تفسير القرآن
مريم / من الآية 12 إلى الآية 15

 من الآية 12 الى الآية 15

الآيــات

{يا يحيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً* وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوَلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً* وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} (12ـ15).

* * *

معاني المفردات

{الْكِتَابَ}: المراد به هنا: التوراة.

{الْحُكْمَ}: العلم بالمعارف الإلهية، أو هو الفهم.

{وَحَنَانًا}: العطف والرحمة.

{عَصِيّاً}: الأصل في معناه: الامتناع، والمراد به هنا: أنه كان رؤوفاً رحيماً بمعاملته مع الناس.

* * *

الكتاب ليحيى

وتمت كلمة الله، وولد يحيى لزكريا. وبدأ ينمو ويترعرع في أحضان التقى وفي أجواء الإيمان، حتى إذا أكمل نموّه الجسدي والروحي، وانفتح على الله بروحه، وعلى الإيمان بفكره، وعلى المسؤولية بكل وعيه، جاءه النداء الخفي من الله، أن ينزل إلى الساحة، حيث يحتدم الصراع بين الآراء المتعددة والمذاهب المختلفة، وحيث تتصادم الأهواء في النظر إلى القضايا والأشياء بعيداً عن الموازين الدقيقة لها، ليأخذ دوره في مواجهة ذلك كله، بكلام الله، من موقع القوة المرتكزة على عمق الوعي وسعة الأفق، وشمول النظرة، وقوة الإرادة، وصلابة الموقف.

{يا يحيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} واحمل التوراة التي تشمل كل شيء في العقيدة والتشريع والمنهج، لتؤكدها في حياة الناس، بالدعوة والحركة والخط، ولا تضعف أمام كل عوامل التحدي، وعناصر الضعف، بل تقدَّم بكل قوة، لأن الأقوياء هم الذين يملكون ساحة الفكر بقوة فكرهم، وساحة السلطة بقوة شخصيتهم، وثبات موقفهم. أما الضعفاء فيهزمهم الآخرون بأي أسلوب يضعف الروح، ويزلزل الفكر، ويهز الشعور، فينسحبون عن مواقعهم بسهولة. هؤلاء المنهزمون الضعفاء لا يمثلون شيئاً في حركة الصراع ومواجهة التحدي.

وليست هذه الدعوة خاصة بيحيى، بل تشمل كل الذين يحملون رسالات الله من أنبياء أو مبلّغين، فإن على هؤلاء أن يحملوا رسالة الله بقوة وحسم بامتلاكهم العمق في المعرفة وصلابة الموقف ووضوح الهدف وصلابة الإرادة، والهدف في مواجهة التحدي المضادّ، وامتلاك السلاح في مواقع الجهاد. وتلك هي مسؤوليتهم التي يريد الله لهم أن يحملوها، ليتوازن الواقع على خط الهدف، وتندمج إرادة الإنسان في إرادة الله. وهذا ما أراده زكريا من خلال الولد الذي طلب إلى الله أن يهبه إياه، ليرثه ويرث من آل يعقوب، في حمل الرسالة، وفي ما تركه آل يعقوب من كتاب وحكمة وقوة، ليسيطروا على كل الذين يريدون الانحراف بالناس عن الخط المستقيم.

* * *

وآتيناه الحكم صبياً

{وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} وتلك هي المعجزة الإلهية الثانية في خلق يحيى، فقد ألهمه الله الوعي الكامل للحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه، في كل المواقع التي يبحثون فيها عن الحاكم العادل الذي يعرف الشريعة مصادر وموارد، ويميز بين مواقعها، لتتحرك به النظرية في خطوط التطبيق. وهكذا ملأ الحكم كيانه، وتحرك في كل حياته وهو لا يزال صبياً لم يبلغ الحلم، ولم يصل إلى السن التي تؤهله لتبوّؤ المواقع المتقدمة للحكم في نظر الناس، باعتبار أن الحكم هو عنوان كبير لنضج العقل واكتماله، وسعة المعرفة واتزان المشاعر، وهي أمور لا تتحقق لصبي في عقله وحركته، وبالتالي فإنه لا يكون موضعاً للثقة، لأن ذلك يحتاج إلى قطع مراحل طويلة من النمو الطبيعي ومن معايشة التجارب. ولكنها إرادة الله التي تتصل بالحياة، فتمنحها كل عناصر القوة وكل عوامل السرعة في النمو، لأن إرادته لا تتخلف عن مراده في قضايا التكوين في ما يجده من أسرار الحكمة في حركة الإنسان في الحياة.

وهذا ما يريده الله لعباده، في ما يعدّه لهم من مواقع الكرامة، ومنطلقات الهداية بالأسباب المألوفة أو غير المألوفة. ولم تكن معرفة يحيى للحكم هي كل ما كان يملكه هذا العبد الصالح الداعية، بل كانت شخصيته جامعة لكل صفات الكمال، {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا} بما أفاضه الله عليه من روحية الحنان الإلهي الذي يغمر قلبه بالخير والرحمة، فينسكب على حياة الناس رأفةً، وعطفاً، ورحمةً، ومحبة، فلا يعنف بهم، ولا يقسو عليهم، ولا يحملهم ما لا يطيقون، في ما يحملهم من مسؤوليات، ويدعوهم إليه من قضايا، ويقودهم إليه من مواقف... ولعل هذا أقرب إلى الفهم في موقعه الرسالي الذي تلتقي فيه الرسالة بالحكم. وربما فسره بعضهم بأنه نوع عطفٍ وانجذابٍ خاصٍ إلهيّ بينه وبين ربه غير مألوف، وذلك نظراً إلى تقييد الحنان بقوله {مِّن لَّدُنَّا}، إذ إنها تستعمل في ما لا مجرى أو نظر فيه بالنسبة للأسباب الطبيعية العادية.

ولكننا لا نجد في الكلمة مثل هذا الإيحاء، بل يكفي في صحة النسبة إلى الله أن يكون العمل صادراً منه بإرادته بشكل أو بآخر، وربما تكون دلالتها على جانب الرعاية منه أكثر من دلالتها على الجانب غير العادي من ذلك. والله العالم.

{وَزَكَاةً} في ما يتكامل فيه من عناصر النموّ والبركة والطهارة، أو في ما يغدقه على الناس من ذلك كله.

{وَكَانَ تَقِيًّا} يعيش الخوف من الله والإحساس بمراقبته، والالتزام بأوامره ونواهيه، في ما تحمله التقوى من وعي الخط الرسالي، وإصرار على تحريك الموقف ضمن ذاك الخط. وبذلك كان دوره دور القدوة التي توجه الناس بالممارسة، كما توجههم بالدعوة.

{وَبَرًّا بِواَلِدَيْهِ} في ما يعيشه من روحية البر، وأخلاقية الإحسان التي تملأ قلبه شعوراً بالرحمة، واعترافاً بجميل هذين الإنسانين اللذين كانا السبب في وجوده، بإرادة الله، والعنصر الأساس في عملية نموه وتكامله، والقلب الكبير الذي أفاض عليه المحبة والخير والحنان... وتلك هي الصفة الروحية الأخلاقية التي تجعل منه إنساناً منفتحاً على الآخرين في إنسانيته، ومتحرراً من سجن الأنانية التي تحبس الإنسان في دائرة ذاته.

{وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} كما هي حال الكثيرين ممن يحتلون المواقع المتقدمة في المجتمع؛ إذ إن مواقعهم تلك تدفعهم إلى الشعور بالقوة المستعلية والجبروت المتكبر الذي لا يرون معه لأحد عليهم حقاً، ويرون لأنفسهم كل الحق على الآخرين. بل هو، على العكس من ذلك، مجرد إنسان طيب متواضع يرى للناس الحق عليه في ما قد يراه لنفسه أو في ما لا يراه لها، فيتعهدهم إلى مواقع الهدى والرشاد، وبذلك لم يكن خلقه قاسياً عصياً، بل كان رؤوفاً رحيماً ليناً في ما يصادفه من قضايا الناس وآلامهم، وتلك هي روحية السلام الذي يمثل الأمن الروحي في حياته الفردية وفي حياته الاجتماعية، في الدنيا والآخرة.

{وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} فأراده الله أن يكون محلاً لكرامته، وموضعاً لرحمته، {وَيَوْمَ يَمُوتُ} حيث ينتقل إلى رحاب الله وفي روحه كل مشاعر السلام للناس وللحياة، {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} حيث يعيش هناك السلام المنفتح على الله، فيقوده ذلك إلى رحاب الجنة التي هي دار السلام.

* * *

ماذا نستوحي من القصة؟

وقد نستوحي من قصة زكريا ويحيى أن الإنسان المؤمن لا يسقط في مشاعر اليأس الخانقة عندما تحاصره الموانع الطبيعية التي قد توحي إليه باستحالة ما يطلبه واقعياً، بل يبقى في أجواء الأمل الروحية التي تنفتح على قدرة الله ورحمته، وذلك من خلال عالم الغيب الذي يطل على الآفاق غير العادية من حياة الناس في ألطاف الله الواسعة، عندما يرزقه من حيث لا يحتسب، ويحرسه من حيث لا يحترس، ويحقق له الكثير من أحلامه من حيث لا ينتظر… وهكذا انطلق زكريا بالدعاء في الدائرة المستحيلة من ناحية واقعية على أساس الإيمان بالله الرحيم بعباده القادر على كل شيء، بكل عفوية وبساطة وانفتاح، حتى إذا استجاب الله له ما أراد، استيقظ فيه حسه المادي الذي يربط الأمور بأسبابها المعتادة، فيستغرب خروجها عن المألوف. ولكن الله يرجعه إلى وجدانه الروحي، ويؤكد له ذلك بآياته المعجزة، فيلتقي الانفتاح الروحي والإيمان بكل قوة.

وإذا لم يكن من العملي أن ننتظر المعجزة من الله كي نتحرك بواسطتها على أرض الواقع، لأنها لا تمثل قاعدةً في حياة الناس، بل استثناءً لمصلحةٍ معينة في حياة الأنبياء والأولياء، فإن لنا أن نستوحي في قصة زكريا القدرة الإلهية على تحدي الصعوبات المادية، وألاّ نستبعد الغيب في حياتنا الواقعية، لا سيما في الأوضاع المعقّدة الصعبة والتحديات القوية من أعداء الله، ما قد يمنحنا القدرة على التماسك، وعلى حفظ توازن الموقف وصلابته، أمام حالات الاهتزاز الروحي والفكري والعملي، الذي يمكن أن يتأتى عن مصادر الضغط المختلفة لننتظر الفرج القادم من عمق الغيب في ما يثيره في حياتنا من قضايا غير اعتيادية، في ما يحركه الله في الساحة من غامض علمه، مما لم نستطع اكتشافه بإحساسنا المادي.

ثم إننا نلاحظ هذه الروحية التي تجعله يفكر بالولد المؤَّمل المطلوب من الله خوفاً منه على مستقبل الرسالة، إذا تسلّمها من ليسوا في مستوى المسؤولية من الأقرباء الغرباء عن مواقعها الأصيلة. ولذلك فإنه يريد الولد الرضيّ الذي يتسلم المهمة من موقع الكفاءة الروحية والأخلاقية والعملية، ليحفظ الساحة من كل اهتزاز وانحراف واستغلال.

وإذا كنا مصيبين في استفادتنا هذا المعنى من الآيات، فإن ذلك يؤكد لنا أن همّ الإنسان الرسالي الكبير هو مستقبل الأمة، وليس فقط حاضرها، لأن تفكيره لا يقتصر على الحاضر فقط، بل يتعداه إلى المستقبل في نظرته إلى حركة الرسالة في الحياة؛ كما يوحي إلينا بأن الولد الذي يعيش في أمنياته، لا يمثل مجرد حاجة ذاتية حدودها الرغبة الإنسانية في امتداد الحياة عبر الأولاد تحقيقاً لرغبة خفيّةٍ بالخلود، ولو عن طريق غير مباشر، بل يمثل حاجةً رساليةً لإكمال مشاريع رسالته الفكرية والعملية من خلال أقرب الناس إليه وهو من يعتبر امتداداً لحركته الفاعلة على أكثر من صعيد.

أما يحيى، فهو صورة الإنسان الرضيّ التقيّ الزكيّ الذي يعيش الوداعة، والروحانية والطهارة، والالتزام الواعي بالخط الإلهي، الذي يريد الله للإنسان أن يتعمّق فيه من خلال روح التقوى ليحرك الحياة من حوله من خلال تلك الروح، ولكن ذلك لا يمنعه من أن يحمل الكتاب بقوة، ويتحدّى الواقع المنحرف بإيمان، في وداعة تفتح القلوب على الحق من موقع أخلاقيٍّ، وقوة تربط الإرادة بالموقف الرسالي، ليحطم الحواجز من بين يديه ومن خلفه، وليفتح الساحة الضعيفة على كلمات الله من قاعدة القوة، ليكون ذلك مثلاً حياً للداعية الواعي الذي يحب الناس في وداعته وروحانيته، ويحب الرسالة في حركة الدعوة إلى الله في قوتها وصلابتها، وهو مثل تفتقر إليه الحياة في حركة الوسائل لتحقيق الأهداف. فمن بين المشاكل التي نعانيها في الواقع الرسالي، هي مشكلة الرساليين الذين لا ينفتحون على الجانب الإنساني المأساوي من حياة الناس، ومشكلة من ينفتحون على الرسالة من مواقع الضعف الإرادي.