من الآية 45 الى الآية 46
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا* الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيَا وَالْباقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} (45ـ46).
* * *
معاني المفردات
{هَشِيمًا}: نباتاً يابساً متكسّراً.
{تَذْرُوهُ}: تنثره وتفرّقه.
* * *
الحياة الدنيا كماء أنزل من السماء
ويبقى تقديم الأمثال في طريقة عرض الفكرة أسلوباً قرآنياً، من أجل توضيح الصورة، وتحويلها في وعي الإنسان إلى حالةٍ حسية وجدانية، وذلك من خلال تحريك الحسّ في أجواء المعنى، لتتحرك تفاصيل الفكرة مع حركة تفاصيل الصورة في الواقع.
{وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} التي يريد للإنسان أن يعيشها في عمق وعيه، من موقع التأمّل المركّز في طبيعتها الزائلة الفانية، فهي تنطلق على الخط الذي يتصاعد بالقوة والنضارة والجمال، ثم يهبط نحو الضعف والذبول والزوال، حتى لا يبقى منها شيءٌ، وتفنى الصورة في الجسد، ويفنى الجسد في التراب...وبذلك لا يبقى من الإنسان إلا الاسم الذي يتردد على الشفاه، والذكرى التي تخطر على البال. وهذا ما يريد القرآن للإنسان أن يتمثّله في وجدانه، عندما تقفز الصورة الحلوة المغرية في دائرة عينيه، لتسلب لبّه، ولتثير حسّه، ولتوحي له بكل إحساسٍ لذيذٍ، ولتدفع به نوازع الحسّ اللاهي إلى الغفلة العميقة التي تبعده عن الله، وتنسيه نفسه، وتحرفه عن قضية المصير.
وهكذا يريد الله للمثل أن يجسّد لهم الفكرة الواقعية الكامنة خلف ظواهر الدنيا، من خلال الصورة الظاهرة المتحرّكة في الواقع الحسي.
{كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ} في ما تحتويه من البذور المتنوعة المتناثرة في داخلها وخارجها، فتتحرك فيها الحياة، ويهتز فيها النموّ، وتتنوع فيها الألوان، وتمتد فيها الأغصان، وتمتلىء بالأوراق وتتدلى منها الثمار الشهية... وتدخل الأرض في موسم عرس جديد للورود والرياحين والأشجار، والزرع الأخضر الممتد في ساحاتها بمختلف أنواع العشب والنبات... ولكن الحياة مهما امتدّت، واخضرّت، وتحركت، واهتزت، وأنتجت، وأعطت النموّ والحيوية والجمال للأرض، فإن لها أمداً معيناً وأجلاً محدوداً، تجفّ فيه الحيويّة، وينتهي موسم الورود، وتتهاوى على الأرض، وتتفتت فتتحول إلى ما يشبه الفتات الترابي... {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} مكسَّراً متقطعاً، {تَذْرُوهُ الرِّياحُ} وتعبث به، فتوزعه هنا وهناك، وتذهب به تارةً، وتجيء به أخرى. {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} فهو الذي يخلق الحياة، ويمنحها قوّة الامتداد، وتنوّع الشكل، ومواقع الحركة... ثم يدخلها بطريقة متنوعة في عالم الفناء، من أجل التحضير لموسم حياة جديد. وكما هو النبات تختلف فيه الحياة في النمو من فصل إلى فصل، كذلك الإنسان في حركة الحياة من بعد الموت الذي يعقب الحياة. وتلك هي قصة الدنيا في الإنسان، من خلال ما يطل عليه منها من مظاهر الحركة والنموّ والبهجة والنضارة والزهو والشباب، وما يثيره في داخله من مشاعر الفرح والأمل والقوّة، وما يغذيه في داخله من الغرائز والشهوات والميول... إنها تتوهّج وتزهو وتجعله يعيش ما يشبه الأحلام الوردية، ثم تبدأ بالضعف والتراجع والانحسار، وتتحول المشاعر الحلوة إلى مشاعر مُرّة يواجه فيها الإنسان الحزن واليأس والهزيمة، وتنتهي إلى أن تتفتت في يديه، وتتكسّر في حياته قطعةً قطعةً، ثم يتهاوى معها إلى حيث يتحوّل إلى هشيم تتقاذفه رياح الفناء، ويعود إلى التراب، لتذروه الرياح العاصفة من جديد في الفراغ.
* * *
زينة الحياة الدنيا
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} من خلال ما يدخل على الإنسان منها من بهجة وأنس، وما يستمتعه من شهوة وعاطفة وحركة وجمال.. وما يحقق منها من منفعة وقوّة وامتداد في شؤون الحياة... فالمال يمثِّل ـ في حياته ـ العنصر القويّ الذي يفتح له أكثر الساحات، ويجمع حوله الكثير من الأعوان، ويحقق له أحلى المشتهيات، ويرفعه إلى الدرجة العليا في الموقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويمنحه حرية الحركة في ما يريده لنفسه من طيبات الحياة الدنيا ومن أحلام المستقبل المتجددة أبداً.
أما البنون، فهم الذين يمثلون له القوّة العددية، التي تجعله موجوداً في كل واحدٍ منهم، فيعطيه ذلك قوّة جديدةً، والشعور بامتداد حياته فيهم، فيحس بأنه يحيا في كل واحد منهم حياةً جديدةً بعد الموت.. إنهم يهبونه الامتداد العاطفي الروحي الذي يشعر فيه بالسلوى والأنس واللهو به في طفولتهم، بحيث يسترجع ـ من خلالهم ـ طفولته، بما يأخذ من أسباب اللهو واللعب معهم بحب وعاطفة... ويحس بالفخر والزهو والرفعة عندما يحيطون به في شبابهم وكهولتهم، حيث يرى أنهم يمثلون مجداً يضاف إلى مجده، وزهواً يقوّي عنصر الزهو الذاتي في شخصيته، عندما يتحولون إلى شخصياتٍ فاعلة قويّة في مجتمعاتهم، لأنهم ينتسبون إليه ويعود كل عنصرٍ طيب منهم إليه... وهكذا يعيش الإنسان مع ماله وولده الزينة المادية والعاطفية والروحية والمعنوية، ولكن ماذا بعد ذلك؟
سيذهب المال عنه قبل أن يفارق الدنيا أو بعد ذلك، وسيفارقه البنون أو يفارقهم، أو يتركونه أو يتركهم، ويبقى وحده، ويدفن في القبر وحده، ويحشر يوم القيامة وحده، تماماً كأيّة زينة للجسد، مما يتزيّن به الناس لبعضهم البعض، حيث تزول عن الإنسان أمام أيّ حدثٍ طارىءٍ في الحياة.
* * *
الباقيات الصّالحات
{وَالْباقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} من أعماله الخيّرة الصالحة التي قام بها في حياته مما يُصلح أمور البلاد والعباد، ومن كلماته الصادقة النافعة التي تكلم بها، ليعلّم جاهلاً، أو ليهدي ضالاً، أو لينصر مظلوماً، أو ليقوِّي ضعيفاً، أو ليحلّ مشكلةً، أو ليؤيِّد حقاً، أو ليهدم باطلاً، أو ليركِّز عدلاً، أو ليدفع ظلماً... وغير ذلك مما يمتد أثره في حياة الناس، في حياته وبعد مماته؛ {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا} لأن الله جعل ثواب الإنسان لما يبذله من جهد في سبيل الحق والعدل والخير والحياة، مما ينسجم مع أوامره ونواهيه ويتحرك في خط رضاه. أمّا المال، فلا قيمة له عند الله في ذاته وفي جمعه إلا إذا تحرك في مواقع الخير، وكان إنفاقه في سبيل الله. وأما البنون، فإن قيمتهم عند الله هي في الجهد الذي يبذله الإنسان من أجل أن يكونوا مؤمنين صالحين، يصلحون أنفسهم بالطاعة، ويصلحون الناس بالعلم والهداية وحركة الخير... وبذلك يكون المال والبنون ـ في حركة الجهد العملي للإنسان من أجل خدمة الحياة في خط الله ـ جزءاً من الباقيات الصالحات، فتكون كبقية أعماله وأقواله خير ثواباً {وَخَيْرٌ أَمَلاً} في ما يأمله الإنسان من رحمة الله ومن عفوه ورضوانه التي يحصل منها على سلامة المصير في الدنيا والآخرة، بينما لا يأمل من زينة الدنيا المجرّدة شيئاً لمستقبله الآخروي، ولا يجد أمامه هناك أيّ ثواب.
وهذا ما ينبغي للإنسان أن يعيشه في تحريك تفكيره نحو التعمُّق في الدنيا، ليميّز بين مفرداتها الفانية، وبين مفرداتها الباقية، ليكون كل جهده لما يبقى، ولا تكون حياته لما يفنى ويزول ويتلاشى مع الظلام.
تفسير القرآن