تفسير القرآن
الكهف / من الآية 14 إلى الآية 16

 من الآية 14 الى الآية 16

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا* هَـؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا* وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا} (14ـ16).

* * *

معاني المفردات

{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}: قوّينا عزائمهم.

{شَطَطًا}: خروجاً ومجاوزة عن الحدّ.

{بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} السلطان البين: الحجة الظاهرة.

{اعْتَزَلْتُمُوهُمْ}: تنحّيتم عنهم.

{مِّرْفَقًا}: المراد بالمرفق هنا كل ما يُنتفع به، مأخوذ من الرّفق واللطف.

* * *

تقوية عزيمة المؤمنين

تشير هذه الآيات إلى الحالة الروحية والمعنوية للفتية في ما كانوا يلتزمونه من إيمانٍ، وما يطرحونه من فكرٍ أمام المجتمع الكافر الطاغي، الذي لا يملك فكراً يقنع به المعارضين له، بل يملك قوّةً تضغط على حريات الناس، وتصادر قرارهم، وتضطهد واقعهم... فيضعفون أمامها، وينسحقون تحت تأثير سلطتها، فيوافقون على ذلك كله.

ولكن لم يكن هؤلاء المؤمنون في هذا الموقع الضعيف، بل كانوا في موقع القوة التي استمدوها من الله، فأعلنوا موقفهم بكل جرأةٍ وصراحةٍ، وواجهوا الضغط بمسؤوليةٍ وواقعيةٍ.

{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي شددنا عليها، وأوحينا إليهم بالقوّة أمام التحدّي، فلم تهتز أمام التهديد، ولم تعش الحيرة والقلق في مواقع الضغط، بل ثبتت من موقع القناعة المرتكزة على قاعدة الإيمان العميق.

{إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ} لقد كان قيامهم في مجتمعهم، أمام الطغاة، أو أمام خط الكفر والانحراف، فلم يقعدوا، أو يسترخوا، أو يعيشوا الأجواء اللاهية العابثة التي تحاول أن تتخفف من المسؤولية بالأعذار الواهية التي لا تقنع أصحابها فضلاً عن غيرهم. لقد كان حسّ المسؤولية عميقاً في نفوسهم، لأنهم يشعرون أن السكوت عن الباطل، والخوف من إعلان الحق أو من ممارسته، يشجع المنحرفين على الامتداد في خط الانحراف، ويمنع المؤمنين من الانطلاق بقوّةٍ في خط الإيمان، ولذا كان القيام يمثل حركة المسؤولية في إيمانهم، سواء كان قيامهم بين يدي ملك زمانهم دقيانوس الجبار ـ كما يقول بعض المفسرين ـ الذي يحتمل أنهم كانوا في مجلسه، أو كان قيامهم في مجتمعهم الذي يعبد الأوثان، ويصدر عنه الأمر بالسير على هذا المنهج، ويجبر الناس على ذلك... فكان قيامهم بالإعلان عن رفضهم لكل الواقع الفكري والعبادي الذي يعيشون فيه، والدعوة إلى الله بدلاً من ذلك. وربما كان المقصود ـ وهو الأقرب إلى جو الآية ـ قيامهم لله ونصرة الحق، من دون نظر إلى المكان، أو إلى الشخص. {فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ} قالوا هذه الكلمة، ليؤكدوا الحقيقة الإيمانية التي تضع الإنسان في الدائرة الكونية الواسعة التي تشمل السّموات والأرض وما فيهن وما بينهن، فهو جزء من هذا العالم الرحب المخلوق لله، فلا يختص بربٍّ معينٍ ليعبده من دونه، أو ليشركه بعبادته. ولذلك لم يكتفوا بالإعلان عن هذه الحقيقة، بل أعلنوا الرفض لفكرة كل الآلهة المدّعاة، في شكل بشرٍ، أو حجرٍ، أو أيّ شيءٍ آخر... {لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـهاً} لأن ذلك لا يمثل أيّ موقع ٍللحق، بل هو الباطل في أكثر من صورة، {لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} لو قلنا بما يقوله هؤلاء المشركون، لكنا ـ بذلك ـ نخرج عن الحدّ المعقول للفكر، ونتجاوز عن الحق ـ وهذا هو معنى الشطط ـ.

* * *

توهم وجود آلهة غير الله

{هَـؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً} نتيجة ما توهّموه من خلال أجواء القوة الظاهرة لبعض الأشخاص، أمام الضعف الذاتي لأنفسهم، ما أدّى إلى أن يتحرك الوهم لتضخيم الصورة، بالمستوى الذي يمنحونها الكثير من الخيال والمزيد من الأسرار، ثم يعبدونها، وهم ـ بذلك ـ يعبدون خيالاتهم وأوهامهم. وهكذا فإنهم يسبغون صفات الألوهة على أحجارٍ معينة، يتفنّنون في تلوينها وتحسينها وإتقانها وإبداعها في الصورة، ثم يتصورون لها عمقاً في السرّ، أو معنىً في القوّة. ولكن هل يملكون حجةً على ذلك كله، أو تفسيراً صحيحاً لما يقومون به من عبادة؟ إنّ القرآن يؤكد نفي ذلك كله، فهم لا يملكون أيَّ برهانٍ وأيّة حجةٍ، {لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} مما يقدمه العقل من سلطانٍ فكريٍّ على أيّة حقيقةٍ، ولكنه الافتراء والكذب الذي يمثل الخطورة الكبرى على حياة الإنسان من خلال ما يمثله من افتراء الكذب على الله. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} لأنه يظلم الحقيقة الإيمانية التي تمثل خلاص الناس كلهم في جميع قضايا المصير في الدنيا والآخرة، ويظلم الله في حقه في العبودية له، بالاستسلام له في كل شيء، والسير مع تعاليمه في خط الصدق الذي لا يهتز ولا ينحرف عن الحق.

* * *

اعتزال كل الآلهة المدعاة

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ} أي خرجوا من بين الناس واعتزلوا مجتمعهم، بعد أن فقدوا كل إمكانيةٍ لهدايتهم، أو الحصول على حريتهم في الدعوة إلى الله... ما جعل من الاعتزال عنهم ضرورةً وقائيةً، أو محاولةً للوصول إلى موقعٍ آخر، يسمح لهم بالالتفاف عليهم من جديد. وهكذا اعتزلوهم وما يعبدون من دون الله، وكل ما يتصل بهم، إلا الله الذي لا يمكن لهم إلاّ أن ينفتحوا عليه، لأنه هو الذي يفتح لهم كل آفاق الخير، وكل أبواب الفرج. وبذلك كان الاستثناء منقطعاً، لا متصلاً، أي إذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله وما يتعلق بهم، إلا الله فلم تعتزلوه... كما جاء عن ابن عباس، في تفسير الآية، في ما نقله صاحب مجمع البيان. قال ابن عباس: وهذا من قول تمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف، قال لهم: فإذا فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانباً ـ يعني عبدة الأصنام ـ وفارقتم ما يعبدون ـ أي أصنامهم ـ إلا الله، فإنكم لن تتركوا عبادته[1]. وهناك احتمال آخر، وهو أن يكون استثناءً متصلاً، من الموصول في قوله: {وَمَا يَعْبُدُونَ} لأنهم كانوا لا ينكرون عبادة الله، ولكنهم يشركون بعبادته غيره، وبذلك كان اعتزالهم لما يعبدونه من دون الله، أمّا الله، فإنهم لا يعتزلونه، وربما كان ابن عباس ناظراً إلى ذلك، وربما كان أقرب إلى أجواء السياق في الآية..

ولكن صاحب تفسير الميزان لا يوافق على هذا الاحتمال، لأنه «لم يعهد من الوثنيين عبادة الله سبحانه مع عبادة الأصنام، وفلسفتهم لا تجيز ذلك»[2].

ولا ندري كيف نوافقه على ذلك، في الوقت الذي نعرف أن قريشاً الوثنية كانت تعبد الأصنام ليقرّبوها إلى الله زلفى؟!

{فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} وينجيكم من القوم الظالمين، ويفتح لكم أبواب الفرج من عنده، {وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا}. والمرفق هو الشيء الذي يرتفقون به، أي يحصلون على الرفق واللطف واليسر من خلاله.

وهكذا دخلوا إلى الكهف، وألقى الله عليهم النوم الثقيل، الذي عزلهم عن كل ما حولهم ومن حولهم في حالة موتٍ، مع وقف التنفيذ.

ــــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج :6، ص:587.

(2) تفسير الميزان، ج:13، ص:250.