من الآية 65 الى الآية 70
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا* قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً* قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً* قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً* قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} (65ـ70).
* * *
معاني المفردات
{خُبْراً}َ: معرفة.
{ذِكْراً}َ: بياناً.
* * *
العبد الصالح هو الخضر
والتقيا بهذا العبد الصالح، الذي لم يرد له ذكر في القرآن إلا في هذه القصة. وتتحدث الروايات عنه أنه الخضر، وفي حديث أئمة أهل البيت(ع) في ما رواه محمد بن عمارة عن الإمام جعفر الصادق(ع) «أن الخضر كان نبياً مرسلاً، بعثه الله تبارك وتعالى إلى قومه، فدعاهم إلى توحيده والإقرار بأنبيائه ورسله وكتبه»[1]... وقد تذكر بعض الأحاديث أنه حيٌّ لم يمت بعد، وليس هناك دليل قطعي يثبت ذلك، كما أنه ليس هناك دليل عقليّ يمنع من ذلك من خلال قدرة الله المطلقة على ذلك وعلى أكثر منه.
ولا نجد هناك كبير فائدة في تحقيق الأمر في شخصيته وفي خصوصيته، لأن ذلك لا يتصل بأيِّ جانبٍ في العقيدة والحياة. {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} ربما كانت هي النبوّة، وربما كانت شيئاً آخر مما يرحم به عباده، ويختص بعضهم بميزةٍ خاصة في موقعه وفي ملكاته. {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} مما لم يؤته الله لغيره من عمق الإحاطة بخفايا الأمور وتأويل الأشياء، وهذا ما كان الآخرون ـ ومنهم موسى النبي(ع) ـ بحاجة إلى الاطّلاع عليه، مما أراده الله أن يسعى إليه في اللقاء بهذا العالم الصالح.
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} لاسترشد به في مهمّاتي التي كلفني الله بها، لأنني بحاجة إلى الاستزادة من العلم، باتباع الذين يملكون ما لا أملكه منه.
* * *
ما مدى علم النبي؟
وهذا حديث عن مدى علم النبي في سعته وشموله، فهل من الضروري أن يملك علم كل شيء، أو أن المسألة تقتصر على ما أراد الله له أن يعلمه في ما يختص بتبليغ رسالته وما تحتاجه من معرفة التفاصيل؟ فقد ذهب البعض إلى ضرورة إحاطة النبي بعلم كل شيء، بما في ذلك مفردات العلوم الطبيعية، والقضايا الجزئية، لأن النبي يمثل الشخص الذي يجب على كل الناس أن يطيعوه ويقتدوا به، فلا بد من أن يكون أعلم الجميع، لأن العقل لا يجوّز إمامة الجاهل للعالم، ولو في الموارد الخاصة.
ولكن هناك رأياً آخر، يقول: إن العقل لا يفرض، في مسألة القيادة والإمامة والطاعة، إلا أن يكون الشخص الذي يتحمل هذه المسؤوليات محيطاً بالجوانب المتصلة بمسؤولياته، في ما لا يحيط به الناس إلا من خلاله، أما الجوانب الأخرى من جزئيات حياتهم العامة، أو من مفردات علوم الحياة والإنسان، أو من خفايا الأمور البعيدة عن عالم المسؤولية، أما هذه الجوانب، فلا دليل على ضرورة إحاطته بها، ولا يمنع العقل أن يكون لشخص حق الطاعة في بعض الأمور التي يحيط بها، على الناس الذين يملكون إحاطةً في أشياء أخرى لا يحيط بها ولا تتعلق بحركة المسؤولية.
وربما كانت هذه القصة دليلاً على صحة هذا الرأي الذي نميل إليه، كما يميل إليه بعض العلماء القدامى، لأنه يلتقي بالجوّ القرآني الذي يتحدث عن الأنبياء بطريقةٍ معينةٍ بعيدةٍ عما اعتاده الناس في نظرتهم إليهم من خلال الأسرار الخفيّة والكمال القريب من المطلق.
* * *
بين الاستغراق في اللحظة واستيعاب المستقبل
{قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعيَ صَبْراً} لأن تعاملي مع الأشياء يختلف عن تعاملك وتعامل الآخرين معها، لأني أنظر إلى أبعاد القضايا في العمق على مستوى حركة الزمن في المستقبل، بينما تنظرون إليها من خلال اللحظة الزمنية الحاضرة، والسطح الظاهر منها. وبهذا كانت نظرتي إلى الأمور من خلال نهاياتها، أما نظرتكم إليها، فمن خلال بداياتها. وهذا هو سرّ المسافة بين النظرة الشاملة الكلية للحياة، وبين النظرة المحدودة الجزئية لها من خلال ما تمثله المسافة بين البداية والنهاية. ولهذا فمن الصعب أن يصبر الفريق الذي ينظر إلى القضايا من مسافةٍ قريبةٍ على الفريق الذي ينظر إليها من مسافة بعيدة.
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} مما قد ترى فيه انحرافاً عن الموازين، التي تزن بها الأمور على أساس ما تراه قاعدةً للشرعية أو ما تتصوره منسجماً مع طبيعة الواقع الذي تخضع في تقييمك له لرؤية معينة، الأمر الذي يجعلك تنتفض وتحتج وتستثير فضولك لتطرح السؤال تلو الآخر لتتعرف على طبيعة المسألة، أو لتسجل عليها نقطة احتجاج. وهذا أمرٌ لا غرابة فيه، لأن الإنسان الذي رُكِّب تكوينه على أساس غريزة الفضول، في ما أراده الله من إثارة قلق المعرفة في ذاته كسبيلٍ من سبل الحصول عليها، أو الذي يملك قاعدةً معينةً للتفكير قد تختلف عن غيره، لا بد له من أن يعبِّر عن موقفه بطريقةٍ متوتّرةٍ لا تملك الصبر على ما يواجهه من علامات الاستفهام، أو على ما يراه من مظاهر الانحراف... ولكن موسى(ع) يصرّ على الحصول على شرف مرافقته، لأن الله يريد له ذلك، فهو مأمور باتباعه.
{قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا} في ما يصبر عليه طالب المعرفة ويتحمله من الجهد النفسي والعملي في سبيل الحصول عليها. إنه العزم الذي يتحرك في إرادتي التي لا أضمن امتدادها في خط الالتزام العملي إلا بمشيئة الله، في ما يقدّره من أسباب، وما يخلقه من ظروف، وما يثيره في حياتي من أفكار ومشاعر، قد تغيِّر العزم، وتُسقط الالتزام... إن القضية هي أنّي أعدك بالصبر، فسأكون صابراً، أتحمل كل النوازع الذاتية الصعبة، {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} كما هو دور التلميذ مع أستاذه الذي يثق بكفاءته وحسن تقديره للأمور، وإخلاصه في سبيل رفع مستواه.
ولكن العبد الصالح يريد أن يحدّد المسألة في دائرة الأسلوب العملي للمعرفة، فهو لا يريد أن يبادر تلميذه بالمعرفة، ولا يريد له أن يبادره بالسؤال، بل يريد له أن يتأمل، ويثير الفكرة في داخله، ويحاول أن يتعمق في القضايا من خلال المعاناة الفكرية التي تمنحه قوّةً عقلية متقدّمة، كما يريد له أن يحصل على ملكة الصبر في مواجهة المشاكل الفكرية المعقّدة، فلا يستعجل الوصول إليها قبل توفُّر عناصر النضوج لديه، كي لا يتحول إلى إنسان سطحيّ في تفكيره.
{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} مما لم تعرف وجهه، ولم تحط بخفاياه، {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} وأبدأ حواري معك، عندما تحين اللحظة المناسبة، التي أرى فيها المصلحة للحديث عن الموضوع معك. وهذا هو شرطي الوحيد الذي أضعه أمامك، للموافقة على مصاحبتي في هذا الطريق.
ـــــــــــــــــــــــ
(1) البحار، م:5، ج:13، ص:435، باب:10، رواية:4
تفسير القرآن