من الآية 9 الى الآية 13
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آياتِنَا عَجَبًا* إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا* فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا* ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا* نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدًى} (9ـ13).
* * *
معاني المفردات
{الْكَهْفِ}: المغارة الواسعة المحفورة في الجبل، فإذا صغر فهو غار أو مغارة.
{وَالرَّقِيمِ}: أصله من الرقم وهو الكتابة، والمراد به هنا اللّوح الذي كتبت فيه أسماء أصحاب الكهف.
{أَوَى}َ: التجأ.
{الْفِتْيَةُ}: جمع فتى من الفتوة والشباب.
{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ}: أنمناهم نومة عميقة لا تنبههم معها الأصوات.
{أَمَدًا}: غاية.
{نبَأَهُم}: خبرهم.
* * *
مناسبة النزول
وربما تذكر بعض الأحاديث المأثورة أنها كانت مورد سؤال من قريش لرسول الله، في ما تعلَّموه من أحبار اليهود. فقد جاء في تفسير القميّ حديث مرفوع إلى أبي عبد الله (ع) قال: كان سبب نزول سورة الكهف أن قريشاً بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران: النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود مسائل يسألونها رسول الله (ص).
فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: اسألوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثم اسألوه عن مسألة واحدة، فإن ادّعى علمها فهو كاذب.
قالوا: وما هذه المسائل؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا وغابوا وناموا، كم بقوا في نومهم حتى انتبهوا؟ وكم كان عددهم؟ وأي شيء كان معهم من غيرهم؟ وما كان قصتهم؟ وسلوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه من هو؟ وكيف تبعه؟ وما كان قصته معه؟ وسلوه عن طائف طاف مغرب الشمس ومطلعها حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج من هو؟ وكيف كان قصته؟ ثم أملوا عليهم أخبار هذه المسائل الثلاث وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه.
قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة! فإن ادعى علمها فهو كاذب، فإن قيام الساعة لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.
فرجعوا إلى مكة واجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق وإن لم يخبرنا علمنا أنه كاذب، فقال أبو طالب: سلوه عما بدا لكم، فسألوه عن الثلاث المسائل.
فقال رسول الله(ص): غداً أخبركم ولم يستثن، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً، اغتم النبي(ص) وشك أصحابه الذين كانوا آمنوا به، وفرحت قريش واستهزأوا وآذوا، وحزن أبو طالب.
فلما كان بعد أربعين يوماً، نزل عليه سورة الكهف، فقال رسول الله(ص): يا جبرائيل لقد أبطأت، فقال: إنا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن الله، فأنزل الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آياتِنَا عَجَبًا} ثم قصّ قصّتهم[1].
وهذا نموذح للناس الذين انطلقوا إلى الحياة من موقع الرسالة، التي تؤكد نفسها بالممارسة والعمل، في مواجهة الناس الذين اختنقوا في داخلها وتجمّدوا في دائرتها، فلم يتحركوا بعيداً عنها. ولكن ميزة هؤلاء المؤمنين أن الله قد أدخل في قصتهم عنصر الغيب، الذي يبعث على الدهشة ويدعو إلى الاستغراب، فقد أنامهم الله مدة طويلة، ثم أحياهم من جديد لحكمة خفيّةٍ، من خلال ما يريده من إثارة الأمور الخارقة للعادة في الحياة.
وقد تكون القصة صادفت تعجُّباً واستغراباً لدى الناس آنذاك، لأنهم إذا كانوا يستبعدون أو ينكرون عودة الناس إلى الحياة بعد الموت في يوم القيامة، فكيف يتقبلون عودة بعضهم إلى الحياة في الدنيا بعد أن شبعوا موتاً مدة ثلاثة قرون أو تزيد؟! وهذا ما جعل القرآن الكريم ـ في هذه الآيات ـ يستنكر اعتبارها أمراً عجيباً يدعو إلى الاستنكار، لأن العجب إنما يكون في فعل الإنسان لما هو غير عاديٍّ أو مألوفٍ، أمّا ما يكون من آيات الله، فإن المسألة لا تدعو إلى أيّ استغرابٍ، لأن الكون كله، في مظاهره الكونية أو الإنسانية أو الحيوانية، مظهرٌ لقدرة الله التي لا يعجزها أو يقف أمامها أيّ شيء.
وهذا ما أراد القرآن أن يعمّقه في وعي الناس من خلال القصة، وما توحي به من فكرة البعث، كنموذجٍ حيٍّ مصغَّرٍ للفكرة، بالإضافة إلى الدروس الأخرى التي تريد للدعاة إلى الله أن يتمثلوها في وجدانهم الثقافي وحركتهم العملية في خط الدعوة والجهاد.
* * *
أصحاب الكهف والرقيم
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آياتِنَا عَجَبًا} هل تظن أن هناك عجباً في قصة هؤلاء، التي كانت آيةً من آيات الله، فهل يعجب أحدٌ من آياته؟!
والظاهر أن هؤلاء جماعةٌ واحدةٌ، وإن ذُكروا باسمين، فهم أصحاب الكهف لدخولهم فيه وحدوث ما حدث لهم في داخله، وهم أصحاب الرقيم، لأن قصتهم ـ كما يقال ـ كانت مكتوبةً في لوحٍ منصوبٍ هناك، أو في خزانةٍ الملوك. وهناك وجوهٌ أخرى، يقول بعضها إن الرقيم اسم الجبل الذي فيه الكهف، أو الوادي الذي فيه الجبل، أو البلد الذي خرجوا منه.
وقيل إنهم جماعتان، فصَّل الله قصة جماعة، ولم يفصِّل قصة الأخرى، ولكن هذا بعيدٌ عن طبيعة الجوّ وحركة القصة في القرآن، لأن إهمال قصة أصحاب الرقيم، بعد التعرض لذكرهم، يبتعد عن جانب البلاغة في القرآن، لأن طريقة التفاهم بين الناس في أبسط مواقعها لا تسمح بأن يهمل الإنسان الحديث عن شيء أو شخص أو جماعة... بعد أن يكون قد ذكرها بالاسم في بداية الكلام، لأن ذكر ذلك يثير الاهتمام بالمعرفة، ويدعو المتكلم إلى الاستجابة إلى ذلك.
* * *
الفرار من الظلم والاضطهاد
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} واستقرّوا فيه. ولكن لماذا جاؤوا إليه؟ هل أرادوا الخلوة للعبادة أو للتأمّل أو للعزلة عن الناس ـ كما يفعل النسّاك في العصور السابقة في ما يحدّثنا به التاريخ عن الكثيرين منهم ـ أم أنهم أرادوا الفرار بأنفسهم من اضطهاد الظلمة أو الكفرة الذين يضغطون على حرية المؤمنين والمستضعفين؟
إن الآية لا تصرّح بشيء من ذلك، ولكن الروايات تؤكد موضوع الفرار من الاضطهاد. فقد جاء في تفسير القمي عن الإمام جعفر الصادق(ع)، قال: إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملكٍ جبّارٍ عاتٍ، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام، فمن لم يجبه قتله، وكان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عز وجل، ووكل الملك بباب المدينة، ولم يدع أحداً يخرج حتى يسجد للأصنام، فخرج هؤلاء بعلّة الصيد، وذلك أنهم مروا براعٍ في طريقهم، فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الرّاعي كلب، فأجابهم الكلب وخرج معهم.
قال(ع): فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلّة الصيد هرباً من دين ذلك الملك، فلما أمسوا، دخلوا إلى ذلك الكهف والكلب معهم، فألقى الله عليهم النعاس[2].
وقد تكاثرت الروايات في الحديث عن خصوصياتهم وخصوصية الملك الذي كانوا في زمانه، وكيفية خروجهم، وما إلى ذلك من أمور لا دخل لها بالفكرة القرآنية في نطاقها العام. ولكن الروايات تتفق على فكرة الخروج على أساس التخلُّص من ظلم الظالم الكافر، الذي يريد أن يفرض على الناس وعليهم عبادة الأصنام، بالقهر والتعسُّف. ولم يكن بهم قدرةٌ على المواجهة أو العيش في ظل هذا الجوّ الضاغط، لأنهم لا يجدون مبرراً للخضوع له، ليكونوا بانسجامهم مع الكفر مصدر ضلالٍ للناس، فكانت خطتهم الهرب والخروج إلى منطقةٍ خفيّةٍ يبتعدون بها عن مواطن الضغط الشديد، ليستطيعوا التخطيط بهدوء للمرحلة المقبلة. وقد يكون اختيارهم لهذا الكهف، الذي يبدو أنه لم يكن بعيداً عن البلد، ليكونوا قريبينٍ إلى الناس هناك، فلعلهم يأتون إليهم أفراداً، أو لعلّهم يذهبون في الليل خفية عن الأعين ليجتمعوا بهم، ليتابعوا الدعوة إلى الإيمان، لأنهم لا يريدون الهروب من المسؤولية. وربما كانوا حائرين في أمرهم، لا يعرفون السبيل إلى الامتداد في خط الدعوة، ولا يملكون الخطة التي يواجهون بها المرحلة، فأرادوا أن يأخذوا بعضاً من الوقت للتفكير وللابتهال الخاشع إلى الله ليلهمهم الصواب، في ما يريدون الانطلاق فيه.
قد يكون هذا كله، أو بعضه، هو ما كانوا يعيشونه عندما اندفعوا إلى الكهف واستقروا فيه. وشعروا بالأمن والاطمئنان، فرفعوا أيديهم إلى الله، {رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} في شعورٍ عميقٍ بالانفتاح على الله في ساعات الشدّة، التي لا مجال فيها إلا للرحمة الإلهية التي تفتح لهم أبواب الحلّ، وتنزل عليهم ألطاف الخير، وتسير بهم في اتجاه النجاة... وربما كان لنا أن نستوحي من ذلك، أنهم تركوا أمرهم إلى الله، ولم يقترحوا شيئاً محدداً، بل كانوا يتطلعون إلى الرحمة المطلقة التي تغمرهم بالفيض الإلهيّ من دون حدود.
{وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} في ما يريدون أن يواجهوه من مواقف، أو يسيروا فيه من مسالك، أو ينطلقوا إليه من غايات، لأنهم لا يملكون وضوح الرؤية للمستقبل الذي ينتظرهم، فقد كانوا يعيشون في الساحة التي يعرفونها جيداً ويعرفون كيف يتعاملون معها، ولكنهم الآن في ساحةٍ مجهولةٍ لا يعرفون أين هي، وكيف هي، وما هي الأوضاع المحيطة بها، الأمر الذي يجعلهم يخافون الضلال في هذا الجو الغامض الموحش الذي لا يعرفون مداه.
* * *
ضرورة الرجوع إلى الله في كل الأوقات
وهذا ما قد يحتاج العاملون في سبيل الله إلى استلهامه في أوقات الشدّة ومواضع الحيرة، عندما تضغط عليهم القوى الكافرة والطاغية بضغوطها الوحشية والهمجية، ويتحيّرون في مفترق الطرق، فلا يعرفون إلى أين يسيرون.
إن الرجوع إلى الله في طلب الرحمة، وتهيئة سبيل الرشاد، يمنح المؤمنين العاملين قدراً كبيراً من الاستقرار الروحي، والطمأنينة النفسية، والهدوء الفكري، والثقة بالمستقبل... من خلال الثقة بالله، والاطمئنان إليه، والركون إلى ساحته الحصينة... وبذلك يمكنهم مواصلة الطريق نحو الهدف الكبير، بالرغم من كل الصعوبات والتحديات التي تحيط بهم من كل جانب.
{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} قال صاحب الكشاف: أي ضربنا عليها حجاباً من أن تسمع، يعني أنمناهم إنامةً ثقيلةً لا تنبههم فيها الأصوات، كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يُستنبه، فحذف المفعول الّذي هو الحجاب، كما يقال: بنى على امرأته، يريدون: بنى عليها القبة[3].
وقال في مجمع البيان: ومعنى ضربنا على آذانهم سلّطنا عليهم النوم، وهو من الكلام البالغ في الفصاحة. يقال: ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به، قال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير على يد فلان إذا منعه من التصرف، قال الأسود بن يعفر ـ وكان ضريراً ـ:
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ضَرَبَتْ عليّ الأرضُ بالأسوادِ
وقال: هذا من فصيح لغات القرآن التي لا يمكن أن يُترجم بمعنى يوافق اللفظ[4]. وهكذا تؤكد الآية المعنى الكنائي، الذي يعبر عن هذا النوم الثقيل غير الطبيعي، الذي يشبه الموت لولا حركة الجسد التي توحي بالحياة، في ما توحي به الآيات الأخرى..
ومرت السنون.. في عددها القليل أو الكثير، في ما يختلف الناس فيه.
{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} من رقدتهم الطويلة، كما يبعث الإنسان بعد الموت، {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا} أي ليظهر ـ من خلال ذلك ـ الفريق الأكثر دقّة في إحصاء السنين التي لبثوها في هذا النوم الطويل. ومن الممكن أن تكون الإشارة إلى الناس الذين اختلفوا في أمرهم، ومن القريب أن تكون الإشارة إلى أصحاب الكهف الذين وقع الخلاف بينهم في تحديد المدّة. وربما كان المراد من نسبة العلم إلى الله، كنتيجةٍ لبعثهم من رقدتهم، إظهار ما يعلمه الله من ذلك، وقد يكون ذلك من خلال الدراهم التي كانت معهم، كما يذكره بعض المفسرين.
* * *
السّموّ الرّوحيّ والفكريّ
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ} بعيداً عن كل التفاصيل التي يذكرها الناس في حديثهم، مما يحمل من الأكاذيب والأساطير الشيء الكثير.
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ} فاهتدوا إلى طريق الإيمان، وعاشوه فكراً وروحاً ومنهجاً للإنسان وللحياة، فانفتحوا على الله في كل أفكارهم ومشاعرهم ومناهجهم وخطواتهم في الحياة... فكان الله هو كل شيء عندهم في عمق وجودهم المتحرك {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} على أساس السنَّة الإلهية التي تمدّ المؤمنين بالفيض الروحي الذي يشرق في حياتهم، فيضيء لهم سواء السبيل، ويدلهم على مواقع السموّ والرفعة والخير والعدل في الحياة.
وتلك هي السمة البارزة للمؤمنين في كل زمان ومكان، من خلال ما يعيشونه من السموّ الروحي والفكري من مواقع الإيمان، ومن النموّ المتزايد في الهدى الكامن في حياتهم من الداخل والخارج.
ــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:13، ص:275ـ276.
(2) تفسير الميزان، ج:13، ص:276.
(3) تفسير الكشاف، ج:2، ص:473.
(4) مجمع البيان، ج:6، ص:583ـ585.
تفسير القرآن