من الآية 90 الى الآية 96
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرأه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً* وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً* قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً* قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (90ـ96).
* * *
معاني المفردات
{كِسَفًا}َ: بكسر الكاف جمع كسفة، وهي القطعة من الشيء.
{قَبِيلاً}: القبيل: الكفيل أو الجماعة.
{زُخْرُفٍ}: زينة.
{تَرْقَى}: تصعد.
* * *
الأنبياء والتصور المنحرف عنهم
لعل مشكلة الأنبياء هي في التصور المنحرف لدى الناس الذين كانوا يعيشون معهم عن فكرة النبوة والنبيّ، فقد كانوا يعتقدون بأن النبوّة حالةٌ غير عادية، باعتبارها تفويضاً إلهياً للنبيّ بأن يتحرك في الأرض مع الناس بقدرة خارقة، لأنه وكيل الله لدى الإنسان، فيجب أن يتمتع بإمكاناتٍ عظيمةٍ يغيّر بها الكون، ويحكم بها الحياة، فيعمل كل ما يريد، أو ما يراد منه، من تغيير ظاهرةٍ كونيةٍ، أو الإتيان بما يعجز البشر عن مثله.
لذا كانوا يتصوّرون أن النبي لا يمكن أن يكون بشراً، وكون محمد (ص) لا يملك مثل هذه القدرة المطلقة، فقد مثل ذلك مشكلةً في علاقة الناس به وإيمانهم برسالته، مما أثار في فكرهم حالة شكٍ أو استهزاءٍ. وفي هذا الاتجاه، كان حوار قريش مع النبي محمد(ص) حول مسألة الرسالة، وشروطهم للإيمان بها وبه، من خلال ما كانوا يسمعونه من معجزة موسى أو عيسى، وغيرهما من الأنبياء (ع) في ما يدهش الفكر ويخطف البصر من خوارق العادة... وإذا كان القرآن هو المعجزة التي جاء بها النبي (ص)، فإنهم لا يرون في ذلك حالةً غير عادية، لأنها لا تتصل بالظاهرة الكونية، بل ترتبط بالعنصر الغني للتعبير، مما يمكن أن يكون قمةً في الإبداع لا يبلغها أحد، ولكنها لا تتلاءم مع معجزات الأنبياء الآخرين، ولا تغيّر أية ظاهرةٍ من ظواهر الحياة حولهم.
ولكنّنا نعلم أن الله قد أرسل رسله كي يفتحوا عقول الناس وقلوبهم على الحق، من خلال المنهج الفكري الذي يقودهم إلى اكتشافه بالفكر الدائب على البحث، والوحي المنفتح على تفاصيل الحقيقة... ولم تكن المعجزة أساساً في ذلك، بل كانت ردّاً للتحدّي الكبير الذي يحاول أن يُسقط الدعوة أمام الناس، كما في مسألة فرعون وموسى وأمثالها. ولذلك لم يستجب النبي (ص) للتحديات الطارئة الذاتية، لأنها لا تمثل شيئاً في حركة الدعوة، ولا تثير أيّ غبار في وجهته العملية إلا بشكل بسيط.
* * *
عناد كافر متعنّت
{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} فيحول الصحارى القاحلة الجرداء إلى أرض يتفايض منها الماء {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} بلمسة من يدك، أو بلفتة من نظرك، تماماً كما هو شأن الأنبياء الذين يحملون بركة النبوة القادرة على أن تحوّل الأرض الجرداء إلى بساتين يهتز فيها الشجر، وتمتد فيها الخضرة، وتجري فيها الأنهار... {فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا} يمتد الخصب بذلك إلى كل جوانبها {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} بحيث تتناثر النجوم قطعاً قطعاً علينا، كما أوحيت إلينا بذلك، في تهديدك لنا، إذا لم نؤمن بك، أو إذا تمردنا عليك، {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} في مجمع واحد، لنقابلهم وننظر إليهم عياناً، لنتحدث إليهم ونناقشهم في ما تدعونا إليه، لنعرف صدقك في دعوتك، {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} أي من ذهب، تصنعه بقدرتك النبوية التي تزعمها لنفسك، فيكون ذلك شكلاً من أشكال الإعجاز عندما يتحول بيتك هذا، أو أيّ مكان تسكنه إلى بيت من ذهب، {أَوْ تَرْقَى في السَّمَآءِ} فننظر إليك وأنت تعرج إليها... {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَأهُ} حتى لا تسحرنا بطريقة معينة، فتوحي إلينا بذلك من دون حقيقة. أما إذا جئتنا بالكتاب ولمسناه بأيدينا، وقرأناه بأعيننا، فإن ذلك قد يكون دليلاً على أننا نواجه حقيقة مادية، لا حالة تخييلية من فعل ساحر يسحر الأعين.
هذه هي الاقتراحات، فاختر واحدةً منها لنؤمن بك، وبأنك رسول الله من خلال ما تقدمه لنا من الإعجاز.
* * *
الواقعية في الخصوصية البشرية
ولكن الله يعلّم رسوله بأن هذه الأمور لا تقع في نطاق قدرته، لأنه بشر لا يملك أن يقوم بأيّ عملٍ خارقٍ للعادة من خلال قدراته الذاتية، فهو مجرد رسول يُوحَى إليه ليبلِّغ الناس ما يريد الله له أن يبلِّغه في وحيه، وليس من شأن الرسالة أن تغير الكون في نظامه الكوني، بل إن دورها أن تغيّره في نظامه الإنساني العملي... ولذلك، فلا مجال لأيّ شيءٍ مما تقترحونه {قُلْ سُبْحَلنَ رَبّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} وليس عليّ إلا أن أبلغكم رسالات ربي، وأفتح عقولكم من خلال الحوار الذي يقودكم إلى الحجة على صدق الرسالة.
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءهُمُ الْهُدَى} في وحي الله على يد رسوله، {إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً} في استغراب يوحي بالإنكار أو بالشك، انطلاقاً من التصور الخاطىء الذي يرى الرسالة شيئاً من شؤون الملك، لا من شؤون الإنسان. ولكن الله يعالج المسألة بتصحيح هذا التصور، فإن الرسالة تفرض الدعوة بالفكر وبالقدوة، فلا بد من أن يكون الرسول من الناس، ليكون تجسيده للرسالة في سلوكه أساساً للإيمان بواقعية الفكرة التي يدعو إليها، من خلال خصوصيته البشريّة، أما إذا كان ملكاً، فإن الناس سيحتجّون بعدم امتلاكهم قدرة الملك على تجسيد أخلاقية الرسالة في الحياة. وربّما كانت المسألة تتجه إلى المقولة التي تؤكد على أن الإنسان لا يتحمل النظر إلى الملك، {قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} لكان من الضروري أن يكون الرسول إليهم منهم، ليتناسب فكره مع فكرهم، وقدرته العملية مع قدرتهم. {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً} لأن ذلك هو الذي يجعل إمكانات النجاح متوفرة في تجربته الرسالية.
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} في ما أدّعيه من رسالة، وما أبلّغه من وحي، فهو الذي يشهد لي بذلك، ولو كنت كاذباً لأظهر ذلك للناس، {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} يعلم ما يضمرون، ويبصر ما يعملون.
وهكذا كانت هذه الآيات صورةً حيةً للمشكلة الصعبة التي كان يثيرها هؤلاء أمام الأنبياء، من خلال ما كانوا يؤكدونه من تصورٍ خاطىءٍ عن النبوّة والأنبياء، بالمستوى الذي يبعث الشك في مصداقيتهم أمام الناس، ولكنهم ـ أي الأنبياء ـ ينطلقون إلى الدعوة من موقعٍ ثابتٍ يرتكز على العقل والفكر، ليقود الناس إلى الحقيقة من أقرب طريق.
ـــــــــــــــــــ
تفسير القرآن