تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 88 إلى الآية 89

 من الآية 88 الى الآية 89

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتـان

{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا لْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا* وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} (88ـ89).

* * *

معاني المفردات

{ظَهِيرًا}: معيناً.

* * *

التحدي القرآني على ساحة المعرفة

ويبقى التحدي القرآني يفرض نفسه على ساحة المعرفة، ليثبت بذلك أنه كلام الله الذي يتضمن أسراراً في الشكل والمضمون، بحيث لا يتمكن أحدٌ من الإتيان بمثله، وذلك لما يحتويه من دقائق وأسرار، وما يتمثل فيه من بلاغةٍ وفنٍّ... ولا يقتصر الأمر على الإنس، بل يتعداه إلى الجن الذين كان العرب يعتقدون أنهم يملكون قدرةً خارقةً فوق قدرة الإنسان، فهم يقفون عاجزين أمام هذا التحدي، فلا يستطيعون لمواجهته سبيلاً. واستمر القرآن طيلة هذه القرون، ولم يأت أحدٌ بمثله يقابله في هذا الجو المتنوِّع التأثير على عقول الناس وأرواحهم وشعورهم... الذين يحسّون فيه بمثل السحر من خلال ما يملك من القوّة المهيمنة على كل كيانهم الفكري والروحي والشعوري.

وذلك هو الدليل على أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه ليس كلام البشر، نبياً كان أو غيره، وأنه لا يمكن لأحدٍ أن يزيد فيه شيئاً مما لم يوح به الله، لأنه لا يتناسب مع أسلوبه المعجز، بحيث يبرز الفرق بشكل واضحٍ بين ما هو القرآن، وما هو التحريف فيه.

{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ} بكل ما يملكون من طاقات الفكر العلمية والأدبية {عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ} في أسلوبه المعجز، ومضمونه العميق الواسع المتنوّع، وإيحاءاته الروحية والعملية... {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} وعضداً وناصراً، لأن المسألة غير مشروطةٍ بتكامل الطاقات في سبيل تكامل النص في الإبداع الفني، بل مرتبطةٌ بالسر الخفي الكامن في ذات النص، مما يعيش الإنسان الإحساس به دون أن يستطيع التعبير عنه، أو تقليده، أو محاولة تقديم نموذج مماثل له.

وقد أشرنا إلى رأينا في مسألة «الإعجاز القرآني» أثناء تفسيرنا للآية 23من سورة البقرة، فليراجع هناك.

* * *

أساليب متنوعة في القرآن والهدف واحد

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} التصريف هو التكرير الذي تتنوّع فيه الأساليب والكلمات، وتلتقي عند هدف واحد في التوعية المنفتحة على آفاق الحق في العقيدة والتشريع وحركة الحياة، وفي تركيز الإرادة على الصلابة في الموقف، في عملية الاختيار التي لا تهتز ولا تتزلزل أمام كل الضغوط النفسية المنطلقة من التهاويل والأضاليل والتحديات والمتغيرات المتنوّعة القادمة من كل اتجاه، من خلال ما يمارسه الكافرون والمضلّلون والمنحرفون من وسائل وأساليب.

لقد جاء القرآن ليواجه حاجة الإنسان إلى التنوّع في انطلاقته في الحياة، فأراده أن يتحرك من خلال المنهج السائر على خط الفكر والتجربة والمعاناة، وهداه إلى الآفاق التي يمكن لها أن توسع نظرته، وإلى المواقع التي يمكن لها أن تغني تجربته، وإلى المواقف التي يمكن أن تحدد له طريقه وتركّز له هدفه. وهكذا فإن القرآن منطلق فكر ومنهج حركة، من أجل أن يهتدي الإنسان إلى قيادة نفسه في الاتجاه السليم وإلى قيادة الحياة والآخرين إلى النهج الأقوم، الذي ينفتح على الله في أكثر من أفقٍ للمعرفة، وينفتح على المعرفة في أكثر من مجال. ولكن الإنسان ينسى نفسه وينسى ربه، فينسى موقعه في الكون، ودوره في حركة المسؤولية وفي استلهام الوحي الإلهي في ما يحتاجه من قضايا المصير، فيعيش الّلامبالاة التي توحي له بالعبث والهروب من مواجهة الواقع المسؤول، فيكفر بالله، وتتعاظم ضغوط الغريزة والانحراف في حياته، المتمثلة في سلوك الأكثرية كما أشار الله إلى ذلك: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} بالله وبالحق المنطلق من مواقع العقل، الذي يكتشف الحقيقة في صفاء الفطرة والوجدان، ومن مواقع الوحي، الذي يخطط لحركتها في التفاصيل الدقيقة من حياة الإنسان.

* * *

الأكثرية في النظرة القرآنية

وتلك هي فكرة القرآن عن الأكثرية في المجتمع، في حديثه المتكرر عن انحرافها عن خط الاستقامة في العقيدة والعمل، لأنها تتحرك في مجرى التيار الانفعالي الذي ينطلق من تأثير الغريزة، ومن التعاطي السطحي الذي يغري بالسهولة في مواجهة القضايا الحيوية في حركة الإنسان في الفكر والواقع، ومن عمق العلاقة بالمنفعة المادية في ما يواجهه من سلوكٍ وتطلّعٍ، ما يجعلها تستسلم لكثيرٍ من النوازع والمشاعر الذاتية الملتهبة المثيرة، فتسقط في مواقع الانحراف، بينما تظل الأقلية من الناس، في مواقع الفكر المنفتح العميق الذي يصبر على مشاكل الفكر، لتتابع من خلال ذلك الوصول إلى الحلول الملائمة، كما تبقى في مواقف الإرادة القوية الصلبة التي تتحدى النوازع الذاتية لتنظِّم حركتها داخل النفس والحياة، وتواجه العوامل الخارجية القوية التي تريد أن تهزم في الإنسان قوّة الاندفاع للوقوف مع الرسالة والمبدأ... وتثبت كذلك في مواقع الحرية والعدالة.

وليس معنى ذلك، أن هذا هو قضاء الأكثرية وقدرها الذي لا يمكن لها أن تتجاوزه، بل هو أمرٌ واقعٌ ناشىءٌ من عوالم خارجيةٍ وظروفٍ طارئةٍ، من خلال عدم وجود خطة طويلة لاحتواء الساحة وتوجيهها، وتحريك العناصر الإيجابية الكامنة في داخلها، والاستفادة من بعض العوامل الملائمة لحركة الرسالة... لأن سُنّة الله في الحياة قائمةٌ على أن الكون لا يخضع لوجهٍ واحدٍ في حركته، بل يتغير من حالٍ إلى حال، تبعاً للعوامل الداخلية والخارجية المتنوعة الخاضعة لحركة التغيير.

ولهذا، فإن علينا أن لا نستسلم للواقع الذي يتحرك من خلال الضغط الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي للأكثرية المنحرفة، بل لا بد لنا من مواجهته بالدعوة والحركة والموقف، من أجل الوصول إلى أكثريةٍ جديدةٍ، قائمة على الأسس الرسالية التي نتبناها في خطنا الفكري، مهما كانت التحديات كبيرةً والظروف قاسيةً، لأن الحياة لا تفتح ذراعيها إلا للذين لا يستسلمون للأمر الواقع، ولا ينسحقون تحت وطأة عوامل الضعف، ولا ينهزمون أمام الأوضاع السلبية... بل يعملون على تحويل عناصر الضعف إلى عناصر قوّةٍ، وإلى مواجهة الحالات السلبية بمواقف إيجابيةٍ، وينظرون إلى الحياة نظرةً واقعيةً في تعاملهم مع نقاط القوة والضعف، من أجل خلق واقعٍ جديدٍ على أنقاض الواقع القديم.

وأخيراً، إن القرآن عندما يعالج مسألة الأكثرية من خلال النظرة السلبية، فإنه يريد تأكيد المسألة من الناحية الواقعية، على أساس أنها لا تمثل المقياس الصحيح للحقيقة، كما يراه الناس في هذه الأيام، بل ربما كانت تلتقي ـ على العكس من ذلك ـ بنظرة الباطل، ولكن لا مانع من أن تلتقي بالحق إذا أحسن القائمون على حركة الرسالة السير معها بصدقٍ وعزمٍ وتركيز.