من الآية 74 الى الآية 78
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً* قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً* فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً* قَالَ هَـذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} (74ـ78).
* * *
معاني المفردات
{اسْتَطْعَمَآ}: طلبا الطعام.
{يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ}: أشرف على السقوط.
{فَأَقَامَهُ}: سوّاه.
{بِتَأْوِيلِ}: بتفسير.
* * *
درس موسى الثاني
وبدأ الدرس الثاني، ولكن الموقف كان أكثر إثارة للدهشة والإنكار، لأنه كان يجسّد الجريمة بطريقةٍ طبيعيةٍ. {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ} من دون أيّ ذنب جناه، ومن دون أيّة مشكلةٍ حادثةٍ بينهما وبين هذا الغلام. وبذلك كانت المسألة لا تحمل أيّ تبريرٍ من أيّة جهةٍ كانت، لأن مبررات القتل واضحةٌ في مواردها الشرعية التي ليست موجودة في هذه الحادثة، ولذلك وقف موسى ليحتج بشدّةٍ على هذه الجريمة البشعة، {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} أي طاهرةً {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي من دون أن يقتل نفساً محترمة؟ {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} ينكره الشرع والناس والوجدان.
وقد أثار المفسرون الحديث حول ما إذا كان هذا الغلام غير بالغ، باعتبار ما تفسره كلمة الغلام، ولكنَّ بعضاً آخر يرى الكلمة تتسع للبالغ كما تتسع لغيره، ويرى في اعتراض موسى(ع) بقوله: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أن القتل ـ لو حصل من الغلام ـ لأوجب القصاص، وهو مختصٌ بالبالغ.
وأجابه العبد الصالح بهدوء ليذكره من جديد بعهده بالصمت، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا} ولماذا لم تستفد من التجربة الأولى التي عرفت فيها خطأ موقفك في اهتزاز مشاعرك أمام الحدث الذي لم تفهمه، ولم تفكر بأن من الممكن أن يكون له وجهٌ آخر، لا سيما وأنك لا تجد في ملامحي شخصية الإنسان الشرير الذي يريد أن يؤذي الناس ويوقعهم في ضررٍ كبيرٍ؟
وأحس موسى(ع) بالحرج الشديد لمخالفته له للمرة الثانية ونكثه بالعهد؛ {قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي} لأني لن أكون أهلاً لمرافقتك، باعتبار أن مسلكي يمثل عدم الانضباط أمام الكلمة المسؤولة التي التزمت بها أمامك. {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْراً} فقد أعذرت إليّ في ما قدمته لي من شرطٍ، وما حذّرتني منه من ضعفٍ. ووافق العبد الصالح على الاستمرار معه، وبدأ الدرس الثالث، ليواجها تجربةً جديدةً.
* * *
درس موسى الثالث
{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا}، فقد كانا جائعين، {فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} لأنهم كانوا من البخلاء الذين لا يستقبلون الضيف ولا يكرّمونه. وحانت منهما التفاتة {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} وينهدم، إذ كان مشرفاً على السقوط والانهدام، فبادر العبد الصالح إلى القيام بجهدٍ كبيرٍ لتثبيته وإقامته. ولم يُعجب هذا العمل موسى(ع)، لأنه ـ في غمرة إحساسه بالجوع وابتعاد أهل القرية عن الموقف الإنساني معهما ـ يرى أنَّ من الممكن الاستفادة من هذه الفرصة لطلب الأجرة من أصحاب البيت، للحصول على الغذاء بسبب ذلك. {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} فلا يذهب جهدك هباءً ـ بدون عوض ـ لأنهم لا يستحقون الإكرام، إن كنت تستهدف الخير المحض من خلال ذلك.
ونفد صبر العبد الصالح، ولم يستطع موسى(ع) أن يقدم اعتذاره ويطلب الاستمرار معه، لأنه قد أخذ على نفسه عهداً جديداً بعدم مصاحبة العبد الصالح إذا عاد إلى سيرته الأولى في الاعتراض عليه، وها هو يعود إلى الإخلال بكلمته من جديد. {قَالَ هَـذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} فلم تستطع أن تكون التلميذ الملتزم بأصول التجربة لسلوك طريق المعرفة، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} لتعرف ـ جيداً ـ أن كثيراً من الأمور الظاهرة بشكلٍ معيَّنٍ، قد يكون لها شكلٌ آخر ومعنى آخر، يمكن أن يُغَيِّر الانطباع عنها بطريقةٍ حاسمةٍ.
تفسير القرآن