من الآية 103 الى الآية 108
بسم الله الرحمن الرحيم
الآيــات
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا* أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً* ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُواْ آياتي وَرُسُلِي هُزُواً* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً* خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} (103ـ108).
* * *
معاني المفردات
{حِوَلاً}: تحولاً.
* * *
الضياع الفكري والرّوحي
وتستمر الآيات القرآنية للتأكيد على العلاقة بالله في الإيمان به وفي العمل بطاعته، كقاعدة للنجاح والفلاح والحصول على النتائج الكبيرة الحاسمة في الدنيا والآخرة، فهو الأساس في ذلك كله، ولكن الناس قد يغفلون عنه، وقد يبتعدون بأفكارهم عن الخط الواضح في هذا الاتجاه، فيستسلمون لبعض الأفكار المضلّلة التي قد يرون فيها النجاة من كل خطرٍ، ثم تفاجئهم الحقيقة في نهاية الطريق بالخطأ الكبير الذي وقعوا فيه، فإذا بهم على شفير الهاوية التي تنتظرهم لتذهب بهم إلى الهلاك الأبدي، حيث الحسرة الكبرى والمصير الأسود.
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً} الذين خسروا بدرجةٍ عاليةٍ، لأنهم أضافوا إلى الخسارة الواقعية على صعيد النتائج العملية السلبية، خسارة الحلم الكبير الذي استسلموا له، وعاشوا معه ومع الصورة الحلوة الساحرة زمناً طويلاً، في ما كان يخيّل إليهم من تحركهم في خط المستقبل الواسع الذي تنتظرهم فيه الأحلام السعيدة، فإذا به يتحول إلى ما يشبه الكابوس الجاثم على صدورهم. {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فتحرّكوا في مواقع التّيه، وعاشوا في أجواء الضياع الروحي والفكري والعملي، بعيداً عن الخطوط المستقيمة التي تؤدي إلى ساحات الأمان حيث الفلاح والنجاة والنجاح. وهم، في ذلك كله، يطلقون الأفكار في أكثر من اتجاهٍ، ويخططون للمشاريع على أكثر من صعيدٍ، ويثيرون المشاعر في أكثر من مجتمعٍ، فيستسلمون للفكرة الخادعة التي توحي إليهم بأنهم على حقٍ، في الوقت الذي يتخبطون فيه في الباطل، وتخيّل إليهم أنهم في مواقع الخير يتحركون، بينما هم في أوحال الشر يتخبطون، فيسيئون إلى أنفسهم وإلى من حولهم وإلى الحياة في ذلك كله... {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} ثم تنكشف لهم الحقيقة، فيسقطون صرعى الخيبة الكبيرة والخسران العظيم والحسرة الكبرى.
وهؤلاء موجودون في كل زمانٍ ومكانٍ في أحد فريقين:
الفريق الأول: الناس الذين يخضعون للتوجيه السيّىء والتخطيط الشرّير، فيحملون الفكر الشيطاني في حركة العقيدة ومنهج الحياة تحت وطأة أجواء الخديعة والتضليل، يقدسونه ويعظمونه ويرون فيه الخلاص كل الخلاص، والنجاح كل النجاح، لأنهم عاشوا تحت ضغط هذا الفكر وفي دائرة الحصار النفسي التي أحاطت بهم من كل جانبٍ، فلم تترك لهم نافذةً يطلون منها على الاحتمال المضاد والفكر الآخر.
الفريق الثاني: الناس الذين يعرفون الحق، ولكنهم يتمردون عليه، ويعملون على أساس الانحراف عنه لأنه لا يتفق مع أطماعهم، ولا يخضع لشهواتهم، ولا يحقق لهم امتيازاتهم في الحياة... ولذلك فهم يحاولون أن يلتمسوا لأنفسهم طريقاً آخر، ويتبنون فكراً آخر يتكلفون فيه الإيحاء لأنفسهم لإقناعها بأنه سبيل النجاة، لأنه يحقق لهم أمانيهم وأحلامهم في الحياة الرخية السعيدة، والعيش العزيز الكريم، ويبقون يلفّون ويدورون حتى تتعمق الفكرة داخل قناعاتهم من موقع الغفلة العميقة عن حركة الحقيقة في داخلها... وربما كان الكافرون من هذا الفريق، لأن القرآن لا يجد الكفر ناشئاً من حالة شبهة مضادّة، بل من حالة فكرةٍ متبنّاةٍ من خلال الأهواء والمطامع. وهذا ما أرادت الآية التالية أن تثيره، كنموذجٍ لهؤلاء الناس الضائعين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً لأنفسهم وللآخرين.
* * *
جزاء الذين كفروا جهنم
{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} فلم ينفتحوا على آيات الله في الكون وفي أنفسهم، ليعرفوا عظمة الله ووحدانيته من خلال ذلك، ولم يلتفتوا إلى آيات الله في وحيه وفي رسالاته ليعرفوا الحقيقة الناصعة الحاسمة المتمثلة فيه، فكفروا به وبرسله من هذا الموقع، ولم يفكروا باليوم الآخر الذي حدثهم عنه الأنبياء وجاءت به الكتب المنزلة وقادهم إليه عقلهم الذي يربط بين حركة الوجود في البداية وحركة البعث في النهاية، وفي عقلانية المسألة من حيث الإمكان، فكذبوا بلقاء الله في ذلك اليوم، فابتعدوا عن الاستقامة، وتخبَّطوا في الطريق، فضلّوا عن مواقع الهدى، إذ لم تتحرك أعمالهم من قاعدة، بل انطلقت عشوائياً، فلم تؤد بهم إلى نتيجة، وضاعت كلها سدىً كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون على شيء مما كسبوا... {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}. وقد ذكر بعض المفسرين، أن الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تتغذى بنوعٍ سامٍّ من الكلأ ثم تلقى حتفها. وبذلك يتناسب التعبير مع طبيعة أعمال الكافرين التي تتضخم وتنتفخ، حتى يخيّل إليك أنها ظاهرة صحةٍ وعافية، ولكن الواقع يتكشّف في نهاية المطاف، عن ظاهرةٍ مَرَضِيّةٍ داخليةٍ عميقةٍ توحي بالهلاك والدمار.
{فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} لأنهم لا يملكون أيّة قيمةٍ حقيقيةٍ ٍفي ما تعنيه القيمة التي تعطي للإنسان وزنه عند الله، من القاعدة الروحية الإيمانية المنفتحة على الحقيقة، من موقع الإشراق والوضوح، لأن الوزن الذي قد يتحرك من حالة الثقل الظاهري، لا ينطلق من ثقلٍ حقيقيٍّ في المضمون، بل من انتفاخٍ لا يحمل في داخله إلا الهواء، وذلك لما يمثله الباطل من حالة انعدامٍ في الوزن. ومن هنا، فإن الله يهملهم ويلقيهم في زاويةٍ مّا، كأيّة كمِّية مهملةٍ لا معنى لها، وإذا كانت المسألة لا تملك حلاً وسطاً، فإمّا إلى الجنة وإما إلى النار، وإذا كانت الجنة لا بد من أن تكون نتيجة ثقلٍ في القيمة وفي العمل، فلا بد من أن تكون النتيجة لأمثال هؤلاء هي النار.
{ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ} لأنهم غير معذورين في الكفر، لعدم رجوعهم فيه إلى حجّةٍ {وَاتَّخَذُواْ آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً} فلم يرجعوا إلى قاعدةٍ للفكر في الرفض، وإلى خطٍّ للحوار في الموقف، بل عاشوا أجواء السخرية والاستهزاء بآيات الله ورسله، انطلاقاً من حالتهم النفسية المتمردة القلقة التي تهرب من جهد البحث عن الحقيقة لتستجيب إلى النوازع الذاتية في أجواء الاستهزاء، موحين لأنفسهم بأنهم في موقع القوة، في الوقت الذي تهاجمهم فيه كل نقاط الضعف، ليكون ذلك غطاءً للضعف الداخلي الباحث عن حالات الاستعراض الكلامي والعملي.
* * *
جزاء الذين آمنوا الجنة
ولكن هؤلاء ليسوا كل شيء في الصورة، فهناك نموذج آخر من الناس عاشوا الجدية الفكرية في ما يواجهونه من قضايا الفكر الإيماني، والمسؤولية العملية في مشاريع الواقع المتحركة في حياة الإنسان، وهم المؤمنون الذين يعملون الصالحات. وهؤلاء هم الذين يملكون الوزن الكبير في حساب القيمة، من خلال المضمون الحقيقي للشخصية الإنسانية على أساس الإيمان والعمل الصالح، وهم الذين يملكون النتائج الإيجابية في الدار الآخرة.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} حيث ينزلون فيها في رياض النعيم ومع رفاق السعادة، في حالة استرخاء روحيٍّ حالمٍ يستغرقون معه في أحلامهم السعيدة، ومشاعرهم الحلوة.
{خَالِدِينَ فِيهَا} لا يذوقون فيها الموت حتى على مستوى الوهم، لأن مسألة الخلود الأبدي تمثل الأساس في معنى الجنة على مستوى الجزاء الإلهي للمؤمنين العاملين. وربما كان لهذا الخلود في هذه الجنات معنىً خاصٌّ، وطعمٌ لذيذٌ، وحسٌّ متحرِّكٌ متجددٌ... لا يشعر فيه الإنسان بالملل الذي قد ينتج عن الاستمرار في جوٍّ واحدٍ ودائرةٍ محدودةٍ، ولذلك فإن هؤلاء الذين ينزلون في هذه الجنات، لا يسأمون منها ولا من طعم نعيمها ولون سعادتها، فلا يعملون للخروج منها، مهما امتد بهم الزمن. {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} ومتحولاً إلى دار أخرى. وتلك هي خصوصية نعيم الجنّة التي تتميز بها عن نعيم الدنيا، لأنها تمثل الجوّ الذي يتوازن فيه الشعور الداخلي بالسعادة في الإنسان مع الواقع الطبيعي الذي ينفعل به ويلتقي معه. وهذا ما نستوحيه من الكلمة المأثورة عن الجنة حيث فيها «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»[1]، مما يمنع من عملية المقارنة بين الدنيا والآخرة في ذلك، لأن أجواء الآخرة تختلف في العمق عن أجواء الدنيا، بالرغم من أن طريقة التعبير عن النعيم في الجنة بالأسلوب الحسي، قد توحي بالمشابهة، ولكن المشكلة هي أنك لا تستطيع تقديم الصورة التي تقترب من أجواء المطلق، إلا بالوسائل التي لا تملك فيها إلا الصورة التي تعيش في ساحة المحدود.
ــــــــــــــــــــ
(1) البحار، م:3، ج:8، ص:489، باب:16.
تفسير القرآن