تفسير القرآن
الإسراء / من الآية 110 إلى الآية 111

 من الآية 110الى الآية 111

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيتـان

{قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاَْسْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} (110-111).

* * *

معاني المفردات

{تَجْهَرْ}: ترفع صوتك.

* * *

مناسبة النزول

ولعل هذا الاستيحاء من الآية كان منطلقاً مما رواه في الدر المنثور، عن ابن عباس أنه قال: صلى رسول الله(ص) بمكة ذات يوم، فدعا الله فقال في دعائه: يا الله، يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا عن أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين. فأنزل الله: {قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ} الآية[1].

فإننا نلاحظ على ذلك ، أن هذا التوجيه لا يظهر من الآية ، فإن الظاهر منها هو التأكيد على عدم الاقتصار على أيّ اسم من أسماء الله في الدعاء، لأنها ـ بأجمعها ـ تشير إليه، وليست في معرض الحديث عن تعدد الآلهة في العبادة ووحدتها. وقد يكون من البعيد أن الوثنيين يتوجهون إلى الأسماء حتى لو كان مظاهرها الأبناء من الملائكة والجن، فإن التدبُّر في حديث القرآن عن هؤلاء يوحي بأنهم يعبدون الأوثان أو الملائكة أو الجن، باعتبار قربهم إلى الله، بطريقةٍ أو بأخرى، لا باعتبار أنهم مظهر الأسماء أو ما يقرب من ذلك؛ والله العالم.

* * *

أسماء الله ليست توقيفية

{قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ} أو أيّة كلمة من أسماء الله تريدون أن تدعو الله بها. {أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَآءَ الْحُسْنَى} فإن العبرة بالمضمون الذي تدل عليه الكلمة، في ما تدل عليه من ذات الله، فلا مشكلة لأنه هو الذي يعطي الاسم حسنه وقداسته، ما يجعل أيّ اسم من أسمائه اسماً حسناً.

وقد نستوحي من هذه الفقرة من الآية أن أسماء الله ليست توقيفية، فللإنسان أن يدعوه بأي اسم يعبر به عمّا يتناسب مع جلاله وكماله، فليست هناك حالةٌ رسمية على مستوى المصطلح. وهذا ما نلاحظه في كل الأسماء التي وردت في القرآن في التعبير عنه بصفاته، كالحليم والكريم والجبّار والمتكبِّر والغني والعليم والقادر والقوي والقاهر وأمثالها، مما لا تجد فيه أيّة خصوصية إلا دلالتها على مضمون الصفة التي يُراد دعوة الله بها، من خلال ما يريد الإنسان إثارته أمام الله من خلالها.

وقد يكون الحديث عن كلمة الرحمن بالخصوص، لأن العرب كانوا لا يألفون هذه الكلمة في حديثهم عن الله، كما يظهر من الآية الكريمة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان:60].

وربما استوحى بعض المفسرين من الآية تأكيدها على توحيد الذات وتوحيد العبادة، في مقابل ما يراه الوثنيون من توحيد الذات وتشريك العبادة، وذلك لأنهم يعتبرون تعدد الأسماء في دعوة الله مظهراً لتعدد العبادة، لأنها هي التي يتوجه إليها الناس، أما الذات الإلهية المقدسة، فهي أرفع من أن يتمكن الناس من التوجه إليها. وجاءت الآية لتكشف وجه الخطأ في رأيهم، بأن هذه الأسماء مهما تنوّعت، فإنها تكشف عن الذات المقدّسة ولا تمثل شيئاً مستقلاً في نفسه.

* * *

اعتدال الصوت في الصلاة

{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أي لا ترفع صوتك بالصلاة فتبالغ به، ولا تخفض صوتك به حتى لا يسمعك أحد أو لا تسمع نفسك، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} واجعله معتدلاً متوسطاً بينهما، لأن جوّ الصلاة يفرض التوازن في طريقة التلفظ بكلمات القرآن أو الدعاء أو التسبيح، فإن ذلك يساهم في استيعاب المضمون بطريقة هادئة روحيّة، لا تجعل الكلمة تغيب في الهمس، ولا تصرخ في الجهر، بل تتحرك في وعي السمع بما يضمن نفاذها إلى القلب، وانسيابها في الروح.

وقد اختلف الرأي في أن الحكم يشمل كل صلاة، باعتبار أن ما يراد بكلمة {بِصَلاتِكَ} الاستغراق، أي كل صلاة، فيكون حكماً لكل صلاة، أو أن الحكم يتعلق بالمجموع من حيث المجموع، أي أن لا يجهر بجميع الصلوات ولا يخافت بها، بل يجهر في بعض ويخافت في بعض، ولكن الظاهر هو الأوّل، لأن الآية في معرض الحديث عن طبيعة الجو الصلاتي، لا عن أفرادها، وذلك من خلال الطريقة التي يقرأ بها المصلي، مما لا يتناسب مع التفريق بين صلاة وأخرى.

وإذا كانت بعض المذاهب الإسلامية تفرض الإخفات في القراءة في الظهرين والجهر فيها في الصبح والعشاءين، فلا بد من الالتزام معها بالتخصيص بحالة القراءة أو بتوجيه ذلك بأسلوبٍ آخر. وذلك متروك للبحث الفقهي.

* * *

تربية النفس بالتوجه إلى الله

{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} وهذه هي الكلمة التي يريد الله للإنسان أن يقولها في كل زمان ومكان، ليعمِّق في وعيه الفكري الإحساس الوجداني بالله في مظاهر عظمته ومواقع نعمته، فيتوجه إليه بالحمد والثناء، من الموقع المنفتح على آفاق العظمة لديه ليزداد إيماناً في كل كلمة حمد، ويتعمّق توحيدياً في كل التزام بنفي الولد عنه ورفض الشريك له، في العقيدة والعبادة، ليقف الإنسان أمام الله الواحد، فلا يتوجه إلى غيره، ولا يخضع لسواه. إنه التوجيه التربوي الذي يريد أن يؤكد العقيدة في داخل النفس، أمام أيّة حالة اهتزازٍ أو ارتباكٍ، فلا يكفي أن تظل خاطرةً في الضمير، بل لا بد من أن تكون حركةً في التعبير.

 

* * *

كلما عظم الله في النفس صغر الآخرون

{وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} في الوعي الداخلي الذي يدخل دائماً في مقارنة بين عظمة الله وبين الآخرين، ليشعر بأن الله أكبر من كل شيء، وأقوى من كل وجود، لأنه هو الذي يعطي الأشياء حجمها وقوتها، وهو المهيمن على ذلك كله. وكلما عظم الله في النفس، صغر الآخرون في الذهن، فينعكس ذلك على الفكر والحركة والعمل.

ـــــــــــــــ

(1) الدر المنثور، ج:5، ص:348.