تفسير القرآن
الكهف / الآية 109

 الآية 109

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيــة

{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (109).

* * *

معاني المفردات

{مَدَداً}: المدد: مجيء شيءٍ بعد شيءٍ.

* * *

معنى كلمة الله

كيف يتصور المخلوق آفاق الخالق؟ هل هناك حدودٌ معينةٌ، أم أنّ هناك الأفق المطلق الذي لا حدّ له ولا آخر؟

إن هذه الآية تتحدث عن بعض ذلك، وتحاول أن تقرِّب للإنسان ملامح الصورة، ليعيش تصور المطلق من خلال تصور المحدود، ولكن بأسلوبٍ يوحي بالامتداد بما يقرب من أجواء المطلق.

إنها تتحدث عن كلمات الله ـ والكلمة هي معنى يوجد باللفظ ـ فهل أن كلمات الله هي الألفاظ الصادرة منه؟ وهل يمكن صدور الكلمة من الله كما تصدر من الإنسان من الفم، والله ليس جسداً يتكلم بالمعنى المادي للكلام؟!

إن الكلمة قد تكون تعبيراً عن كل فعلٍ يصدر من الله في مسألة الخلق والإيجاد، وهذا ما عبّر عنه الله في كل مظاهر إرادته في حركة الأشياء في قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس:82] وذلك من خلال المضمون الداخلي للكلمة، باعتبار أنه دالٌّ على الفعل. وهذا هو الذي جعل المسيح (ع) في خلقه كلمة الله، باعتبار أنه الدليل على وجوده وقدرته وعظمته. وربما كان المراد منها علم الله، باعتبار أن الكلام في مضمونه يمثِّل المعنى الحيّ للمعرفة، فيكون المراد من كلمات الله معلوماته. وقد يكون المعنى الأول هو الأقرب باعتبار الأسلوب القرآني الذي جاءت فيه الكلمة منسجمة معه، كما أشرنا إليه آنفاً.

ولكن مسألة المعلومات لا تبتعد عن الجو في ما يريد القرآن دائماً أن يؤكده من إحاطة الله بالكون كله وبالحياة وبالإنسان من خلال علمه الواسع المطلق.

ولا يتنافى هذا الفهم مع المعنى الأول الذي قد يكون شاملاً للكلمة التي تعبر عن المضمون المتجسِّد للواقع في ما يعنيه فعل الله من ذلك، كما يكون شاملاً للكلمة التي تعبر عن المعرفة بواسطة موادّها في الحياة، ليكون كناية عن الاثنين معاً، حيث يتحرك علم الله في كل آفاق الحياة التي هي خلقه وفعله وإرادته التكوينية في الوجود.

* * *

علم مطلق

{قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} والبحر هو الامتداد المائي الواسع العميق الذي قد يخيل للإنسان أنه لا نهاية له في سطحه ولا قعر له في عمقه. والمداد هو هذا السائل الملوّن الذي يستعمل للكتابة. وبذلك تتضح الصورة في وضوح الامتداد الذي يلتقي بالمطلق في سعته وشموله وعمقه، فكيف تكون النتيجة في تحوّل البحر إلى مدادٍ يكتب ويكتب ويكتب... وينتهي البحر، وتبقى الكلمات تبحث عن مداد جديد، فلو كانت الفرضية صحيحةً وكان البحر مداداً لكلمات ربي، {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} لأن الله يخلق في كل لحظة شيئاً جديداً، ويبدع في كل آن علماً جديداً. وتتحول المسألة إلى حقيقةٍ متحركةٍ تلهث وراء الجديد، ونأتي ببحرٍ جديد لا ساحل له في النظرة الساذجة، ويتحول إلى مدادٍ... وتبقى الكلمات تبحث عن مدادٍ جديد، لأن جديدها يفرض نفسه على الحياة والإنسان {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}.

وهكذا ينطلق التصور البشري للمطلق من خلال المحدود، ويقف الإنسان حائراً أمام الحقيقة المطلقة، ليجد نفسه عاجزاً عن الوصول إلى أيّة نتيجةٍ إيجابيةٍ حاسمةٍ في هذا الاتجاه، في حدود المعرفة الإنسانية، الأمر الذي يوحي للإنسان بالتواضع أمام العلم المطلق، والإرادة المطلقة، والقدرة المطلقة... مهما ملك العالمون من أسباب العلم ومهما وصلوا إليه من مفرداته، لأن ذلك كله عبارةٌ عن بعض خلق الله، في ما صنعه الله في خلقه، وما أوحى به للإنسان من علمه، فكيف يمكن له أن يطغى في علمه، أو في قدرته؟!