تفسير القرآن
الكهف / من الآية 60 إلى الآية 64

 من الآية 60 الى الآية 64

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــات

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً* فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً* فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـذَا نَصَباً* قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا* قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} (60ـ64).

* * *

معاني المفردات

{لِفَتَاهُ}: صاحبه أو خادمه.

{لا أَبْرَحُ}: لا أزال.

{حُقُباً}: دهراً وزماناً.

{سَرَباً}: مسلكاً ومذهباً.

{نَصَباً}: تعباً ووصباً ووهناً.

* * *

ملخص القصة الغريبة

وهذه قصة غريبة في طبيعتها، إذ تشتمل على حوادث غير مألوفة، كرجوع الحوت إلى الحياة، واتباع موسى النبي المرسل إلى الناس عبداً صالحاً عالماً، ليتعلم منه ما يملكه من علم بواطن الأشياء التي لم يعلّمها الله لموسى (ع)، وصرامة هذا العالم الصالح في حالة الانضباط الذي يجب أن يفرضه موسى على نفسه، بالصبر وترك السؤال في الأمور التي يحاول فيها إثارة فضوله بأعلى الدرجات، في ما لا يمكن الصبر عليه، لا لغرابته، بل لمخالفته للقوانين المألوفة في شريعة موسى(ع). ثم يحسم الأمر مع موسى(ع)، فيصر على مفارقته لأنه لم يلتزم بما شرطه عليه من الصبر القاسي، بعد أن يفسر له ما أبهم عليه من القضايا المثيرة للفضول.

* * *

أسئلة تثار حول القصة

وربما كانت هذه القصة مثيرةً لأكثر من سؤالٍ على مستوى التفاصيل العقيدية لما يجب أن تكون شخصية النبي.

فكيف يمكن أن يكون النبي موسى (ع) محتاجاً إلى التعلم من شخص آخر، مع أن الفكرة المطروحة لدى الكثيرين أن النبي لا بد من أن يكون أعلم الناس، لا سيما في القضايا المتصلة بالجوانب العملية التي تتحرك فيها الرسالة؟

وكيف نفسر نسيان موسى (ع) للحوت، أمام الفكرة التي تقول إن النبي معصوم عن الخطأ والنسيان، حتى في القضايا الحياتية؟

وكيف نواجه مسألة هذا الصبر النبويّ الذي ينفد أمام أيّة حالة غموض، بعد أن أعطى كلمته للعبد الصالح أن يتبعه من دون أيّ سؤال؟

إنها علامات استفهام ترتسم أمام القارىء العادي للقرآن، من خلال ما يملك من تفاصيل معينة في النظرة الإسلامية للشخصية النبوية. وربما نجيب عن هذه الأمور في تفاصيل تفسير الآية الآتية.

* * *

مع تفاصيل القصة

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ}، أي ملتقاهما. وقد قيل: هو الذي ينتهي إليه بحر الروم من الجانب الشرقي، وبحر الفرس من الجانب الغربي. وهكذا كان يريد موسى 5 أن يصل إلى الموعد الذي يلتقي فيه العبد الصالح في النقطة التي قد توحي بها الآيات، لأنها المنطقة التي يتمثل فيها سرّ الحياة. {أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً} أي أو أظل في هذا السير وقتاً طويلاً حتى أصل إلى هذه الغاية، {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} ووصلا إلى الغاية المبتغاة {نَسِيَا حُوتَهُمَا} الذي اصطحباه ليأكلاه ـ كما يبدو ـ أو ليكون علامة على تلك النقطة، ولكن هل كان ميتاً، أو مشوياً؟ ربما يذكر المفسرون ذلك، وربما يلاحظ البعض بأن الآية ليست ظاهرةً في ذلك، فإن الوارد فيها هو نسيان الحوت من دون أيّة إشارة إلى طبيعة وضعه. ولكن قد تكون الفقرة التالية: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} دليلاً على حياته بعد الموت، لأنها تتحدث عنه كما لو كان يتحرك حركةً اختياريةً في سلوكه الطريق إلى البحر الذي يدخل إليه ليغيب فيه، وهذا هو معنى السرب، كما يستفاد ذلك من الآية التالية: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءنَا} من السمكة التي حملاها معهما، ولعل ذلك هو الذي جعل المفسرين يقولون إنه كان حوتاً مشوياً، لأنه كان معدّاً للغداء. {لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـذَا نَصَباً} أي تعباً، لأن المسافة كانت طويلة ـ على ما يبدو ـ فشعرا بالجوع. ولكن الغلام فاجأه بنسيانه له في المكان الذي جاوزاه {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} هناك من دون قصد إلى ذلك، بل كان غفلةً سانحة {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} في ما يمثله من السيطرة على وعي الإنسان للأشياء {أَنْ أَذْكُرَهُ} فأحدثك بما حدث له من الأمر العجيب. {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} في ما يمثله رجوعه إلى الحياة من العجب.

{قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي} ونطلب، لأن ذلك كان هو العلامة التي يلتقيان فيها مع العبد الصالح {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا} أي آثار أقدامهما {قَصَصًا} في اتباع الأثر لئلا يضلا الطريق. وهكذا رجعا إلى تلك النقطة.

وربما يكون نسيان موسى (ع) مذكوراً للتغليب، باعتبار أن أمر الحوت متعلقٌ بهما من دون أن تكون هناك حالة نسيان له من قبله، لأن المسألة متصلةٌ بغلامه الذي كان موكلاً بحمل الحوت وحفظه، ما يجعل قضية الذكر والنسيان قضيته الخاصة، لا قضية موسى (ع) الذي لم يكن في موارد التوجه إلى هذه المسألة ليرفض تذكره أو نسيانه لها.

* * *

هل ينسى النبي؟

وإذا أردنا أن نتجاوز هذه الملاحظة، فإننا لا نجد هناك أيّ دليل عقليٍّ أو نقليّ يفرض امتناع نسيان النبي لمثل هذه الأمور الحياتية الصغيرة، لأن ذلك لا يسيء إلى نبوّته من قريبٍ أو من بعيد، ولكن ربما نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن النبي إذا كان لا ينسى أمر التبليغ ـ كما هو المتفق عليه بين المسلمين ـ فلا بد من أن يكون ذلك من خلال ملكةٍ ذاتيةٍ تمنعه من النسيان، بحيث تجعل وجدانه واعياً للأشياء، فلا تغيب عنه عندما ينفصل عنها، ما يجعل المسألة غير قابلةٍ للتجزئة، كما هي القضايا المتصلة بالملكات النفسية.

وقد يثير البعض أمام هذه الملاحظة، أن مسألة التبليغ قد تكون موضعاً لتدبير إلهيّ غير عادي، من أجل حفظ الرسالة عن الضياع أو التحريف، بحيث يعطي وجدانه الرسالي إشراقة قوية، تختلف عن وعيه للأشياء الأخرى؛ والله العالم.