من الآية 1 الى الآية 8
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا* قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا* مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا* وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا* مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا* فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً* إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً* وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} (1ـ8).
* * *
معاني المفردات
{عِوَجَا}: العوج: العطف من حال الانتصاب، والعَوَج ـ بالفتح ـ يقال في ما يدرك بالبصر سهلاً كالخشب المنتصب ونحوه، والعِوَج ـ بالكسر ـ يقال في ما يدرك بالفكر والبصيرة.
{قَيِّماً}: مستقيماً.
{بَأْسًا}: عذاباً.
{بَـاخِعٌ}: قاتل، مهلك.
{مَّاكِثِينَ }: خالدين.
{صَعِيداً }: الصعيد: ظهر الأرض.
{جُرُزاً }: أرضاً لا نبات فيها.
* * *
الوعي الروحي للذات الإلهية
وتبدأ السورة بحمد الله، لتوحي للإنسان بالوقوف أمام الكتاب في مضمونه الفكري والروحي، وفي إيحاءاته التربوية، باعتبار أنه مصدرٌ للثناء على الله، لما يمثله ذلك من شؤون العظمة والنعمة لله، ليتعلم الإنسان بأن يكتشف في كل شيءٍ مما يحيط به أو مما ينزل عليه، وجهاً من وجوه الوعي الروحي لله في مجال التصور للذات الإلهية. وتتحرك هذه الآيات للتأكيد على ذلك، في تفصيلٍ سريعٍ للمضمون الحركي للكتاب في أجواء التبشير والإنذار، وفي احتواء المشاعر السلبية للنبي، في مواجهته للمشاكل الواقعية، وإفرازاتها النفسية عندما يشاهد البعد عن الإيمان كظاهرةٍ تتحدّى رسالته في مجتمعه الذي كان يصرّ على المكابرة والعناد.
* * *
الحمد المطلق لله تعالى
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} والحمد يعني الثناء. هذه الكلمة توحي بالحمد المطلق في وعيٍ عميقٍ للجانب الذي ينطلق فيه الثناء. {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} الكامل الشامل لمصالح الإنسان التي يحتاجها من فكرٍ وعملٍ ومنهجٍ للحياة في ما أجمله من ذلك، أو في ما فصّله، في الخط المستقيم الذي لا التواء فيه ولا انحراف. {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أي لم يجعله ملتبساً لا يفهم ومعوجاً لا يستقيم.
* * *
امتداد القرآن في حياة الإنسان
وهذا التأكيد على الجانب السلبي في التعبير عن الاستقامة في كتاب الله ينطلق من دراسة الفكر، الذي يثيره القرآن بوضوحٍ وبساطةٍ تجعله قريباً من الوجدان، في الوقت الذي لا يكون فيه بعيداً عن العمق، لأنّ عمقه لا يعيش في أجواء التكلف للفكرة والتعقيد في حركتها، بل ينطلق من امتداده في الجانب العميق من حياة الإنسان، ومن دراسة التشريع الذي يواجه حاجات الإنسان من موقع الفطرة السليمة ومن طبيعة الواقع الذي يتحرك فيه، ما يجعله يتحرك في خط التوازن الذي لا يغفل أيّ جانبٍ من جوانبه، فلا يميل فيه جانبٌ على جانب، بل تلتقي فيه الجوانب كلها في خط التكامل الإنسانيّ. وهكذا ينطلق المنهج القرآني في أجواء العقل والتجربة، ليستفيد من الملاحظة الفكرية إلى جانب الملاحظة الحسية، في استلهام الفكرة التي تحكم حياته الفكرية والعملية. وهذا ما يجب أن يستلهمه القارىء الواعي للقرآن، لئلا يقع في الخطأ الذي ينحرف به عن خط الاستقامة، عندما يستغرق في الفهم الذاتي الذي يخضع لكثيرٍ من الرواسب أو الانطباعات اللاّشعورية التي تبتعد به عن التوازن في النظرة، أو الاستقامة في الفكرة.
* * *
منطلق الإسلام مصالح الناس
{قَيِّماً} على الإنسان، في ما يريد أن يرعى به مصالحه الفردية والاجتماعية في الدنيا والآخرة، ويمنعه من اختيار الجانب السيّىء الذي يُرهق حياته ومصيره، لأنه لا يملك ـ في المفهوم القرآني ـ نفسه، فلا حرية له للإضرار بها، لأن الله الذي خلقه هو الذي يملك منه ما لا يملكه من نفسه. وهذا هو الذي يجعل للإسلام ـ في قرآنه ـ القيمومة المطلقة على حركة الإنسان في حياته، ويضغط عليه في سبيل التطبيق الدقيق لآياته، لأن الإسلام لم ينطلق من حالةٍ مزاجيّةٍ عبثيّةٍ، بل انطلق من مصالح الإنسان في ما يأمر به، ومن المفاسد التي تربك حياته في ما ينهى عنه، ولذلك فلا مجال له لاختيار فكر آخر غير فكره، أو شريعةٍ مغايرةٍ لشريعته، فإن ذلك يمثل الانحراف الخطير عن موقع العبودية لله، وعن أساس المصلحة العليا للإنسان وللحياة التي يعيشها في كل مجالاته.
* * *
المؤمنون والنعيم الخالد
{لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} وهو عقابٌ شديدٌ من عند الله في يوم القيامة، ينذر به الكافرين به وبرسله وبكتبه، والمنحرفين عن دينه القويم في العقيدة والعمل... {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} فيقرنون الفكر بالطاعة لكي يصلح أمرهم وحياتهم من خلال الشريعة الحقة. {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} حين يدخلهم الله جنته، ليعيشوا النعيم الخالد والرضوان الإلهي فيها. وهذا هو الأجر الحسن الذي ينتظره المؤمنون العاملون، في تطلعاتهم المستقبلية، وفي أشواقهم الروحية. {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} فهو النعيم الخالد الذي لا خروج منه ولا فناء له. وذلك هو الفرح الأبدي الذي يعيشه المؤمنون في أشواقهم وتطلعاتهم في الدنيا، وفي عيشهم في الآخرة.
* * *
الانعكاسات السلبية للشرك في حياة الإنسان
{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} في إنذارٍ خاصٍ يضغط على حالة الانحراف التصوري في العقيدة، في نسبة الولد إلى الله، سواءٌ في ذلك ما كانوا يقولونه عن الملائكة أنهم بنات الله، وعن الجن في تعبيرٍ مماثلٍ، وعن السيد المسيح أنه ابن الله، كما يقولون عن عزيرٍ مثل ذلك. وقد كرر الإنذار وخصَّصه، للإيحاء بخطورة هذه الفكرة على مجرى الحياة العملية للإنسان، في انفعاله الوجداني ببعض المخلوقات، وادّعاء صلتها بالله بطريقةٍ تبتعد عن صفاء التوحيد، وتسيء إلى عظمة الله التي تفرض تنزيهه عن مشابهة المخلوقين، وذلك ممّا لا يتناسب مع كماله وجلاله ـ وتؤدي بالإنسان إلى الخضوع للمخلوق بنسبةٍ قريبةٍ من خضوعه للخالق، فيتألّه في نفسه، وينعكس ذلك على مجرى حياته، وعلى حركة الخرافة في عمق ذاته، وسيطرة الجهل على قناعاته.
* * *
تفاهة أدلة عقيدة الشرك
{مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَآئِهِمْ} لأنهم لا يملكون أيّة أدلّةٍ أو براهين على هذه العقيدة، بل ينطلقون من انطباعاتٍ ساذجةٍ، متخلّفةٍ، ناشئةٍ من الاستغراق في الجوانب البارزة للخصائص غير العادية أو غير المألوفة لهذه المخلوقات، التي يمنحونها هذه الصفة من دون التفاتٍ إلى أن الله قد يمنح بعض عباده قدرات لا يمنحها لغيرهم، لأن هناك دوراً محدّداً يفرض ذلك، أو لأن طبيعة الموقع الذي يتحرك فيه هذا المخلوق يتوقف على ذلك. فالله الذي أعطى القدرة المألوفة، هو الذي يعطي القدرة غير المألوفة، بالإضافة إلى أن الألفة لا تمنح الشيء الحالة الذاتية الطبيعية، ليكون المقابل لها حالةً خارقةً خارجةً عن الطبيعة، فلو دققنا في عمق هذه الحالة أو تلك، لرأينا سرّ الإبداع والعظمة مشتركاً بينهما، في نوعية الخصائص التي يتميز بها هذا عن ذاك، ولكن الألفة تخفف عظمة الأشياء في الوجدان.
وهذا ما يفرض علينا، في المنهج التربويّ للتصور، عدم الاستغراق في الظواهر المثيرة أو إعطائها قداسةً غير حقيقيةٍ، من خلال مشاعر الانبهار التي يخضع فيها الإنسان لإحساسٍ غير طبيعيٍّ في استيحاء العظمة الخارقة من بعض الظواهر، لأن الجهل بعمق السرّ الحقيقي للحالة أو للظاهرة، لا يعني أن نقفز إلى وضع التقديس لنجعله الوجه البارز للمسألة أو العمق الطبيعي لها، من دون أساسٍ للاستغراق في دائرة التهاويل الغامضة المسيطرة على الفكر والشعور.
* * *
لا بد للمنطق التقديسي من موازين دقيقة
وربما كان علينا أن نعطي الأشياء حجمها الطبيعي في الدائرة الإنسانية عندما تتصل المسألة بتعظيم إنسانٍ ما، إذ لا بد من أن ندخل في عملية تقييمٍ دقيقةٍ للمنطق التقديسي من خلال الخصائص المميزة، لنعرف ـ جيّداً ـ هل هي متصلة بالذات في جوانب العظمة في عالم الأسرار، أو هي متصلة بالدور في مواقع الحركة للرسالة أو للرسول أو للوليّ... وبذلك نبتعد عن التضخيم الذي يقودنا إلى الغلو في الشخصية إذ نمنحها ما ليس فيها، وبالتالي إلى الانحراف في العقيدة والعمل.
ولعلنا إذا درسنا الكثير من التصورات الفكرية في العقيدة للأشخاص وللأحداث، لرأينا أننا في تقويمنا لها نحمِّلها أكثر مما تتحمل، وأننا لا نملك الكثير من الأسس العلمية، أو المصادر الموثوقة لكثير من هذه التصورات والانطباعات، تماماً كهؤلاء الذين بلغ انحرافهم في الجانب الشعوري الغامض المتعلق بالأشحاص والأشياء إلى الموقع الذي جعلوهم فيه أبناءً لله من دون أساسٍ علميٍّ ثابتٍ.
* * *
مصير الإنسان مرتبط بصوابية تصوراته لله تعالى
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} لأنها الكلمة التي تسيء إلى موقع الله في الوجدان، وموقعه في ذاته، وتنحرف بالإنسان عن التوازن في فهم مسألة الألوهية. وهذا ما يعطي الكلمة الخطورة السلبية، لأنها تتعلق بالعقيدة في الله الذي هو مصدر الوجود، ولا شك أن التصور الصحيح أو الخاطىء يقود المسيرة الإنسانية إلى النتائج الإيجابية أو السلبية الكبيرة على صعيد المصير في الدنيا والآخرة.
* * *
لا أساس للشرك بالله تعالى
{إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا}، لأنهم لا يملكون أساساً لاعتبار هذا القول صورةً عن الحقيقة، ولكننا نملك الدليل على أنه يجانبها ويبتعد عنها، ما يجعله في موقع الكذب، لا في موقع الصدق، من خلال المعرفة بالله في استغنائه عن الولد، الأمر الذي يرمي هذه الكلمة في دائرة العبث واللاّمعنى أو يطابقها بالشيء الذي ليس له موضوعٌ أو أساسٌ.
* * *
الرسول(ص) وحسرته على الكفار
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثارِهِمْ} الخطاب لرسول الله(ص) الذي كان يعيش الألم والحسرة أمام بعد المشركين وإعراضهم عن القرآن وعن الدعوة إلى الله، وهذه المواقف تمثل خطوات المشركين العملية على صعيد خط الرسالة، تماماً كما هي الآثار التي تتركها أقدامهم على الطريق في حالة السّير. وربما تؤدي به هذه المشاعر السلبية الضاغطة إلى الهلاك، عندما تتعاظم أو تتحول إلى عقدة وتساؤل دائم عن السبب في هذا الموقف المضاد، وعن الضعف الذي يحيط بشخصه وبالساحة أمام قوة هؤلاء، وعن أشياء كثيرةٍ قد تطوف في نفسه وتضغط على وجدانه... {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} والمراد به القرآن الذي أنزله الله عليه، فتمتلىء روحه بالأسى والأسف لأنهم لم يستجيبوا لدعوة الإيمان به.
* * *
حسرة الرسول (ص) مظهر لكماله الإنساني
ونتساءل: هل هذا تعبيرٌ عن حالةٍ حقيقيةٍ في مشاعر النبي محمد (ص)، وهل يتناسب الوضع الشعوري مع العصمة لديه؟ ونجيب بأن هذه المشاعر لا تمثل حالة نقص، بل نجد فيها حالة كمالٍ إنسانيٍّ، ذلك أنها تصدر عن حسٍّ إنسانيٍّ رهيفٍ ناتجٍ عن الشعور بالمسؤولية أمام الآخرين أيّاً كانوا، فالنبي(ص) يعي نفسه رسولاً للعالمين، وبالتالي منقذاً لهم، ولهذا فبقدر ما يجد نفسه معنيّاً بالذين يتبعونه، يجد نفسه معنيّاً بالذين لم يتبعوه، أمثال الجاحدين والكافرين، لأن هؤلاء بحكم ما هم عليه، يستحقون الإشفاق أكثر من غيرهم، لأنهم سيسقطون في مهالك الكفر والطغيان لا محالة، فليست هناك عقدةٌ ذاتيةٌ، بل هي حالةٌ إنسانيةٌ رساليةٌ، في المستوى الرفيع لروحية الإنسان تجاه الآخرين.
ثم ما الذي يمنع الرسول من الخضوع للحالات البشرية التي يعيشها كل الناس في مواقع الضعف البشري، تماماً كما يمرض ويتألم ويموت، لأن المشكلة فيه ليست هي نقاط الضعف الذاتية، بل المشكلة هي تأثيرها على مستوى الشخصية الرسالية في حركته في الحياة، في آفاق الوجدان أو الواقع. ولا مانع من أن يتأثر الإنسان ـ الرسول، كما يتأثر غيره، بجحود الآخرين برسالته، ويفرح بإقبالهم عليها، لا سيَّما إذا كانت الرسالة لمصلحتهم، ما يجعل هذا الانفعال متصلاً بالذات من جهةٍ، وبالجانب الإنساني من حياة الناس من جهةٍ أخرى.
وقد جاء القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته، ليوضِّح للنبي طبيعة هذا الجحود وظروفه وأسبابه الطبيعية، ما يجعله يشعر بأن المسألة لا تستحق هذا القدر الكبير من الاهتمام النفسي، أو الشعور بالخطورة على مستوى حياة الناس أو الرسالة.
وإذا كان الخطاب موجهاً إلى الرسول(ص)، فإن الامتناع عن التأثر بهذا الموقف السلبيّ، من قِبَل الكافرين، موجٌّه إلى كل داعية لله وللإسلام، بأن يعيش هذا الجوّ، لئلا يقوده الانفعال السلبي إلى الوقوع في الإحباط واليأس والسقوط... فإن هذا قد يكون ممتنعاً في شأن النبي(ص) الذي تمنعه عصمته من ذلك، ولكنه ليس ممتنعاً في الآخرين من الدعاة إلى الله، الذين قد يسقطون تحت تأثير ضعفهم، فيفقدون التوازن الفكري والعملي في مواجهة الحالات السلبية في الواقع.
* * *
النعم وفلسفة البلاء الإلهي
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا} وذلك بما أنعمنا على الناس من جاهٍ ومال وأولاد، وأعطيناهم من امتيازاتٍ، يستمتعون بها، ويتنافسون فيها، وقد يتقاتلون في سبيل الحصول عليها، كما يتعقَّدون في مواجهة قضايا الحق والباطل والخير والشرّ من خلال تأثيرها على مصالحهم وأوضاعهم في خدمة هذه الشهوات والامتيازات... إنا جعلنا ذلك كله لهم، من خلال ما أودعناه في الأرض من ذلك، ولكن لا لأنه يمثل رسالة الحياة وهدفها ومعناها في واقع الإنسان، بل من أجل أن يكون موقعاً للتجربة والحركة في اتجاه تأكيد الإرادة، على أساس اختيار القرار الأفضل لمصلحة الالتزام من قاعدة الحرية الإنسانية في مواقع الصراع، لينطلق التسابق بين الناس من أجل تحديد الأحسن في عملية إثارة للطموح في الاتجاه الصحيح.
* * *
وجوب عدم الاستسلام للدنيا
{لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} وذلك في ساحة تجربة الحياة التي تتنوّع فيها المغريات، وتختلف فيها الشهوات، وتتكاثر فيها الأطماع، مما يعيش الإنسان معه حالة التحدي الصارخ الذي يواجه إيمانه ويهز موقفه، فإذا انطلق ليتحرك في الاتجاه الأفضل الذي يتمرّد فيه على الشهوة الحرام، والمال الحرام، والجاه الحرام... ويستبدل ذلك بالطاقة التي تخدم الحياة والإنسان في خط الله، فإنه يكون ممن يعيش التفاضل في العمل تجاه الآخرين، أمّا إذا سقط في التجربة، فإنه يسقط في المصير. ومهما كان الوضع العملي للإنسان، في نتائجه السلبية أو الإيجابية، فإن هذه الحياة الحلوة الرخيّة، التي تشتمل على الزينة المادية والمعنوية التي يستمتع بها الناس، لن تبقى في هذه الأرض، فستعود أرضاً لا تنبت شيئاً، كأنها تأكل النبات أكلاً، فلا تعطي الحياة شيئاً، ولن تحقّق للإنسان أيّة متعةٍ.
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} أي أرضاً لا نبات فيها، وهو كنايةٌ عن فقدان حركة الحياة فيها، باعتبار أن النبات يمثل الحياة النامية الحلوة التي تمد الإنسان بالقوّة عندما تمدّه بالغذاء، وتمنح الوجود جمالاً، من خلال ما تثيره فيه من الخضرة الطافرة الحلوة.
وهذه هي الصورة التي يريد القرآن أن يؤكدها في وعي الإنسان، فلا يستسلم لزينة الحياة الدنيا، فيعتبرها شيئاً خالداً يستريح له، ويطمئن إليه، ويتحرك معه كهدفٍ يسعى إليه... بل عليه أن يعتبرها مجرد زينةٍ طارئةٍ، كحالةٍ عابرةٍ، ليستغرق في داخلها في نطاق الفكرة التي يستوحيها، والدرس الذي يأخذه، والعمل الذي يعمله... ليبقى له ذلك منها، كرصيدٍ للدار الآخرة، عندما تتحول الحياة إلى شيءٍ لا أثر فيه لأيّة حركةٍ ولأيّة حياة.
تفسير القرآن