تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 105 إلى الآية 109

 من الآية 105 الى الآية 109

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً* قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً* وَيَخِرُّونَ للأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (105ـ109).

* * *

معاني المفردات

{فَرَقْنَاهُ}: فصلناه.

{عَلَى مُكْثٍ}: بتمهّل وتأنٍ.

{يَخِرُّونَ}: يسقطون.

* * *

القرآن قاعدة الهدى والحق

ويعود الحديث عن القرآن، باعتباره الكتاب الذي أراده الله أن يكون قاعدةً للهدى، وأساساً لحركة الحق في الفكر والحياة، لينطلق الإنسان في مسيرته من موقع الثبات القائم على الوحي المنفتح على الكون كله في جميع أوضاعه، وعلى العقيدة كلها في جميع تفاصيلها، وعلى الإنسان كله في جميع أفراده وامتداده في حركة الزمن، فهو الحقيقة الثابتة التي لا مجال للشك فيها، ولا موضع للزيادة والنقصان في آياتها.

{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ} فقد أراده الله أن يكون مصدراً للحقيقة في حياة الإنسان، من خلال ما يمثله من فكرٍ ومنهجٍ وتشريعٍ، ليركز الوعي على أساس ثابتٍ قويٍّ لا يهتز ولا يزول، فليس هناك عبثٌ ولا لغوٌ ولا باطل في أيّ موقعٍ من مواقعه، لأنَّ الله هو الحق، ولا يمكن أن يصدر منه إلاّ الحق الذي تلتقي فيه الوسيلة بالهدف، والنظرية بالتطبيق في انسجامٍ كاملٍ.

{وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} وذلك من خلال ما يبلّغه الرسول من آياته بكل صدق وأمانة، فلا يضيف إليه منه أيّة كلمةٍ مهما كانت، لأن دوره هو دور المبلِّغ الذي لا يملك الحق في أيِّ تغييرٍ بالنص الموحى به من الله سبحانه، وهكذا نزل بالحق في ما كان يريد أن يؤكده من مبادىء وأفكار، أو يحققه من مواقف ومواقع وأوضاع. وقد أراد الله للقرآن أن يثبِّت الحق في الحياة وفي الإنسان، وكان لله ما أراد في حركة القرآن في خط التبليغ والحركة والواقع.

وإذا كان القرآن قد أكّد على الحق، كأساسٍ للخط الذي يتحرك فيه الإنسان من خلال المضمون الفكري والتشريعي والعملي، فلا بد لنا من أن نستوحي ذلك في كل أوضاعنا العامة والخاصة على مستوى الكلمات والمشاريع والعلاقات والخلفيات النفسية لذلك كله، فلا مجال للباطل في شخصية الإنسان المسلم الذي يعتبر القرآن دستوراً له، وعنواناً لحركته في الحياة، ما يفرض العمل على التوازن في التخطيط التربوي على صعيد صنع الشخصية الإنسانية.

{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} لتبلِّغ الناس كيف تكون البشارة بالجنة للعاملين في خط الطاعة لله، وكيف يكون الإنذار بالنار للسائرين في خط معصيته، وليس لك أن تغيّر أو تبدِّل ما أُرسلتَ به من كتاب.

* * *

المغزى من إنزال القرآن تدريجياً

{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} أي فصلناه، ونزلناه آيةً آيةً وسورةً سورةً... { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} أي على مهل وتؤدة، ليتفهموا الفكرة بشكلٍ تدريجيٍّ عندما ينزل القرآن ليرسم الخطوط العامة ويحرّك التفاصيل من خلالها في نطاق المشكلة الطارئة التي تُعتبر كنموذجٍ لمشاكل مماثلةٍ، أو في نطاق السؤال الذي يلتقي بأكثر من علامة استفهامٍ مماثلةٍ، أو ليشجِّع حركةً في آفاق الجهاد، أو ليقوّي ضعفاً في ساحات الصراع، أو ليثير جوّاً نفسياً معيناً في مجالات التحدي، أو ليؤكد موقفاً أو يثبته في حالات الاهتزاز، أو ليعالج قضيةً بارزةً من قضايا الفكر، أو ليفسح المجال لتشريعات متنوّعة في حركة الواقع الإنساني، أو ليضع المنهج للفكر والأسلوب والحركة... وهكذا أراد الله للقرآن أن ينزل ليرافق حركة الرسالة في خط الدعوة والجهاد، ليواكب كل مراحلها، وليسدّد خطواتها، ويحلّ لها المشاكل المتحركة على أكثر من صعيد، على مستوى النظرية والتطبيق... ليوحي بالحركة ـ النموذج، إلى جانب الفكرة ـ الخط، ما يجعله يمثل حركيَّة الإسلام في امتداد التجربة، وانطلاقته الفكرية والروحية، في حركة الفكر والروح والتشريع.

وبهذا الأسلوب استطاع أن يربِّي جيل الإسلام الأوّل الذي احتواه القرآن بآياته، حتى عمّق في داخله أخلاقية الرسالة، وقوّة الإيمان، وفاعلية الحركة، لأن الإنسان لم يكن منفصلاً في حياته عنه، بل كان يلاحق خطواته أينما كان، ويفرض نفسه على ذهنه، فلا يستطيع الهروب منه أو الوقوف موقف اللامبالاة أمامه، لأن الواقع الذي عالجه كان يتمثل في صميم حياته.

ولو نزل القرآن دفعةً لما كان له هذا التأثير التربوي، بل ربّما أهمل الكثيرون من الناس قراءته نتيجة ضغط أشغالهم، أو وجود بعض الصوارف الخاصة التي تمنعهم من ذلك، كما يحدث للكثيرين من الناس الآن. وهذا ما ينبغي لنا أن نتمثله في حركة الدعوة، أو في خط الجهاد، أو في ساحة الصراع... فنثير القرآن في كل موقع مناسب وفي كل حالةٍ ملائمةٍ، لنجعل المسيرة منطبعة بطابعه، ومتحركةً بحركته، في سبيل الوصول إلى الشخصية القرآنية المنطلقة من مفاهيم القرآن وتشريعاته.

وهكذا أراد الله للنبي أن يقرأه على الناس بتأنٍّ ومهل، ليتفهموه بهدوء، ويعيشوه بعمق، ويبتعدوا بذلك عن طابع السرعة والانفعال. {وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً} أي أنزلناه على مهل، وهذا هو معنى التنزيل في كتب اللغة، وبذلك تكون الجملة توضيحاً لما سبق.

* * *

تأثير القرآن وامتداد الزمن

{قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ} فلن يتوقف الأمر عليكم ليتحدّد موقع القرآن تبعاً لموقفكم منه، من خلال ما قد تتخيلونه من أن الإيمان به يمنحه كل القوّة، وأن الكفر به يضعفه ويسقطه عن التأثير والاعتبار. فقد يكون هناك قوم آخرون غيركم، ممن يعيشون في هذه المرحلة، أو ممن يأتون بعدها، وهم الذين يملكون العلم عن دليلٍ وبرهانٍ، ويعرفون سرّ الإعجاز فيه، وسموّ العظمة في أسلوبه ومضمونه، فيفهمونه جيداً، ويخضعون له لإيمانهم العميق به، لأن العلم المنفتح هو الذي يفتح للإنسان أبواب الإيمان بالله وبرسالاته وبرسله.

{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِه} أي من قبل نزوله، سواء كانوا ممن أوتوا الكتاب، وهم أهل الكتاب المؤمنون الواعون، أو كانوا من غيرهم، وهم الحنيفيون الذين ساروا على الخط المستقيم في التوحيد وتمردوا على خط الشرك. {إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} القرآن في آياته التي تجسد عظمة الله، {يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا} في تعبير صارخ عن الخضوع المطلق لله والانسحاق أمامه، باعتبار أن السجود أعلى مظاهر الخضوع، ويمكن أن يكون ذكر الأذقان، باعتبار أن الذقن أقرب أجزاء الوجه من الأرض عند السجود، أو يكون المراد بها الوجوه على نحو المجاز تعبيراً عن الكل بالجزء، وهؤلاء الذين يسجدون لله بهذه الروح الخاشعة الذليلة ينطلقون من معرفتهم بالله الذي يطلُّ بهم على عظمته وأسرار قوّته.

{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ} في إحساسٍ عميقٍ بعظمة الله، وانفعالٍ بها، وتسبيحٍ خاشعٍ يثيرها في انفتاح الروح على الله.

{إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا} وهو إدخال عباده المتّقين الذين أخلصوا له في الفكر والعمل الجنّة {لَمَفْعُولاً } ثابتاً في مواقع الصدق، فلا بد له من أن يتحقق في موعده فلا يتخلّف عنه.

* * *

الإيمان حركة شعورية وتعبدية أيضاً

{وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ} في تعبيرٍ متحركٍ ناطقٍ عن الروح الخاضعة، بالسجود في مظهرٍ، وبالدمع في مظهرٍ آخر، ليشترك الكيان كله في التعبير عن موقف الإنسان من الله في خط العبوديّة الذي يتحرك في حالةٍ تصاعديّةٍ تبعاً للحالة الروحية المتنامية؛ {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} وتذلُّلاً على أساس أن التعبير عن المشاعر القلبية كلما ازداد إلحاحاً، كلما ازداد تأثيراً في نموِّ الحالة النفسية، لأن الممارسة تزيد في النمو الداخلي للروح وللضمير.

ونلاحظ، في التأكيد على جانب التعبير عن الإيمان بالله، بالهويّ إلى الأرض بالسجود، وبالاندفاع في البكاء في حالةٍ نفسيةٍ من الإجهاش الروحي أمام الله... بأن حركة الإيمان ليست مجرد حالةٍ تجريديةٍ في الذهن، بل هي، إلى جانب ذلك، حركةٌ في الشعور وفي التعبير، وزيادةٌ في تعميق الذل الإنساني في عبودية الإنسان لله، لتكون المعرفة معنى في النفس وشعوراً في القلب وحركة في الإيمان وفي الواقع.