من الآية 101 الى الآية 104
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آياتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَني إِسْرَائيلَ إِذْ جَآءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يا موسَى مَسْحُورًا* قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يا فِرْعَونُ مَثْبُورًا* فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا* وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} (101ـ104).
* * *
معاني المفردات
{مَسْحُورًا}: ساحراً، أو أعطيت علم السّحر.
{بَصَآئِرَ}: دلائل يبصر بها الناس.
{مَثْبُورًا}: هالكاً.
{يَسْتَفِزَّهُم} يخرجهم.
{لَفِيفًا}: التف بعضهم ببعض.
* * *
الإيمان مصدر كل قوة
وهذا حديثٌ عن حركة الرسالات في التاريخ، من أجل أن يأخذ المسلمون منه الدرس، ويعرفوا أن القوّة المهيمنة لا تمثل الحالة الضاغطة التي تشل قدرة المستضعفين عن الحركة، وتجمّد مواقفهم عن الرفض، وتسقط مواقعهم عن الامتداد... بل يمكن لهم أن يأخذوا من قوّة الموقف الإيماني قوّةً جديدةً تفرض نفسها على الأقوياء، مستندين إلى الإيحاء الدائم بأن الله مع الذين آمنوا، وأن القوّة ليست مطلقةً للذين يملكونها، ففي داخل كلِّ واحد منهم مواقع للضعف، وأن الضعف ليس مطلقاً للذين يعيشونه، ففي ساحة كلّ واحدٍ منهم موقعٌ للقوة... فلا بد من التماسك أمام حالات الاهتزاز النفسي، ليملك المؤمن نفسه، وليكتشف التوازن بين مواقع الضعف ومواقع القوة في دائرته ودائرة الآخرين، ليعرف كيف يؤكد المواقف على هذا الأساس، ويتعرف ـ من خلال ذلك ـ على آفاق رعاية الله له في الحياة.
* * *
الله تعالى يحقق التوازن بين فرعون وموسى
وهذا ما نتمثله في هذه الآيات التي يختصر الله فيها قصة موسى (ع) في كلماتٍ قليلةٍ، توضّح لنا كيف واجه موسى (ع) قوّة فرعون، وكيف حرّك الله له في ساحته الآيات التي هزمت نفسيته، وكيف تعامل معها في الضغط على فرعون.
{وَلَقَدْ أتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آياتٍ بَيِّنَاتٍ} والظاهر أن المقصود بها هي ما أشار إليه في آيات أخرى، من العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفدع، والدم، والسنين، ونقص الثمرات، وبذلك هيّأ الله سبحانه وتعالى الإطار الموضوعي والتربة الخصبة لحركة موسى(ع) الرسالية على صعيد تبديل المناخ الانهزامي السلبي الذي كان يفرضه فرعون على بني إسرائيل، وذلك من خلال ما تحمله هذه الآيات من إشاراتٍ وآمالٍ على مستوى التدخل الإلهي لإنقاذهم مما هم فيه. {فَاسْأَلْ بَني إِسْرَائيلَ إِذْ جَآءهُمْ} موسى، فأثار فيهم روحاً جديدة من القوّة التي توحي بالثقة العميقة بعد أن عاشوا الانسحاق النفسي الذي أفقدهم حركة الإرادة الرافضة أمام جبروت فرعون، حتى اعتبروا الضعف الكامن فيهم قضاءً وقدراً، لا يملكون مواجهته بوسائلهم الخاصة، وكان لا بد من الصدمة التي تتمثل بالمعجزة الخارقة التي تؤكد لهم «أن القوة لله جميعاً»، وأن الجبار لا يملك قدرةً مطلقةً، بل إن قوّته مستعارةٌ من ضعف الآخرين، أمّا قدرة الله، فهي القوة التي لا تقف عند حدٍّ، وعلى المؤمنين أن يعتمدوا عليها، ليواجهوا التجربة من موقع الانفتاح.
فاسألهم عن تجربتهم التي عاشوها من خلال ما تستنطقهم في أخبارهم عندما جاءهم موسى (ع) بالبينات وواجه فرعون {فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يا موسَى مَسْحُورًا} فلم يكن يفهم كيف يمكن للروح أن تستيقظ من موقع المعرفة لتأخذ لنفسها القوّة، ولم يستطع أن يستوعب ما هو معنى التحدي في الرساليّ الذي يحمل الرسالة لتكون قوّةً للإنسان في الفكر والروح والحياة، وكيف يمكن للإنسان الذي يتصل بالله أن يعيش الحرية الرافضة لكل ألوان العبودية، لأنه لم يعش تجربةً سابقةً في هذا المجال، فالناس الذين يعيشون معه، هم ممن يتزلّفون إليه ليحصلوا على أطماعهم منه، أو ممن يخافون منه فيتساقطون أمام جبروته... ولم يكن ليفكِّر بأن هناك وجهاً آخر للحياة، يطلّ على عالم جديد من الفكر والحرية والإيمان... كان السحر هو الذي يفسر الظواهر غير المألوفة، لأنه الأسلوب الذي يصوّر للإنسان الأشياء التي تبهر الأبصار، وتأخذ العقول، وتتحوّل إلى حالة معقّدة في حياته بحيث يتصرف بطريقة غير مألوفة، وبذلك يكون السحر هو التفسير الذي يملكونه، لمواجهة مسار الأنبياء الذين يتحركون بشكلٍ غير معروف، من خلال ما يقولون وما يفعلون، ولهذا كان ردّ الفعل لدى فرعون أنه اعتبره خاضعاً لعملية سحرٍ قام بها بعض السحرة ضده، فأصبح يتحرك بطريقةٍ غير معقولةٍ، ويتكلم كلاماً غريباً لا ينسجم مع طبيعة الواقع.
ولكن موسى (ع) كان يعيش الثبات في الموقف والانفتاح في آفاق الرسالة، فلم ينفعل ولم يسقط أمام التحدي الفرعوني، الذي يتعاطى كما لو كان مريضاً بالصرع الناشىء من السحر.
* * *
ليس للسحر أي عمق واقعي
{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـؤُلاءِ} من الآيات البينات التي توحي بالقوّة الخارقة التي لا يملكها أيّ ساحر، لأن السحر لا يمثل أيّ عمق في الواقع، بل يمثِّل تغيير الشكل، ويبعث الاهتزاز في حركة الصورة في وعي البصر… بينما تتحرك هذه الآيات لتصنع واقعاً جديداً في بعض مظاهر حياة الناس، ما يدلّ على أنَّ هذه الأمور ليست من صنع البشر، بل لم ينزلها {إِلاَّ رَبُّ السَّمَـوَاتِ وَالأرْضِ} لتكون {بَصَآئِرَ} تفتح عيون الناس، الذين يكفرون بالله وبرسله، على الحقيقة التي يرتكز عليها الإيمان، ليفكروا في المسألة من جانب آخر غير الجانب الذي تعوّدوا أن يوجهوا التفكير نحوه... وهذه هي مهمة الآيات التي ينزلها الله، فهي ليست عرضاً للقوّة لينبهر الناس بها في حالةٍ انفعاليةٍ، بل هي تحريكٌ للفكرة ليقتنع الناس بالحق من خلالها، وليكتشفوا ما لا يستطيعون اكتشافه إلا من خلالها، بفعل الضغوط التي يواجهونها في حركة العقيدة في حياتهم.
وهكذا أثار موسى (ع) أمام فرعون الحقيقة حول السر الذي يختفي وراء هذه الآيات، ليفكر بذلك في اتجاهٍ جديدٍ. ثم انطلق ليردَّ التحدّي الذي مارسه فرعون ضدّه في مجال التجريح الشخصي، فإذا كان يظنه مسحوراً لأنه دعا إلى الإيمان بالله، فإن موسى (ع) يوجّه إليه الإنذار بالحقيقة المرعبة الحاسمة التي تنتظره، وهي الهلاك: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يا فِرْعَونُ مَثْبُورًا}. والثبور هو الهلاك، وقد عبَّر بالظن محاكاةً لأسلوبه في التعبير، فالمسألة لدى موسى (ع) هي مسألة يقين بالمصير الذي ينتظر هذا الطاغية. وربما أراد موسى من هذه الكلمة شيئاً آخر غير ردّ الفعل لمسألة التحدي، وهو إثارة الاهتمام لديه بالقضايا التي أثارها معه في موضوع الإيمان بالله، والابتعاد عن السلوك الطغياني، وذلك من خلال إثارة مسألة الهلاك أمامه في نطاق الجسد والروح، ليعود إلى نفسه في فترة التأمل الذاتي، أو في حالة الخوف النفسي، في ما يمكن أن ينتظره من المصير المظلم في الدنيا والآخرة، ولكن فرعون لم يرجع إلى نفسه، ولم يركن إلى ربه، فتعاظمت نفسه لديه، وأخذته العزة بالإثم. وربّما كانت كلمة موسى (ع) عنصراً مثيراً مضاداً في طبيعة المواجهة. ولذا بادر، كما يبادر الكثيرون من الطغاة، إلى التصرف بطريقة طاغية استفزازية، ليخنق هذه الانتفاضة الجديدة لحركة الحرية المنبثقة عن روح البسالة، وليسحق الروح التي بدأت تثير في الساحة الكثير من حالات التململ الذي يقود إلى التغيير على أساس الإيمان بالله، الذي يقود النبي موسى (ع) حركته تحت لوائه.
* * *
بين إسقاط الطاغوت وإقامة العدل
{فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرْضِ} فيزعجهم في رزقهم وفي أنفسهم وفي كرامتهم، ليعيد إحكام تأثير سطوته عليهم. وحدثت أحداثٌ كثيرة، وكان الاضطهاد الكبير الذي تعاظم حتى لم يعد محتملاً عند المستضعفين، وكان موسى (ع) يخطط للانتقال إلى مواقع جديدة للقوة، حيث يتخفف فيها المؤمنون من الضغوط القاسية الصعبة. وجاء عقاب الله بطريقة غير عادية ـ كما حدثنا به القرآن في أكثر من آية ـ {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا} ولم يبق منهم أحدٌ. وبدأت المواقع الجديدة تفسح المجال للمستضعفين، ليأخذوا دورهم في الحياة من جديد، ليخوضوا غمار الحرية في حركتهم الرسالية، وليعرفوا أن القضية ليست في سقوط الطاغوت، بل هي في معرفة كيفية إقامة العدل في الساحة التي دمرها الظلم، وعدم التحوّل في مواقع السلطة إلى طاغوت جديد.
{وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ} وأطيعوا الله ورسوله في ما يأمركم به وينهاكم عنه، مما يقربكم إلى الحق، ويبعدكم عن الباطل...{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرةِ} في يوم القيامة، وجاءت ساعة الحساب التي يثاب فيها المحسن على إحسانه، ويعاقب فيها المسيء على إساءته، {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} أي مجموعاً ملفوفاً بعضكم إلى بعض، لتواجهوا ما كنتم تختلفون فيه، فيفصل الله بينكم في ذلك كله.
وهناك احتمالٌ آخر، في تفسير كلمة {وَعْدُ الآخرة} وذلك بأن يكون المراد به «ما ذكره الله ـ سبحانه ـ في أول السورة في ما قضى إلى بني إسرائيل بقوله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} وإن لم يذكره جمهور المفسرين، فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره، ويكون المراد أنا أمرناهم بعد غرق فرعون أن اسكنوا الأرض المقدسة التي كان يمنعكم منها فرعون والبثوا فيها، حتى إذا جاء وعد الآخرة التي يلتف بكم فيها البلاء بالقتل والأسر والجلاء… جمعناكم منها، وجئنا بكم لفيفاً، وذلك أسارتهم وإجلاؤهم إلى بابل[1].
ولكننا نلاحظ على ذلك، أن مجرد وحدة الكلمة في الموردين لا يعني اتفاق المعنى، لأن الكلمة تأخذ مضمونها من خلال السياق الذي يحيط بها، ولهذا فإن السياق هنا، يرتكز على مسألة فريق فرعون وفريق موسى، اللذين اختلفا في الدنيا ولم يصلوا إلى نتيجةٍ حاسمةٍ في موقعٍ متوازنٍ تتعادل فيه القوى، ويتحرك فيها الحوار على هذا الأساس، فيريد الله أن يجمعهم في الآخرة ليفصل بينهم في ما كانوا فيه يختلفون.
وبذلك فإن التفسير الذي جاء به جمهور المفسرين هو الأقرب إلى ظاهر الآية؛ والله العالم.
ـــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:13، ص:215ـ 216.
تفسير القرآن