من الآية 89 الى الآية 98
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً* كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً* ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً* حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً* قَالُواْ يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا* قَالَ مَا مَكنّي فِيهِ رَبّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا* آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً* فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْبًا* قَالَ هَـذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} (89ـ98).
* * *
معاني المفردات
{رَدْمًا}: حاجزاً.
{زُبَرَ}َ: قطع.
{الصَّدَفَيْنِ}: الجانبين.
{قِطْراً}: نحاساً أو حديداً أو رصاصاً مذاباً.
{أَن يَظْهَرُوهُ}: أن يعلوه.
* * *
إقامـة السـدّ
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} وتحرّك من خلال الوسائل المتوفرة لديه، في الانطلاق بعيداً في رحلة ثانية نحو الشرق، فهيّأ كل الأسباب لذلك، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} في الجانب الشرقي في الصحراء الممتدة أمامه حيث الأفق الواسع، {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} فهم يعيشون على الصعيد في العراء من دون أن يكون هناك أيّ ساترٍ يسترهم من بناءٍ ونحوه.
{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} فلم يغب عنا شيءٌ مما كان يتحرك فيه، أو يقبل عليه، أو يخطط له من مشاريع وأوضاع... وربما كان ذلك على سبيل الكناية في إحاطة الله بأموره، بحيث كانت تحت عنايته ورعايته ورضاه... أو في تعظيم أمره، بحيث بلغ من الدقة والسعة ما لا يحيط به إلا الله.
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} في اتجاه آخر، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} وقد يكون المراد بهما الجبلين، لأن السد يطلق على الجبل وعلى كل حاجز يسدّ طريق العبور {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} في ما يوحي به ذلك من بساطتهم وسذاجة فهمهم، بحيث لا يعيشون العمق الفكري في مواجهتهم للمشاكل، فيحتاجون إلى الشخص الذي يدبِّر لهم أمورهم، ويقودهم إلى الحلول الممكنة التي كانوا يستطيعون الوصول إليها بأنفسهم، لو كانوا يملكون الوعي الكامل المنطلق من حالة المعاناة الفكرية. وهذا ما واجهوه مع أولئك الذين كانوا يعيشون في الجانب الآخر من المنطقة، وراء الجبلين، فقد كان بإمكانهم أن يبحثوا عن الوسيلة التي يستطيعون أن يتخلصوا بها من ضغطهم على واقعهم في ما يتحركون به من إفساد البلاد والعباد، إما بالمواجهة، أو بالمعاهدة، أو بغير ذلك من الأمور، ولكنهم لم يجدوا هناك إلاّ إقامة السدّ بينهم، ليكون ذلك حاجزاً طبيعياً يمنعهم من القدوم إليهم، أو الهجوم عليهم. وهكذا طرحوا المسألة على ذي القرنين بسذاجة وطيبة وبساطة.
{قَالُواْ يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ} فهم يغيرون علينا ويعملون فينا سلباً ونهباً وقتلاً وتدميراً... ولا نملك أيّة وسيلةٍ لردّ عدوانهم علينا، ومواجهة إفسادهم لحياتنا وحياة الناس من حولنا، {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} أي مالاً يكون بمثابة الأجر لك على ما نطلبه منك من عملٍ، كما يُعطى كل صاحب عملٍ أجر عمله، ممّا يحفّزه على القيام به والاستمرار فيه، لأن القليلين من الناس هم الذين يقومون بخدمة غيرهم من دون أجر.
{قَالَ مَا مَكنّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} فقد أعطاني الله من أسباب القوة من المال والسلطة، ما هو خيرٌ لي من المال الذي تدفعونه لي، ولذلك فإني أعمل من أجل رضاه، وذلك بتقديم الخدمات لكم وللآخرين من عباد الله الذين أستطيع خدمتهم، فمنه أطلب القوّة والثواب، ولذلك فإني مستعد للقيام بما تريدونه مني، ولكن ذلك يحتاج إلى مساعدةٍ منكم بما تملكونه من الإمكانات العملية التي يقدّمها العمال من جهدٍ وقوّةٍ من أجل إتمام العمل. {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} على بنائه وتحضير الوسائل الممكنة لذلك، من مواد العمل وجهد العمال. { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا } فأسدّ الثغرة المفتوحة بين الجبلين، التي تفسح لهم المجال للنفاذ إلى مواقعكم. {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}َ وهي قطع الحديد التي تمثل الأساس في قوة السد وإحكامه، بالإضافة إلى ما يحتاج إليه من الحجارة. {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} من خلال قطع الحديد التي جمعوها له، ووضعها في الثغرة الواقعة بين الحاجزين، فأصبحا كأنهما صدفتان تغلقان ذلك الكوم بينهما، فصارا في مستوى القمتين، {قَالَ انفُخُواْ} على النار لتسخين الحديد، {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} من خلال توهجه واحمراره، {قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } وهو النحاس المذاب الذي يتخلل الحديد ويختلط به، فيزيده قوّةً وصلابةً.
{فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ} بأن يرتفعوا فوقه لعلوّه، {وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْبًا} بأن يثقبوه لينفذوا من خلال الثقب لصلابته وقوّته.
* * *
طمأنينة المؤمن
وهكذا تمّ لذي القرنين ما أراده من إغلاق المنافذ التي كان ينفذ منها هذا الجيش البشري ـ يأجوج ومأجوج ـ ليفسدوا البلاد ويهلكوا العباد، وذلك انسجاماً منه مع مسؤوليته الإيمانية في ما أراده الله من تقوية الضعيف بقدرته. وهناك شعر بالراحة النفسية والطمأنينة الروحية التي يلمسها المؤمن عندما يقوم بمسؤوليته أمام ربه، فيرى رحمة في القوة التي منحها الله له وفي الروحية التي فتح فيها قلبه وعقله على مواقع الخير، ما يعطي الموقف معنى الإيمان الذي يعيش معه الإنسان، بعيداً عن كل مشاعر القوة الذاتية والكبرياء الشخصي.
{قَالَ هَـذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} فهو مكنني من الخير وهيَّأ لي الظروف وساعدني على مساندة الآخرين لي في ما أريد القيام به في خط المواجهة للمفسدين في الأرض، وفي مجابهة القوة العدوانية بالقوة العادلة. {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} وقامت القيامة، وزالت الجبال وتحولت إلى هباء … {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} فلا يبقى منه شيء، بل يتحول إلى تراب يطير مع الريح {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} لا ريب فيه، فهو أصدق من وعد، فلا مبدل لكلماته وهو اللطيف الخبير. وربما كان المراد من الوعد الحق، الزمن المحدد الذي يختص بهذا السد عند اقتراب الساعة، كما قد توحي به الآية الكريمة في قوله تعالى في سورة الأنبياء: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ* وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:96ـ97].
تفسير القرآن