تفسير القرآن
الكهف / من الآية 55 إلى الآية 59

 من الآية 55 الى الآية 59

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً* وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواْ آيَاتي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً* وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً* وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً* وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (55ـ59).

* * *

معاني المفردات

{قُبُلاً}: مواجهة ومعاينة.

{لِيُدْحِضُواْ}: ليزيلوا.

{أَكِنَّةً}: أغطية.

{يَفْقَهُوهُ}: يفهموه.

{وَقْراً}: ثقلاً في السمع.

{مَوْئِلاً}: ملجأ.

* * *

حواجز بين الدعوة والإيمان بها

وتبقى مشاكل الدعوة هي التي تلحّ على الأجواء القرآنية، لأنها تمثل الحواجز التي تحول بين الناس وبين الإيمان، من خلال خضوع مجتمع الكفر لبعض الذهنيات المتخلّفة، أو العقليات المتحجرة، أو العُقد المتنوعة، أو الخلفيات الفكرية التي تجعل الإنسان يعيش في حصار دائم في دائرة الفكرة... وهذا ما يريد القرآن في هذه الآيات، أن يحرّك الحديث حوله مع النبي(ص)، ليثير أمامه الواقع لئلا يشعر بالضعف أمام حالة التمرُّد، وليعتبر المسألة طبيعية في نطاق هذا الواقع.

* * *

العصبية تمنع من الإيمان

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} ويتراجعوا عما هُم فيه من الكفر والضلال، فينفتحوا على آفاق الهدى، ويرجعوا إلى الله، ويستغفروه عما أجرموا في حقه في التنكر لعقيدة التوحيد، أو لخط الرسالة... {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِين} الذين كانوا يتمرّدون على الله وعلى الرسل، بالكفر والضلال والعصيان، لأنهم لا يريدون الإيمان، ولا يستعدون للدخول في حوارٍ مع الرسل، ولا يركنون إلى فكرٍ يوجههم، ولا إلى علمٍ يهديهم، بل ينطلقون في مواقفهم من موقع العصبية الذاتية أو القبلية أو التاريخية التي تربطهم بعقيدة الآباء والأجداد، أو غير ذلك، فيبادرون إلى إطلاق التحدي في وجه النبي، أن يأتيهم بعذاب الله الذي يهلكهم إن كان من الصادقين. ويحاول النبيُّ بكل الوسائل أن يقرّب إليهم الفكرة، ويحذِّرهم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، فلا يستجيبون له، فينزل الله العذاب عليهم ويهلكهم بالصاعقة، أو بالصيحة، أو بالزلزال، أو بالطوفان، أو بغير ذلك من ألوان العذاب، فيستأصلهم، فلا يبقى منهم أحد إلا المؤمنون.

وهذا ما عاشه النبي محمد(ص) في بعض مواقف قومه منه، فقد أبوا أن يؤمنوا لأنهم لا يلتزمون إرادة الإيمان، ولا يعيشونها، ولم يجدوا أمامهم إلا أن يهربوا من دعوة النبي(ص) لهم إلى الحوار، وذلك بإطلاق التحدي في وجهه، أن تأتيهم سنة الأولين، فيستريح منهم، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} أي مواجهةً وعياناً ومقابلةً، بحيث يرونه ويشاهدونه عند إقباله عليهم، ليؤمنوا بعد ذلك. أما تفسير العلاقات بين طلبهم هذا، وبين عدم الإيمان، لتكون سنّة الأوّلين إو إتيان العذاب مانعاً لهم عن الإيمان، فقد يكون معناه، أنهم كانوا يظنون أو يعتقدون أن المسألة ـ أعني العذاب ـ ليست بهذه الجدية، وأن النبي(ص) ليس قادراً على الاستجابة لهم، لأنهم لا يعتقدون بنبوّته، لعدم تقديمه لهم المعاجز التي اقترحوها عليه، وبذلك يعتبرون الطلب الذي يقدمونه خروجاً من مأزق الدعوة النبوية إلى الفكر والتأمل والحوار الذي لا يريدونه... وبذلك لا يكون هذا مانعاً حقيقياً، ولكنه مانعٌ افتراضيٌّ باعتبار أنهم يتخذونه حجةً على عدم الإيمان، لأن النبي لم يستجب لهم في ذلك، مما يعتبرونه دليلاً على عدم صدقه بادعاء النبوة، ولكنهم ليسوا جادين بذلك، لأن النبي أراد لهم أن يناقشوا الإيمان معه من موقع العقل والفكر، ليهتدوا على هذا الأساس، بعيداً عن مسألة المعاجز، أو التهديد بالعذاب المباشر، لأن أمره بيد الله، وقد اقتضت حكمته أن لا ينزل العذاب عليهم.

* * *

المرسلون دورهم إنذار الناس

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} فذلك هو دورهم الطبيعي في الرسالة، فليس عليهم إلا أن يبشروا الناس بالنتائج الإيجابية التي يحصلون عليها من الإيمان بالله وبرسله وبكتبه، وينذروهم بالنتائج السلبية التي يواجهونها من خلال الكفر بالدعوة الرسالية، على مستوى الدنيا والآخرة، ويبذلوا كافة الوسائل في سبيل الوصول إلى ذلك، ويقدّموا أفضل الأساليب في سبيل تقريب الفكرة إلى عقولهم... وتنتهي مهمتهم عندما يستكملون كل جهدهم في هذا السبيل. أما استجابة الناس لهم وإيمانهم برسالتهم، فذلك أمر يعود إلى أكثر من سبب يتصل بالناس من جهة في انفتاحهم على المرسل، وبالظروف المحيطة بحركة الرسول والرسالة، كما يتصل بأسلوب النبي في الدعوة، ولذلك فليس هناك بأس عليه إذا لم يتمّ له ما يريد من الحصول على النتائج الحاسمة فيما إذا كان المانع من قِبَلهم لا من قِبَله.

* * *

مجادلة الذين كفروا بالباطل

{وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ} الذين يعرفون أنه الحق، فهم يعلمون كيف كانت نتيجة الزيف والخديعة والمداورة والمناورة، التي تراد من خلال الإرباك والتشويش والتشويه والتضييع، وإبعاد الموقف عن الجدّية، وتحويله إلى حالة من اللعب بالألفاظ... {لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ} ويبطلوه بهذه الأساليب الملتوية الباطلة التي لا تحترم مسؤولية الفكرة في الفكر، ولا إنسانية الحقيقة في الإنسان، {وَاتَّخَذُواْ آيَاتي} التي أنزلتها على رسلي {وَمَا أُنْذِرُواْ} به من عذاب في يوم القيامة، جزاء لكفرهم وضلالهم وطغيانهم {هُزُواً} من خلال ما اعتادوه من مقابلة المواقف الجدّية المسؤولة، بأساليب السخرية والاستهزاء التي تعطي الجو حالة الميوعة، لا حالة الصلابة والجدّية والثبات.

* * *

ظلم النفس بالكفر

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} لأنه يظلم نفسه بما يعرّضها له من الضلال والضياع والعقاب والمصير الأسود، ويظلم غيره بتوجيهه إلى ذلك... ولعل ظلم النفس بالكفر هو أفظع الظلم، لأنه يدلّل على عمق سيطرة الظلم ـ كمبدأ ـ على شخصيته، بحيث لا يوفّر نفسه عن الخضوع له، فيعرّضها للعذاب الأبدي، بعد أن قامت حجة الحق عليه، فأعرض عنها {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} من الذنوب والجرائم التي تعرضه لغضب الله وعقابه، فلم يتب إلى الله منها. وهذه هي مشكلة الكافرين في كفرهم، حيث يغفلون عن النتائج السلبية المترتبة على طريقتهم.

{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} لأن الغفلة والنسيان يجعلان الإنسان يواجه الأمور بعقل لا ينفتح على الحق، بل يعيش معه كما لو كان هناك غطاءٌ يحجب عنه الحقيقة، وبأذنٍ صمّاء كما لو كان هناك ضجيجٌ يمنع الكلمة أن تدخل إلى أعماق السمع.

{وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً} للهدى أبوابه التي أغلقوها بأنفسهم، باتباعهم سبيل الغفلة والإعراض عن الحق، فكيف يهتدي الإنسان بدون عقلٍ مفتوحٍ، أو أذن سميعةٍ، أو عينٍ مبصرةٍ؟! وهكذا يختار الإنسان لنفسه الضلال، باختيار الأسباب التي تقوده إلى ذلك، فليست الحتمية في الكفر كامنةً في شخصيته ليكون مجبوراً على ذلك، بل هي كامنةٌ في إرادته من خلال حركته في الاختيار، عندما يعطل إرادته عن التحرك في الاتجاه السليم.

* * *

الله الغفور ذو الرحمة

{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} الذي يحتوي الناس كلهم بمغفرته ورحمته، سواءٌ في ذلك غفرانه للذنوب من الأساس، وإفاضته النعم عليهم من جميع الجهات، أو تأخير العقاب عنهم مع استحقاقهم للتعجيل، وإبقاؤهم في الحياة مع استحقاقهم للهلاك.. فإن ذلك من آثار مغفرته ورحمته. {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} لأن ذلك هو النتيجة الطبيعية للتمرُّد على الله ومخالفة أوامره ونواهيه، {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} جعله الله لعباده في مواجهة نتائج أعمالهم الخيّرة بالرضوان والثواب، وأعمالهم الشريرة بالغضب والعذاب. {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} أي ملجأً يلجأون إليه منه، ليهربوا منه ومن عذابه.

{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر والضلال والعصيان، على أساس من الحكمة الإلهية في العقاب وفي تحديد موعده، {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} ثابتاً لا يتأخرون عنه.