حيث لا يحتسب، فيرجع إليه في ابتهال الخاضع، وإنابة المنيب، وروحية العبد الضعيف الذي يستمد القوّة من الله عند ساعة الشدة.
إنه الإنسان الضعيف في حال قوته وضعفه، فهو الضعيف حال القوة، لأن نظرته المستغرقة في مظاهر القوة المادية تضعف وضوح الرؤية عنده وإرادة الجدية في حركة الحياة من حوله. فهو ضعيفٌ أمام الواقع القويّ المحيط به، إذ يشعر أنه أكبر منه، ويتصاغر حجمه عنده، وهو الضعيف الذي ينسحق عندما يعيش اليأس والسقوط والانهيار أمام كل عناصر الضعف، ولا يحاول أن يستجمع عناصر القوّة من حوله، من خلال التطلع إلى مصدر القوّة للحياة كلها، وهو الله سبحانه.
وإذا كانت الآية تعرّضت للجانب السلبي في حياته، أمام الحالتين، وحاولت أن تُبرز الصورة المشوّهة لحركته، فإنها لا تريد أن تعقّده أمام ذلك، بل تريد إثارة إرادة التحدي في شخصيته، من أجل أن يتحرك نحو مواجهة المستقبل من مواقع الإيمان الذي تتوازن فيه الشخصية في حالتي القوة والضعف، فلا تطغيها القوة، ولا يسقطها الضعف، بل تظل مشدودةً إلى الله، لتشعر أن القوة منه، وأن الضعف يمكن أن يتحول إلى قوّة من خلاله. والمقصود بالشر، هو الحوادث التي تصيب الإنسان بنقص في جسده، أو في ماله، أو في عرضه، أو في نفسه، كالمرض والفقر والخوف والخسارة والهزيمة والموت، ولعل التعبير عنها بالشر، باعتبار انعكاسها السلبيّ على صاحبها. ولكننا إذا نظرنا إلى علاقتها بالواقع الكوني، فإننا نجد فيها انسجاماً مع الحكمة التي أقام الله الكون عليها، ما يجعلها خيراً بالنسبة إلى الواقع العام للإنسان، وإن كانت شراً ذاتياً بالنسبة إلى هذا الشخص بالذّات.
* * *
العمل صورة الشخصيّة الداخلّية
{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} إن العمل هو صورة الشخصية الداخلية للإنسان، لأنه يعبّر عن العناصر الذاتيه التي تتمثل في الأفكار والمشاعر والأساليب والعلاقات... وذلك على أساس أن الإنسان إنما يتحرك من موقع العوامل الفكرية والنفسية والعاطفية التي توجّه حياته، وبذلك اختلفت أعمال الناس تبعاً لاختلاف مكوّناتهم الشخصية، فإذا كان الشخص ذا شخصية عقلانية هادئةٍ، فإنه يواجه المشاكل بطريقةٍ موضوعيةٍ بعيدةٍ عن السرعة والارتجال، أما إذا كان ذا شخصيةٍ انفعاليةٍ ثائرةٍ، فإنه يعالج القضايا بطريقةٍ انفعاليةٍ سلبيةٍ سريعة التأثر بما حولها. وهكذا نجد الشخصية العالمة، والجاهلة، أو الشجاعة والجبانة، أو الكريمة والبخيلة.
* * *
وقفة مع حرية الإرادة
ولكن قد يتساءل البعض، إذا كان العمل تابعاً للشخصية في مكوّناتها الذاتية، وفي عناصرها الخاضعة للمؤثرات الداخلية من حيث المزاج، أو للمؤثرات الخارجية من حيث الظروف والأوضاع، فأين يكون موقع الاختيار وحرية الإرادة في تصرفات الإنسان، ما دام خاضعاً لمزاجه الانفعالي أو العقلاني، أو لشخصيته العالمة أو الجاهلة، وما إلى ذلك؟!
والجواب عن ذلك: أن المؤثرات الداخلية أو الخارجية التي تمثل عناصر الشخصية، قد تثير في حياة الإنسان الأجواء السلبية أو الإيجابية المتصلة بها، ولكنها لا تفرض نفسها عليه بحيث تلغي إرادته وتشلّ حركته، لأن هناك مساحةً واسعةً بين مفهوم الشخصية في الداخل من خلال المزاج، أو في الخارج من خلال الظروف، وبين مفهوم العنصر العقلي، الذي يدقّق ويحاسب ويحاكم ويصحّح ويؤكد الموقف، فقد جعل الله للعقل قوّةً مهيمنةً على المؤثرات السلبية في حياة الإنسان، وأردفه بالوحي الذي يفصّل له الأمور وينظِّم له الخطوط، وبذلك يبقى هناك مجالٌ للتغيير، وساحةٌ للإرادة الحرّة التي تضغط على المزاج بعقلٍ مفتوحٍ.
وبهذا يبطل السؤال الذي يقول: ما جدوى الرسالات التي توجَّه إلى الناس، إذا كان كل إنسان يعمل على شاكلته التي خلق عليها، أو التي اكتسبها من خلال ظروفه الموضوعية؟!
إن المسألة لا تتعلق بحالةٍ ضاغطةٍ لا تترك مجالاً للاختيار أو للتغيير، بل بمناخٍ يثير في النفس عوامل الانحراف، ويحرّكها في اتجاه المعصية، في الوقت الذي يمكن للمناخ الآخر القادم من العقل أو من الوحي، أن يحوّل الخطوات في اتجاهٍ آخر، ويضعف العوامل السلبية، ويقوِّي ـ بدلاً منها ـ العوامل الإيجابية في خط الاستقامة والطاعة..
وهذا ما قرره الله في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] التي أكدت على قدرة الإنسان على تغيير نفسه، بتغيير الصورة الفكرية والشعورية الداخلية، كوسيلةٍ من وسائل التغيير العملي على صعيد الواقع.
وهذا ما يؤكده الواقع في ما نراه من الأشخاص الذين يولدون في بيئةٍ شريرةٍ تضغط على طريقتهم في التفكير وأسلوبهم في الحياة ونوازعهم وتطلّعاتهم في حركة الواقع من حولهم... ولكنهم يتمرّدون على هذا الواقع في أنفسهم، على أساس موقف تأمّلٍ يوحي بالصفاء، أو موقف فكرٍ يقود نحو التحوُّل والتغيير، أو كلمة وحيٍ سمعوها، ففتحت لهم آفاقاً جديدةً من الحياة، أو تجربةٍ عاشوها فحرّكت في ذاتهم إرادة التغيير.
إن في نفس كل إنسانٍ شخصيةً منفتحةً طاهرةً، ترقد في أعماق الأعماق، حيث تعيش ينابيع الفطرة ومواقع الصفاء في الروح، وربما تطغى عليها شخصيةٌ أخرى تتحرك في أجواء الغريزة وفي نوازع الحس، فتنطلق بالأعمال السلبيّة، كما تنطلق الشخصية الفطرية بالأعمال الإيجابية، وقد تتغير كل منهما في اتجاه آخر، يغطّي هذا الجانب ليبرز مكانه جانبٌ آخر، ما يجعل للعقل وللوحي وللتجربة الواعية دوراً كبيراً في عملية التغيير. وهكذا يعمل كل إنسان على صورته الداخلية ووفق شاكلته الشخصية، ولكن الله مطّلعٌ على خفايا الأمور، في ما يتحرك به الإنسان من نوازع وأفكار وشهوات مما يخفى أمره على الناس، أو مما تلتبس فيه النظرة إلى الواقع {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} لأن الله لا ينظر إلى مواقع الصورة في الخارج، بل إلى مواقعها في الداخل، ما يحدّد طبيعة التفاضل في الهدى، أو طبيعة الضلال والهدى.
تفسير القرآن