الآية 85
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــة
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85).
* * *
الرّوح في القرآن
كان المسلمون يسألون النبي(ص) عن أشياء كثيرة، مما يطوف في أفكارهم، أو مما يسمعونه من كلام الله مما أبهم عليهم أمره، وجاء القرآن ليثير بعض هذه الأسئلة، وليتحدث عنها وعن أجوبتها، وكانت الروح من هذه الأمور التي تكرر الحديث عنها في القرآن في موارد متفرقة، كما في قوله تعالى: في خلق آدم:
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29].
{فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم:17].
{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل:2].
{تَنَزَّلُ الْملائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4].
{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَْمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء:192ـ 195].
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52].
{أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} [النساء:171].
{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً} [النبأ:38].
{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4].
والظاهر أن إطلاق كلمة الروح ليس على نهج واحد، فقد يظهر من الآية الأولى {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر:29] أن المقصود بها التعبير الكنائي عن القدرة الخفيّة التي تمنح الحياة، في ما يتمثل فيها من عمق سر الحياة، الذي يحوّل الجماد إلى كائنٍ حيٍّ، وذلك بلحاظ التناسب بين معنى الروح الذي يمثل الحياة في ذات الله، وبين إعطاء الحياة لآدم، فكأن الله أعطاه من روحه ما دبّ فيه الحياة لتتخذ معنى يلتقي بالله.
وهكذا يمكن أن يكون ذلك هو المراد في حكاية القرآن عن خلق عيسى (ع) في ما حدّثنا به عن مريم ابنة عمران: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم:12]... وربما كان هذا التأكيد على «النفخ من روح الله» ناشئاً من أن حركة الحياة في كلا النموذجين، لا تخضع للأسباب المألوفة أو للتدرُّج الطبيعي، بل تخضع لما تحمله الإرادة الإلهية المباشرة، من السرّ الخفي للقدرة، ما يوحي بالسبب غير العادي، في القدرة التي تعبر عن سر الروح الإلهيّ. أمّا الآيات التي تتحدث عن الروح الذي أرسل إلى مريم أو الروح الذي يعرج مع الملائكة، أو الذي يقوم معهم يوم القيامة، أو يتنزل معهم، فالظاهر أنها تعبر عن مخلوق سماويّ، رفيع المكانة عند الله، ولذلك فإن الله يوكل إليه المهمّات المرتبطة بالغيب وبالوحي، بمفرده، أو مع الملائكة، في الدنيا أو في الآخرة، وقد تتحدث بعض الأحاديث عنه، بأنه جبرائيل، أو أنه خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل. وأمّا ما ورد من الحديث عن الروح الذي أوحى به الله إليه، أو تنزل الملائكة به، فقد يكون المراد به الوحي الذي نزل على الرسول، في القرآن أو في غيره، باعتبار أنه يمثل الروح الذي يمد الحياة بالقوّة، والإنسان بالنور الإلهي في حركة الوجود من حوله.
* * *
التّساؤل عن معنى الرّوح
أما هذه الآية التي نحن بصددها {وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} فقد يمكن أن يكون السؤال فيها عما تردد من الحديث عن الروح في أكثر من آية، مما جاء بشكل مبهم لا تحديد فيه، الأمر الذي أثار علامة استفهام لدى الناس. وربّما كانت المسألة معرفة ما يراد من هذه الكلمة في جميع مواقع استعمالها، لأنها لا تمثل لديهم أيّة صورةٍ تفصيليةٍ، باعتبارها من الكلمات الغامضة لديهم. وبهذا كان الجواب أنها من أمر الله الذي لا يملك معرفته إلا هو، لأنه من الأمور البعيدة عن عالم الحواس الذي يمكن أن يطل الإنسان ـ من خلاله ـ على مفردات المعرفة الحسية، ولكنه لا يملك أيّة وسيلةٍ للإحاطة بالأمور التجريدية.
وقد يكون من البعيد أن يكون المراد بالروح هنا القرآن ـ كما جاء في بعض التفاسير ـ لأنه ليس أمراً غامضاً لديهم حتى يسألوا عنه، كما أن إطلاقه عليه كان على سبيل الاستعارة، لا الحقيقة.
وقد ذكر بعضهم أن المراد به الروح الإنساني، لأنه المتبادر من إطلاق الكلام، ولهذا كان الجواب بالنهي عن التوغل في فهم حقيقته، لأنه مما استأثر الله بعلمه. وقد يكون هذا الوجه قريباً، باعتبار أنه الأقرب إلى أفكارهم بحسب مضمون الكلمة عندهم، ولا يلتفت إلى قول من قال، بأن التبادر ممنوعٌ في كلام الله تعالى، لأنّ المسألة، هنا، هي مسألة سؤالهم عن الكلمة في ما يدور الحديث عنها، وما يتصورونه منها، فهي من كلامهم لا من كلام الله. وقد جاءت الآية لتنقل حديثهم مع الرسول(ص). وإذا كان الكلام من الله، بقطع النظر عن هذه الملاحظة، فإن كلامه ككلام غيره، في ما يتبادر منه، لأنه يجري كلامه على حسب ما لدى الناس من مصطلحات وإطلاقات، لأنه يخاطب عباده بما يفهمون.
ولكن هناك ملاحظتين أمام هذا الوجه:
الأولى: أن الظاهر هو أن المسؤول عنه، هو الكلمة، في مواقعها في القرآن، ولم يرد ـ فيه ـ استعمالها بمعنى الروح الإنساني.
الثانية: أن المسلمين، أو العرب، في صدر الدعوة، لم ينقل عنهم أنهم كانوا يتعمَّقون في فهم المعاني، بحسب بعدها الفلسفي، لتتحرك علامات الاستفهام لديهم من موقع الغموض الذي يلفّها، فإنهم إذا أطلقوا كلمة الروح، فإنما يطلقونها باعتبار ما تعبِّر عنه من معنى الحياة أو الذات أو ما يقارب ذلك، لا باعتبار المعنى المقابل للمادّة، ليكون السؤال عن هذه الطبيعة التجريدية الخفية التي تكون سرّ الحياة.
ولكن لا مانع من أن يكون السؤال منطلقاً بلحاظ سرّ الحياة الذي لا يملكون الوضوح في معرفته، لا بلحاظ المعنى المقابل للمادة، بالنظرة الفلسفية. ويؤيد ذلك ما جاء في بحار الأنوار عن أبي بصير عن الإمام الباقر أو الإمام الصادق (ع) قال: "سألته عن قوله: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ما الروح؟ قال: التي في الدواب والناس، قلت: وما هي؟ قال من الملكوت من القدرة[1].
وقد حاول صاحب تفسير الميزان أن يجعل الجواب {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} تفسيراً لكلمة الروح. قال: «فقد بان بما مر أن الأمر هو كلمة الإيجاد، وهو فعله تعالى الخاص به، الذي لا يتوسط فيه الأسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية، وهو الوجود الأرفع من نشأة المادة وظرف الزمان، وأن الروح بحسب وجوده من سنخ الأمر من الملكوت..»[2].
ولكن المتبادر من الجواب، أن الله لم يرد أن يعرّفهم طبيعتها باعتبارها من أمره، لأن ذلك لم يوضّح أيّ شيءٍ عندهم، في ما هو حقيقة المعنى، لأن كلمة الإيجاد تمثل مصدر الوجود لا حقيقته، كما أنه من الأمور المعروفة لديهم، في ما يعتقدونه من تعلق الإرادة الإلهية بوجود الأشياء، بشكل مباشر أو غير مباشر. ولهذا فإننا نستقرب أن يكون الجواب وارداً لبيان أنها من الأمور التي استأثر الله بها مما لا يستطيعون الإحاطة به، لأنه ليس من الأمور التي تقع في دائرة الحس ليملكوا الوسائل إلى معرفتها، لأن التعرف على الأشياء لا يتم إلا بالوسائل التي يملكها الإنسان في فكره ووجدانه. وعلى هذا الأساس، تنسجم الفقرة التالية مع صدرها {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} كإشارةٍ إلى أنهم لا يملكون الكثير من العلم، لأن مصادر المعرفة محدودة لديهم، في ما يتصورونه أو يتعرفون عليه من خلال الحس؛ والله العالم.
ـــــــــــــــــ
(1) البحار، م:20، ج :58، ص:29، باب:42، رواية:14.
(2) تفسير الميزان، ج:13، ص:210.
تفسير القرآن