من الآية 50 الى الآية 53
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً* مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـوَاتِ وَالأرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً* وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً* وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا} (50ـ53).
* * *
معاني المفردات
{فَفَسَقَ}: فخرج إلى حال تضرّ به.
{عَضُداً}: ما بين المرفق إلى الكتف. والمراد به هنا النصير والمعين.
{مَّوْبِقاً}: مهلكاً.
{مُّوَاقِعُوهَا}: واقعون فيها، داخلوها.
{مَصْرِفًا}: مكاناً تنصرفون إليه.
* * *
عقدة ذاتيّة تاريخيّة
... وتبقى قصة إبليس في عقدته الذاتية من آدم، تتحرك في أكثر من موقع قرآني، لتثير أمام الإنسان الآدمي في نسبه، امتداد هذه العقدة في حياة كل فرد من أفراده، وفي كل جيل من أجياله، لأن الخطة الإبليسية كانت تستهدف امتداد آدم في ذريته، لا شخص آدم وحده. وهكذا جاءت الآية الكريمة لتذكّر الإنسان بانحرافه عن خط الحذر المصيريّ، الذي يفرضه عليه وعيه الدقيق لما يجب أن يفهمه في علاقته بإبليس وذريته من حركة التاريخ الديني في بداية الخليقة، في علاقة إبليس بأبيه، وموقفه المتمرد على الله في التنفيس عن عقدته المتحركة في عمق الأنانية المتكبرة، وما يمكن أن يؤثر ذلك على حركة الإنسان في الحياة تحت تأثير وسوسته وحيله وخديعته.
* * *
سجود الملائكة لآدم إلا إبليس
{وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ} طاعةً لله، وتعظيماً له في إبداع هذا المخلوق الفريد من نوعه، وتحيةً لآدم في تكريم الله له في وجوده {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} ولم يكن من الملائكة، ولذلك كان يعيش قابلية الانحراف في ذاته، من خلال العناصر المتنوعة الخاضعة لأكثر من نقطة ضعف، ومنها عنصره الناريّ الذي كان يجد فيه لوناً من ألوان الامتياز عن الآخرين، ولذلك كانت مسألة خلق آدم وتكريم الله بأمر الملائكة بالسجود له، صدمةً عنيفةً موجهةً إلى كبريائه، وتحقيراً للجانب العنصري في شخصيته، فأبى أن يسجد له. {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} في حالة تمرّد وتحدٍّ ومواجهة لهذا المخلوق الجديد، وأعلن عزمه على إضلال ذريته حتى لا يحصلوا على كرامة الله لهم في رضاه عنهم، ورحمته لهم، وإدخالهم الجنة التي وعد بها عباده المتقين، لأنه لا يريد أن يتميزوا عنه وعن ذريته، فيدخل هو النار بينما يدخلون الجنة. وإذا كان حظه هو هذا الحظ، وعزمه هو هذا العزم، فكيف يمكن لأبناء آدم أن يستسلموا له أو يخلصوا لعلاقتهم به، أو ينفتحوا عليه من موقع الثقة به... إن ذلك يمثل منتهى الجهل، وغاية السذاجة، { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي}؟ تمحضونهم المودّة، وتعطونهم الثقة، وتنتمون لأوضاعهم، وتنفذون خططهم الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية من خلال ما يوحون به إليكم من أفكار وآراء ومشاعر، {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} لأنهم يضمرون لكم المكر الحاقد الذي يؤدي بكم إلى خسارة الدنيا والآخرة من أكثر من وجه.
* * *
بئس البديل الشيطان
{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} حيث يظلم هؤلاء الذين يتبعون إبليس وذريته أنفسهم، فيتخذونهم أولياء، وينكرون ولاية الله الذي خلقهم وأسبغ عليهم نعمه ظاهرةً وباطنةً، ودعاهم إلى السير في طريق الهدى الذي يؤدي إلى الجنة التي وعد بها عباده المتقين. وأيّ معاملة أكثر سوءاً من معاملة يُستبدل فيها الله بالشيطان؟!
ثم ماذا هناك؟ وماذا يملك هؤلاء الشركاء الذين أطاعوهم وعصوني، واتّبعوهم وتركوني، وأحبُّوهم وأبغضوني؟ وما خصائصهم الذاتية والنوعية التي يتميزون بها، ليكونوا أرفع درجةً من بقية الناس، بحيث يمكن لهم أن يحملوا بعضاً من أسرار الألوهية في ذلك، ليرتفعوا إلى درجة الشرك بالله؟! إنهم لا يملكون أي شيء من ذلك، بل هم مثل الناس الآخرين في ملامحهم الشخصية، وعناصرهم النوعية.
{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَـوَاتِ وَالأَرْضِ} فلم يكونوا أسبق الخلق، بحيث شهدوا خلق السموات والأرض دونهم، ليكون ذلك أساساً للتفكير بأنهم قد شاركوا الله في بعض ذلك، {وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} وكيف يمكن أن يشهدوا ذلك وهم في دائرة العدم؟! وذلك جار على سبيل الكناية عن عدم إحاطتهم بالواقع الكوني، وبالواقع الذاتي لأنفسهم، لأنه كان أسبق منهم، فكيف يمكن أن تكون لهم السيطرة عليه، وهم لم يعرفوا شيئاً من أسراره؟! ولعل في التعبير بالإشهاد، بدل الشهود، نوعاً من الإيحاء بأن الله هو الذي يملك الأمر كله، فلا يملك أحد شيئاً إلا من خلال تمليك الله له، فإذا لم يقدِّر الله لهم بأن يشهدوا ذلك، فلا يمكن أن يتحقق لهم شيء منه.
{وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} وهل يمكن لله سبحانه أن يمنح هؤلاء شرف القرب إليه باتخاذهم شركاء له، أو مساعدين له ـ لو كان ذلك معقولاً في نفسه ـ في الوقت الذي يخططون فيه لتحويل الحياة إلى قاعدة للضلال على مستوى العقيدة والعمل في حركة الإنسان فيها، ويعملون من أجل تحقيق ذلك من خلال ما يوسوسون به من أفكار الشرّ، وما يزينونه من أوضاع الضلال، ما يجعلهم في الموقع المواجه للحركة الهادية الصالحة التي يريد الله للإنسان أن يلتزمها، فإن الله يهدي إلى الحق، ويقود إلى خط الهدى والصلاح، فكيف يمكن أن يكون مثل هؤلاء في موقع الشركاء والمعاضدين لله في ملكه من هذه الجهة، مع أن الفكرة، في مسألة الشرك، لا تملك أساساً معقولاً في ذاتها، بل هي من الأفكار المستحيلة في ميزان العقل؟!
{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} فليستجيبوا لكم في هذا الموقف الذي تتعرضون فيه للعذاب، لينقذوكم منه، أو لينصروكم فيه، لأن ذلك هو المظهر الطبيعيّ للألوهية في أقل مراتبها التي تفرض السيطرة المطلقة، أو الكبيرة في موقف الحساب. إنها دعوة التحدّي الصارخ الذي يوحي إلى هؤلاء المخدوعين بهذه الأفكار الضالّة، بأن المسألة لا تملك أيّ أساس للقوّة على صعيد الفكر والواقع، ليعيدوا النظر في اعتقادهم بها، وليتخلصوا من التأثّر بها نهائياً. {فَدَعَوْهُمْ} في أكثر من نداء، وفي أعمق صرخةٍ، {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيف يملكونه للآخرين، لا سيما في هذا الموقف الذي {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} ـ والموبق محل الهلاك ـ وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد به النار أو مواقعها، التي يهلك فيها الفريقان: المشركون وشركاؤهم. وقد ذكر صاحب تفسير الميزان، أن ذلك لا ينسجم مع التدبُّر في كلامه تعالى: «فإن الآية قد أطلقت الشركاء وفيهم ـ ولعلهم الأكثر ـ الملائكة وبعض الأنبياء والأولياء، وأرجع إليهم ضمير أولي العقل مرةً بعد مرة، ولا دليل على اختصاصهم بمردة الجن والإنس، وكون جعل الموبق بينهم دليلاً على الاختصاص أول الكلام. فلعل المراد من جعل موبق بينهم إبطال الرابطة ورفعها من بينهم، وقد كانوا يرون في الدنيا أن بينهم وبين شركائهم رابطة الربوبية، أو السببية والمسببية، فكنّى عن ذلك بجعل موبق بينهم يهلك فيه الرابطة والعلقة من غير أن يهلك الطرفان، ويومي إلى ذلك بلطيف الإشارة تعبيره عن دعوتهم أولاً بالنداء، حيث قال: {نَادُواْ شُرَكَآئِيَ} والنداء إنما يكون في البعيد، فهو دليل على بعد ما بينهما»[1].
وقد نستطيع المناقشة في هذا التفسير أولاً، بأن الآية السابقة قد تصلح قرينةً على الاختصاص، من خلال ما تحدثت به عن إبليس وذريته باعتبارهم شركاء في عقيدة هؤلاء، وثانياً بأن الآية لا تفرض بأن يكون الشركاء المزعومون في النار، لأن من الممكن أن يكون هؤلاء في موقع، وأولئك في موقع آخر؛ بأن يكون المشركون في النار، وبذلك فإنها تفصل بينهم وبين الآخرين الذين هم خارجها، وليس من الضروري أن يكونوا ـ جميعاً ـ في النار، في ما تقتضيه كلمة "بَيْنَهُم"، فقد وردت في آية أخرى في مورد اختلاف الموقع، في قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] والله العالم.
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} لأن الجوّ الذي يحيط بموقفهم يوحي بذلك، ولأن الأعمال التي قاموا بها في الدنيا في نطاق الجريمة، تؤدي إلى النار، من خلال ما سمعوه من إنذار الأنبياء والرسل بأن النار هي عاقبة المجرمين، إلا أن يعفو الله عنهم، ولم يعف الله عنهم في هذا الموقف، كما يرون. وإذا كانت جريمتهم هي الشرك فإن الله لا يغفر أن يشرك به. والظاهر أن المراد بالظن هنا هو الإحساس المتعاظم بالنتيجة الذي يواجه الحقيقة بطريقة ضاغطة، لا مجال للهروب منها. {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا} ينصرفون إليه ويبتعدون به عن النار التي تستقبلهم ليدخلوها بعد قليل.
ـــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:13، ص:327.
تفسير القرآن