من الآية 9 الى الآية 23
الآيــات
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى* إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى* فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يا مُوسَى* إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى* وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى* إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصّلاةَ لِذِكْرِي* إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى* فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى* وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسَى* قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مآَرِبُ أُخْرَى* قَالَ أَلْقِهَا يا مُوسَى* فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى* قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأُولَى* وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى* لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرَى} (9ـ23).
* * *
معاني المفردات
{آنَسْتُ}: الإيناس: إبصار الشيء، آنست: أبصرت.
{بِقَبَسٍ}: القَبَس: الشعلة من النار على رأس عود.
{طُوًى}: اسم لوادٍ في طور، قد سماه تعالى بالوادي المقدس.
{يَصُدَّنَّكَ}: الصدّ: الصرف.
{فَتَرْدَى}: الردى: الهلاك.
{أَتَوَكَّأ}: الاتكاء على العصا: الاعتماد عليها.
{وَأَهُشُّ بِهَا}: الهشّ: خبط ورق الشجرة وضربه بالعصا ليتساقط على الغنم فيأكله.
{مَآرِبُ}: جمع مأربة، وهي الحاجة.
{سِيَرتَهَا}: أي حالها أو طريقتها.
{جَنَاحِكَ}: الجناح: جناح الطائر، واليد والإبط.
{مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}: من غير عاهة أو قبح.
* * *
حديث موسى.. في بداية الرسالة
.. وهذا فصل جديد من السورة يتحدث عن قصة موسى (ع) في نطاق حركة التوحيد الإلهي في مسيرة النبوات، وفي رعاية الله للأنبياء بالتأييد واللطف، ليمنحهم وسائل القوة التي يستطيعون من خلالها أن يثبتوا أقدامهم على أرض صلبة، في مواجهة كل عوامل الاهتزاز والتهويل، وذلك بالوسائل الغيبية التي تنطلق في مستوى القوة المضادة لتحقيق التوازن في البداية لإفساح المجال للحركة أن تسير بواقعية وأمان، ثم الانعطاف على الوسائل العملية الإنسانية التي تكمل الطريق من خلال نقاط الضعف والقوة، تبعاً للظروف الواقعية التي تتحرك على صعيد الواقع.
وإننا نعرف الغنى الروحي والرسالي في قصة موسى، في ما تشتمل عليه من عناصر متنوعة تتصل بالشخص الداعية، والشخصيات المضادّة، والتحديات الصعبة، والمجتمع المعقّد الجاهل الذي انطلقت الرسالة من أجل إنقاذه، فتحول إلى مجتمع ضاغط على حركتها التغييرية في المستقبل، وأصبح مثيراً للمشاكل في ساحتها أكثر مما أثاره خصومها وأعداؤها.
وربما كانت حركة القصة في السورة منسجمة مع البداية التي أرادت أن تركز في وعي النبي محمد(ص) الابتعاد عن الشعور بالإحباط أمام حالات التمرد والجحود، لأن مهمته هي إبلاغ الرسالة للتذكير والتوعية. وتبقى للظروف الموضوعية مسألة الامتداد أو التراجع، في ما تحمله من نقاط القوة، وتبقى إرادة الله فوق ذلك، في ما اقتضت حكمته أن تسير الأمور وفق السنن الكونية التي أودعها في النظام الكوني للحياة وللإنسان.
إن القصة تريد أن تطرح حركة موسى في الدعوة، كتجربة رسالية رائدة في طبيعة مواقع القوة المتحدية، وفي نوعية المشاكل المتحركة في الساحة من الداخل والخارج، لتكون درساً للعاملين في خط الدعوة إلى الله، لينظروا إلى المسألة بطريقة واقعية، وليعرفوا أن المعجزة عندما تحدث فإنها لا ترافق الرسالة في جميع المراحل، بل تعمل على منحها الثبات في البداية، ليتم استكمال نشرها بالوسائل البشرية في المراحل الباقية في الطريق إلى الهدف.
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} كيف عاش التجربة الأولى، وكيف اتصل بالله سبحانه في أول انطلاقته الرسالية، وهل أتاك حديثه في مواجهته لفرعون ولقومه من بعده، وكيف واجه الصعوبات التي أثقلت روحه، دون أن تحطم إرادته في مواصلة المسيرة؟
{إِذْ رَأَى نَاراً} من بعيد، وكانوا بحاجة إليها للاصطلاء بها وتحصيل الدفء في تلك الليلة الباردة، {فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} لأذهب إليها {لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ} للدفء، {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} للسؤال عندها عن الطريق فقد يكون هناك أناس متواجدون عندها. وذهب موسى إلى هناك، وكانت المفاجأة. {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يا مُوسَى} وكان الصوت يأتيه بطريقة غير عادية، فليس هناك شخص يتحدث أمامه، ولكن الصوت مسلط عليه من كل مكان، حتى ليهتز كيانه معه ليتساءل بعمق وحيرة.. من هو؟ ومن أين، وكيف؟ {إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ} وكانت الدهشة التي توحي بالرهبة، وتؤذن بالخطورة... إنه صوت الله.. إن الله يكلمه من دون وسيط.. إنه الصوت الإلهي الذي ينفذ إلى كل روحه وقلبه وضميره.. إنها الإشراقة الروحية التي تفيض عليه فيسبح في بحار النور المائج بالرحمة واللطف والرضوان.. وأصغى بكل كيانه في انتظار ما هناك، ماذا يريد الله منه..؟ وعقدت المفاجأة لسانه…
* * *
حوار الوادي المقدس
{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} إن لهذا الوادي قدسيته، فلا بد لك أن تحترمه، في مظهر تقديس يحترم الحضور الإلهي من خلال الصوت الذي كلم موسى وأحاط به من كل مكان قائلاً له: {إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ} فلا يكن عندك موقع للشك... وتفرض الحقيقة نفسها عليه فيطمئن ويهدأ ويتابع الاستماع بلهفة وشوق: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} لتكون رسولاً من قبلي إلى فرعون لتقوده إلى الإيمان ولتردعه عن الطغيان، وإلى هذا الشعب الذي عاش العبودية في عمق ذاته حتى أصبحت جزءاً من كيانه، بما يقدمه من فروض الطاعة لمستعبديه دون إحساس بضرورة الثورة أمام المستعبدين لنيل الحرية التي تستقيم من خلالها إنسانيتهم. وأنا اخترتك لتكون رسولاً إلى الحياة كلها، ليستقيم لها الطريق من خلال رسالتك وشريعتك، ولتنتظم خطواتها في الخط المستقيم.
{فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} وافتح قلبك لاياته، وعقلك لأفكاره، وسمعك لكلماته.. وروحك لإحساساته.. وأعطه كل كيانك لتستوعبه كحقيقة وجدانية لا مجال فيها لأي شك أو زيغ أو انحراف.
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَـهَ إِلا أَنَاْ} إنها الحقيقة الساطعة التي يشع نورها على الوجود كله. إنها فكرة التوحيد التي تؤكد على وحدانية الخالق الذي هو الله لا إله إلا هو، وقد جاءت الرسالات لتعمقها في وجدان الإنسان وعقله، ليكون التصور للمسألة الإلهية صافياً نقياً في العمق التوحيدي، بحيث يمتزج الجانب العقلي بالجانب الوجداني الشعوري.
{فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} وهذا هو الخط الثاني العملي للمسألة التوحيدية في العقيدة بما يمثله توحيد العبادة لله، بالتزام أحكامه في الجانب التشريعي من حياتهم، والتزام مفاهيمه في الجانب الفكري من ثقافتهم، والتزام منهجه في الأسلوب العملي لحركتهم، ما يجعل حركة الإنسان في الحياة منسجمة مع حركة العقيدة في الداخل، لأن الإخلاص في التوحيد يفرض التحرك في خطين؛ خط العقيدة، وخط العمل.
وفي هذا الجو تأتي إقامة الصلاة لتحقق القوة الروحية التي ترتفع بالإنسان إلى الله ليعيش عروج الروح إلى قدسه، من خلال الجو الإيماني الذي يعيشه الجسد في حركة العبادة، ما يؤدي به إلى الإحساس بحضور الله في وعيه ووجدانه، بحيث يرى الله في كل شيء فيذكره في كل موقف..
وهذا هو الوحي الأول الذي أوحى به الله إلى موسى(ع) ليكون عنوان الرسالة في خطوطها التفصيلية الفكرية والعملية، ليعرف من خلال نقطة البداية ما يحدد له خط السير لتلمّس ملامح خط النهاية، تماماً كما هو المفهوم من الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ} [فصلت:30].
{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} وهذا هو الوحي الثاني الذي يضع المسألة في دائرة المسؤولية، من خلال الموعد الذي حدده الله، والنتائج التي تنتظر الإنسان هناك، وهو يوم القيامة الذي يعبّر عنه بالساعة التي لم يبينها الله للإنسان، {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} في ما تقدمه من أعمال الخير التي تنال بها رضا الله، وأعمال الشر التي تستنزل عقابه.
{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} ممن يعيش العمر في الدنيا باعتبارها نهاية المطاف، أو الفرصة الأولى والأخيرة، فيعمل على ممارسة الضغوط الفكرية والنفسية والعملية، للوقوف في وجه الالتزام الفكري والعملي بالخط الإيماني الذي يطل على الدار الآخرة في عملية اقتناع وإيمان، والحؤول دون الوصول به إلى نتيجة حاسمة في حركة الإنسان والحياة. إن مثل هذا النموذج من الناس لا يمثل قيمةً كبيرةً في ميزان التقييم الاجتماعي على مستوى الحق والواقع، لأن عدم الإيمان ليس ناشئاً من حالةٍ فكريةٍ مضادةٍ، بل هو ناشىٌء من حالة مزاجية معقّدة، وقلقٍ ذهني ساذج، ونزعة شهوانية منحرفة. فقد ركب رأسه {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} فكان مقياسه للرفض وللقبول في مواقفه، ما يقوده إليه هوى النفس بعيداً عن العقل، فلا تستسلم لأساليبه، {فَتَرْدَى} لأنه يصل بك إلى الهلاك المحتوم في قضية المصير.
وها هي المفاجأة الثانية التي تعطيه الدليل على أن الرسالة تنتظره في مواقع التحديات، وأن الله لن يتركه وحده، بل سيؤيده ويدعمه بقوة عجيبة لا يثبت أمامها أي شيء. {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسَى} ولم يكن السؤال استفهاماً لمعرفة الحقيقة الكامنة في صعيد الواقع، لأن المسألة ليست غامضة بالمستوى الذي تحتاج المعرفة فيها إلى سؤال، بل هي على العكس من ذلك، واضحة من دون شبهة، لأنها تمثل الصورة الحسية البارزة للعيان، مع ملاحظة طبيعية، وهي أن السائل هو الله الذي يعلم كل شيء، ولكن السؤال كان من أجل أن يكون جسراً يتحرك فيه الحديث الذي يؤدي إلى الحوار.
{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكّأ عَلَيْهَا} عندما يثقلني الجهد، ويضعفني التعب، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمي} أي أجعلها وسيلة لإطعامها، من خلال خبط ورق الشجر وضربه بالعصا ليتساقط على الغنم فيأكله، {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} مثل الدفاع بها عن النفس أو عن الآخرين الذين تتصل مسؤوليتي بحياتهم العامة والخاصة أو غير ذلك..
* * *
اكتشاف المعجزة
{قَالَ أَلْقِهَا يا مُوسَى} لتكتشف في ذلك شيئاً جديداً لم تكن تتصوره، {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} وكانت هذه أول دلالة لموسى(ع) على أن هناك حدثاً يتجاوز المألوف قد دخل حياته. فكيف حدث كل هذا التطور في لحظات، وكيف تحولت العصا الجامدة اليابسة إلى حياة تتحرك في صورة أفعى؟ وبدأ الخوف الغريزي يدب إلى قلبه من هذه الأفعى التي قد تؤذيه أو تهجم عليه، {قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} فلن تؤذيك، لأن المسألة ليست مسألة حية يراد لها أن تعيش في الأرض كبقية الحيات، ولكن أريد لها أن تؤدي دوراً سريعاً، لتحقق انطباعاً معيناً، ولتواجه تحدياً ضاغطاً، {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأُولى} لترجع، كما كانت، مجرد عصا جامدة تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك وتمارس فيها مآربك الأخرى. وكانت هذه هي العلامة الأولى.
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} أي تحت إبطك، {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} في نقاء البياض وإشراقه، {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي من غير مرض أو عاهة كالبرص ونحوه، {آيَةً أُخْرَى} وهذه هي العلامة الثانية التي تدل على الرسالة التي أوكل الله إلى موسى(ع) التحرك في مواقعها.
{لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرَى} التي ستكون التحدي الكبير لما قد تصادفه من ضغط وإنكار وجحود وتمرُّد..، لتنطلق إلى المهمة الصعبة بقلب قوي ثابت، لا تهزه كل التهاويل المحيطة به، الضاغطة عليه.
تفسير القرآن