من الآية 47 الى الآية 49
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً* وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا* وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنَا مَا لِهَـذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (47ـ49).
* * *
معاني المفردات
{نُغَادِرْ}: نترك.
{الْكِتَابُ}: صحيفة الأعمال.
{مُشْفِقِينَ}: خائفين.
{يا وَيْلَتَنَا}: الويل: الهلاك.
* * *
الحشر والمصير
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} فتزول عن مواقعها، وتفقد تماسكها، وتتفتت أحجارها وصخورها، وتتحوّل إلى ترابٍ خفيفٍ يطير مع الرياح، وتصير هباءً. {وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً} بجميع جهاتها ونواحيها، فلا يتوقف النظر أمام حاجز، ولا يحجبه عنها أيّ ساترٍ، بل هو الامتداد المنبسط الذي يحتوي الأفق كله في نظرة واحدة ممتدة. {وَحَشَرْنَـاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} إنه يوم الحشر للحساب الذي تفيق فيه الخلائق كلها من الأولين والآخرين، وهم شاخصون بأبصارهم وأفكارهم ومشاعرهم إلى الله، ليواجهوا اللحظة الحاسمة في مسألة المصير.
{وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا} واحداً يمثل التساوي في كل المواقع الذاتية، فلا تفاضل بنسبٍ، ولا جاه، ولا مالٍ، ولا جمالٍ، ولا غير ذلك مما كانوا يتفاضلون فيه في الدنيا ويختلفون حوله، وليس لهم في هذا الموقف إلا العمل، وبذلك يكتشفون سقوط الامتيازات الدنيوية في عمق القيمة الروحية الإلهية. {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فقد دخلتم الدنيا من دون أن تحملوا إليها أشياءها التي تمثل زينتها الخادعة الفانية، وقد خرجتم منها وأتيتم إلى ربكم من دون أن يكون معكم شيءٌ منها. وتلك هي حقيقة العلاقة التي تربطكم بها، أو تربطها بكم، ما يوحي إليكم أنها تمثل معنى الحاجة في الحياة، ودور الحالة الطارئة التي تتحرك في السطح من حياة الإنسان دون العمق.
{بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} وخُيِّل إليكم، في استغراقكم في هذه الأمور وانجذابكم إليها، واستمتاعكم بها، أنكم خالدون معها، وأنها خالدةٌ لكم، وأن الحياة ستمتد بكم إلى ما لا نهاية، أو أنها ستنتهي إلى اللاشيء، لأنكم لم تكتشفوا العلاقة الحقيقية بالله من خلال وجودكم في الدنيا، أو من خلال حركة الحياة في هذا الوجود، في حاجاتها وأوضاعها، وعلاقاتها، بل أخلدتم إلى الأرض في نظرة تائهة مشدودة إلى التراب، بعيدة عن الآفاق العليا التي تطل بالفكر على الحقيقة الإلهية التي تشمل الكون كله، وتحتوي الزمن كله، وتوحي للإنسان بأن هناك سرّاً يكمن خلف الحياة، وأن الله لم يخلق الناس عبثاً، ولم يُعفِهم من المسؤولية، لأن ذلك هو معنى الحكمة في خلقه وفي تشريعه. وها أنتم تواجهون الموعد المحتوم الذي وعدكم به الأنبياء، وتقفون فيه وجهاً لوجه أمام الحقيقة الحاسمة التي نسيتم الاستعداد لها من خلال نسيانكم لها في الأساس.
* * *
كتاب الأعمال
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ} كتاب الأعمال، أمام كل واحد منهم، فقد دنت ساعة الحساب وإعلان النتائج، وأراد الله لهم أن يحاسبوا أنفسهم ويحاكموها، من خلال قراءتهم الدقيقة لما في هذا الكتاب من دقائق الأعمال التي عملوها في الدنيا. وعرفوا طبيعة الموقف، واستذكروا كل ما قاموا به. {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} خائفين من نتائجه على أنفسهم، لأنهم يعلمون أن العذاب ينتظر المجرمين عقاباً على جرائمهم. {وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنَا} في ما يشبه الصراخ اليائس من النجاة، والدهشة المذهولة من دقة التفاصيل الخفيّة {مَا لِهَـذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} فلم يغفل حتى الأشياء الصغيرة التي قد لا يحس بها الإنسان بشكلٍ واعٍ، بل يقوم بها بطريقة اللاشعور التي تدفعه إلى القيام ببعض الأعمال، بما يشبه العادة القاهرة، {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} أمامهم لم يغب عنهم منه شيء، وسيواجهون الحساب من خلاله، ولن يحاسبوا على أي شيء لم يفعلوه. {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} لأنه العادل القويّ الذي لا يحتاج إلى ظلم أحد، باعتبار الضعيف هو الذي يظلم الآخرين، لأنه يخاف منهم على نفسه، فظلمه مظهر ضعفٍ لا مظهر قوةٍ.
تفسير القرآن