تفسير القرآن
طه / من الآية 42 إلى الآية 48

 من الآية 42 الى الآية 48

الآيــات

{اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآياتي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي* اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى* قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى* قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى* فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى* إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (42ـ48).

* * *

معاني المفردات

{وَلاَ تَنِيَا}: ونى في الأمر، يني ونياً: أفتر، وضعف.

{يَفْرُطَ}: الفرط: التقدم. والمراد به هنا أن يعجل علينا بعقوبته.

* * *

دعوة فرعون لعبادة الله

.. وجاء التكليف الإلهي المباشر لموسى وهارون بالتحرك من أجل حمل الرسالة بشكل حاسم إلى فرعون، لدعوته إلى الإيمان بالله والالتزام بأوامره ونواهيه... وكان النداء الأول موجهاً إلى موسى باعتباره النبي الأصيل، بينما كان هارون نبياً في موقع الوزارة له..

{اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي} التي أَنْزَلْتُ عليك قسماً منها وستتلوها الآيات الأخرى، {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْري} أي لا يعتريكما الفتور والوهن في ذكري، في ما يمثله ذكر الله من الدعوة إلى الإيمان في خط الصراط المستقيم الذي يقود عباده المؤمنين إليه، وفي ما يوحيه في وعيهما الفكري والروحي، ليستمدا منه القوة على مواصلة الجهد، وتحمّل الصعوبات، وليراقباه في كل موقف من مواقف المسيرة التي تدفع للقلق وللاهتزاز في مواقع الزلزال النفسي والعملي.

وهذا هو ما يحتاجه كل داعية في مسيرة الدعوة إلى الله، على مستوى الجهاد الفكري، أو على صعيد الجهاد العملي الحركي، وذلك بأن ينفتح على الله في عمق فكره وشعوره، ليبقى مرتبطاً بالهدف الذي يتحرك نحوه وهو رضا الله، لأن الاستغراق في العمل الحركي قد يجعل الإنسان مشدوداً إليه بحيث ينسى الغاية في حركة الوسيلة، وربما انحرف عن بعض خصوصيات المسؤوليات الشرعية في الممارسات العملية في نظرته الذاتية إلى طبيعة العمل والعلاقات، ولكي لا تتحول حركة الدعوة إلى حالة صنمية في الوعي الحزبي أو الطائفي، في الدائرة الفكرية أو الشعورية.

{اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} فادّعى الربوبية لنفسه، واستعبد الناس، ومضى يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويعيث في الأرض فساداً هو وحاشيته المنحرفة الطاغية. ولما كان هذا الطغيان ناشئاً من الجهل بحقائق الأمور في ما ينبغي للإنسان أن يحمله من فكر، أو يعتنقه من عقيدة، ومن الغفلة عن الإيمان بالله الواحد القادر الحكيم الخالق الذي هو مالك السماوات والأرض، ومالك الموت والحياة، الذي يجعل الإنسان مستغرقاً في ذاته، وفي عناصر القوة الذاتية، وفي مظاهر العظمة المادية المحيطة به، فيتعاظم في درجات الغرور، حتى ليخيل إليه أنه في مواقع الآلهة، لا سيما إذا عاش في مجتمع يعيش الانسحاق أمام مظاهر العظمة المادية لدى هؤلاء. ولهذا كان من الضروري للرساليين أن يخططوا في الدعوة، من أجل تغيير المفهوم المنحرف لدى هؤلاء، لتتغير القاعدة الفكرية التي ينطلقون منها في ما يفكرون وفي ما يتحركون. ولا بد في هذا المجال من دراسة أفضل الأساليب الفنية للخصائص الفكرية والروحية من أجل تحقيق الاتصال الهادىء الذي ينفذ إلى القلب بمرونة، بعيداً عن كل عوامل الإثارة القاسية التي تشبه الصدمة القوية المضادة، لأن الأسلوب هو العنصر الحيوي في تحريك الفكر والشعور، نحو الارتباط بالقناعات الرسالية، لأنه هو الذي يهيىء الجو النفسي للانسجام مع الفكرة في خطواتها العملية، ولهذا أكد الله سبحانه لهما أن عليهما أن يختارا الأسلوب اللين في الكلمة والجو، والابتعاد عن طبيعة الإثارة في ذلك {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} لا خشونة فيه ولا عنف، ولا إثارة، {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} عندما يقوده الأسلوب الحكيم إلى التفكير {أَوْ يَخْشَى} عندما تثير فيه الذكرى الخوف أمام قضية المصير في ما ينتظره من عذاب الله.

* * *

أسلوب موسى(ع) في الدعوة إلى الله

وربما يوحي التحدث عن الغاية بكلمة {لَّعَلَّهُ} بالترقُّب لحصول التذكُّر والخشية، انطلاقاً من دراسة طبيعة تأثير الأسلوب في النتيجة، بعيداً عن الجانب الذاتي الخاص في الشخص المدعو، فإن الأساليب الرقيقة الهادئة التي تتعامل مع الأشخاص من موقع الدراسة الواعية لكل العوامل المؤثرة في أفكارهم ومشاعرهم، لا بد أن تؤدي إلى النتائج المرجوة.

وعلى هذا الأساس، فإن المسألة لا تخرج عن طبيعتها، بوجود بعض العوامل المعاندة في حياة هذا الشخص أو ذاك.. لأن المبدأ يبقى قائماً في علاقة النتائج بالمقدمات، بنسبة غالبة.

وقد لا يرد في هذا المجال الاعتراض الذي يقول كيف يقدم الله المسألة بأسلوب الترقُّب الذي يعني إمكانية التذكُّر والخشية من قبل فرعون، مع أن الله يعلم بأن فرعون لا يقبل الانفعال بالكلمات الهادئة الرسالية التي يلقيها موسى وهارون عليه..؟؟

إن المسألة، في ملاحظتنا للموضوع، هي أن الترجِّي كان بلحاظ طبيعة الأسلوب لا بلحاظ خصوصية الشخص والموقع، والله العالم.

{قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى} وكانت قوة فرعون وسطوته وجبروته في وعيهما، حيث عاشاه في الواقع الظالم القاسي الذي كان يمثل الظلم كأبشع ما يكون، والطغيان كأقسى ما يكون. ولذلك فقد كانا يخافان ألا يستمع إليهما ولا يستقبلهما، لأنهما لا يملكان أمامه أيّ موقع اجتماعي متقدم، يسمح لهما بمقابلته والجلوس إليه، فكيف يتمكنان إذاً من مواجهته بالموعظة والنصح والدعوة إلى الإيمان، وما يستلزمانه من التنازل عن امتيازاته؟ لقد كانت التجربة شبه مستحيلة، ولهذا أعلنا خوفهما هذا أمام الله بأن يتقدم إليهما بالعقوبة، ويطردهما ولا يسمح لهما بالحديث وإتمام الدعوة وتقديم الحجة، أو يتجاوز الحد في ظلمه لهما أو لقومهما باللجوء إلى وسائل ضاغطة قاسية.

وربما أثار بعض المفسرين الرأي القائل إن هذه الآية لا تنسجم مع الجو الذي توحي به آية سورة القصص: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص:35] إذ أنها توحي بأن الله قد أعطاهما الأمان في مثل هذا الموقف فكيف يخافان بعد ذلك؟ والجواب أن آية القصص تمثل اختصار الموقف الذي فصلته هذه الآية على الطريقة القرآنية التي تشير إلى جزئيات الموقف في مورد، وتهمله في مورد آخر، وربما كان الأمر بالعكس، بأن كانت هذه الآية تصويراً للحالة النفسية التي يعيشانها في مواجهة الموقف، لتكون الآية الأخرى تقريراً للموقف في طبيعته، فتكون المسألة هنا مسألة اختلاف في الأسلوب. وقد أجاب بعضهم بأن خوفهما في تلك الآية على نفسيهما، وفي هذه الآية على الدعوة، أو على قومهما، وهو غير ظاهر، لأن الظاهر أن الموقف واحد في الآيتين. والله العالم.

* * *

الله يشدد عزم موسى(ع) وهارون

ونلاحظ في هذه الآية نقاط الضعف البشري التي يعيشها النبي والتي تتحرك في شخصيته بشكل طبيعي، حتى في مقام حمل الرسالة، فيتدخل اللطف الإلهي من أجل أن يمنحه القوة الروحية التي تفتح قلبه بعمق على التأييد الإلهي في أوقات الشدة، الأمر الذي يعطي الفكرة بأن النبي يتكامل في وعيه وقوته وحركته في الرسالة. {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى} فإنكما لا تحملان رسالة عادية تبلغانها بالطرق العادية المألوفة لتواجها الموقف بهذه الطريقة، بل إنكما تحملان رسالة الله الذي يملك الأمر كله، ويحيط بالموقف كله، فلا يعجزه شيء، ولا يغيب عنه شيء. فلا تتعاملا مع المسألة من زاوية المعطى المادي فقط، بل انظرا إلى إيمانكما في العمق لتنفتحا على الله سبحانه في حضوره الشامل الذي يوحي بالثقة والاطمئنان إليه، ولا تكترثا للقوة البشرية الطاغية مهما علا شأنها. لا تخافا من فرعون وجبروته لأنكما تؤمنان بالله، وتحملان رسالته، وتعيشان رعايته وعنايته، فأنتما مستندان إلى قوة الله، فلا تخافا إنني معكما، كأقوى ما يكون الحضور، أسمع وأرى، كأفضل ما يكون السماع الذي لا يغيب عنه شيء، وكأوضح ما تكون الرؤية التي لن يحجبها شيء.

{فَائتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} أعلنا صفتكما ليكون لكما قوة التأثير عليه، ليتوازن الموقف في ميزان القوة أمامه. قولا له إنا رسولا ربك، اذكرا له أن له رباً خلقه وأنعم عليه فهو يملك ما لا يملكه غيره، وهو الذي يملك حياته وموته، لأن هذه الكلمة هي التي تخفف من كبريائه، وتسقط سطوته الطاغية عند نفسه، وتوحي إليه بمشاعر الضعف، فهو ليس رباً ولكنه مربوب، وليس سيداً ولكنه عبد..

ثم أعلنا له المطلب الذي يتحدى موقعه، واختصرا المسألة وقدماها بشكل حاسم..

* * *

المواجهة بين موسى(ع) وفرعون

{فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} أطلق سراحهم، أعطهم حريتهم ولا تضطهدهم بألوان العذاب، فلطالما استعبدتهم بدون حق لأنهم أحرار، ولطالما أهدرت إنسانيتهم، وأذللت عزتهم وكرامتهم.. إنها رسالة الله إليك وليست كلمتنا الشخصية، وإذا لم تصدق ذلك فسترى أنا {قَدْ جِئْنَاكَ بآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} تعرفك طبيعة الصدق في كلامنا في ما ندعيه من رسالة الله.

{وَالسّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} إنها دعوة سلام للمهتدين المنسجمين مع دعوة الهدى، على مستوى التحية والعلاقة والانتماء، في لفتة إيحائية لفرعون أنه لا سلام معه إذا بقي على نهجه الاستكباري الكافر المتحرك في طريق الضلال، وأنه إذا أراد أن يمنح نفسه سلاماً فعليه أن يتبع الهدى في خط الرسالة الإلهية، وهذا هو سر القوة في الموقف النبوي من موسى وهارون. ثم يتصاعد الموقف في لهجة تهديدية قوية ضاغطة لا عهد له بها من قبل في ما كان يستمع إليه من حديث الناس معه، {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} إن ربك الذي خلقك والذي يملك حياتك وموتك قد أوحى إلينا أن مسألة التمرد على خط الرسالة ليس مسألة هامشية في حياة الإنسان المتمرد ليأخذ حريته فيها من دون أن يواجه أية نتائج سلبية على مستوى حياته الشخصية في موضوع المصير، بل هي مسألة خطرة يواجه فيها عذاب الآخرة جزاء تكذيبه بالرسالة والرسول بعد قيام الحجة عليه، وعقوبة على إعراضه عن السير في الاتجاه الإيجابي للإيمان، بعد فقدانه للعذر المبرر له. وفي ضوء ذلك، لا بد لك أن تحدد موقفك في الإسلام لله من خلال الرسالة، هل تصدق أو تكذب؟ هل تستجيب أو تعرض؟ لتحدد مصيرك على هذا الأساس..

وقد يتساءل الإنسان القارىء لهذه الآيات هل هذا الكلام هو من القول اللين، أو هو من القول الخشن؟ ويتابع بأن تفسير الآيات بهذه الطريقة التي توحي بالتهديد أو بالقوة لا تتناسب مع الأسلوب الليّن.

ويجاب عن ذلك، أن لين الكلام لا يعني الابتعاد عن الخط الأصيل في الدعوة للفكرة، بل يعني مواجهة الإنسان بالفكرة بالطريقة التي لا تثير حساسيته وعدوانيته، وذلك بالأسلوب الذي جرت عليه هذه الآيات في إثارة المسألة بطريقة اللمحة واللفتة، لا بطريقة المواجهة المباشرة، ما يفسح المجال للمخاطب ألاّ يعتبر نفسه معنياً بالمسألة، لأن القضية كانت مطروحة في نطاق العموميات التي لا تسبب الإحراج المباشر لقائلها وسامعها..

وهذا هو معنى القول اللين، ألاّ تتنازل عن الفكرة بكل عناصرها الحية، ولكن بشرط أن تعالجها بالأسلوب الذي يجعلها تدخل الفكر والروح والشعور من باب واسع.