تفسير القرآن
طه / من الآية 49 إلى الآية 59

 من الآية 49 الى الآية 59

الآيــات

{قَالَ فَمَن ربّكُمَا يا مُوسَى* قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى* قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى* قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّباتٍ شَتَّى* كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لأيَاتٍ لأوْلي النُّهَى* مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى* وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آياتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى* قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يا مُوسَى* فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى* قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (49ـ59).

* * *

معاني المفردات

{أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَه}: أتقن خلق كل شيء.

{لاَّ يَضِلُّ رَبّي}: لا يخطىء ولا يجهل.

{وَسَلَكَ}: سهّل.

{أَزْوَاجاً}: أصناماً متعددة.

{النُّهَى}: جمع نُهية، أي العقل. ويقال لأولي العقول: أولي النُّهى، لأنهم ينهون الناس عن القبائح.

{مَوْعِداً}: اسم زمان، بمعنى: ميعاداً معيناً.

{مَكَاناً سُوًى}: مستوى الأطراف لا انخفاض فيه ولا ارتفاع.

{يَوْمُ الزِّينَةِ}: يوم العيد.

* * *

فرعون يتحدى وموسى (ع) يقبل التحدي

... وكان فرعون يستمع إلى موسى بهدوء غريب، فلم يثر ولم يتشنّج ولم يتعقّد من هذا الكلام.. هذا ما يوحي به الجوّ على الأقل، وربما أثار فيه نوعاً من التساؤل والفضول الباحث عن المعرفة، فاستسلم لهذا الجو الغامض الجديد الذي أخذ عليه كل شعوره، حتى ليخيل إليه أنه يعيش في جو مسحور،{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يا مُوسَى} إنهما يحدثانه عن ربه، كما لو كان معترفاً به، ولكن الرب يحتاج إلى اعترافٍ من المربوب ليستكمل علاقة الربوبية بطريقة طبيعية، لأن الناس قد اعتادوا أن يتخذ كل واحد منهم رباً لنفسه، في ما يتعبّد له، أو يقدم له القرابين، أو يمارس معه الطقوس، انطلاقاً من شعوره بالضعف أمامه، أو بحاجته إلى قوة فوقية يخترعها خياله إذا لم تكن حقيقة، أو بالإيحاء الداخلي بأنه يملك أسراراً غيبية مقدسة بالمستوى الذي يجعله أقرب إلى ربّ الكون من غيره، فيقرب الناس إليه ليكون معبودهم.

وهكذا كان اعتراف موسى وهارون به موجباً لحدوث علاقة الربوبية والمربوبية بينهم. ولكن كيف ينسبانه إليه، وهو لا يعرفه ولا يعترف به؟ فليتجاهل هذه النسبة، وليسألهما عن طبيعته، فلعل المعرفة الحاصلة بالجواب، توحي إليه ببعض الأفكار التي تدفعه إلى موقف إيجابيٍّ أو سلبيٍّ في المسألة.

{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يا مُوسَى} وكان الخطاب لموسى، لأنه هو الشخص الأصيل في الموقف في ما تصوره فرعون من دراسة المسألة، وفي ما هو الواقع. {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} فهو الذي أوجد كل شيء ثم لم يهمله ليتركه ضائعاً، بل منحه الهدى الذي يتدخل في عمق وجوده وتكوينه، فينظم له حركة نموه وتكامله ووصوله إلى الغاية المطلوبة لوجوده. وبهذا كانت ربوبيته للخلق منطلقة من طبيعة الإيجاد الذي يمنح الموجودات الحياة، ومن الإشراف الدائم والرعاية الكاملة لها في رحلة الوجود، ما يوحي بالربوبية الشاملة الكاملة التي لا تغيب عن الوجود في أية لحظة، كما لا يغيب عنها الوجود في أي وقت لاحتياجها الدائم إلى غناها المطلق. وهكذا قد نجد الهدى قائماً في الأشياء بذاتها عبر قوانينها الكونية المودعة فيها، وقد نجده في العقل الكامن في الإنسان الذي يدبر الوجود بشكلٍ مباشرٍ وبوعيٍ اختياري مباشر.

{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى} ربما كان السؤال عن القرون الأولى، في نطاق السؤال عن أمر المعاد، الذي هرب إليه فرعون، بعد أن أعياه مواجهة أمر الربوبية في ما فصّله موسى من الحديث عنها بما لا مجال فيه للرد والاعتراض، فكأنه قال لموسى، ما حال الأمم والأجيال الماضية الذين لا يرون ما ترى، وقد ماتوا وانتهوا في عالم الفناء والنسيان، فكيف يعذبون، كما تقول، إن العذاب على من أدبر وتولى، وكيف يواجهون المسؤولية، فكيف يرجعون من جديد لينالوا ما يستحقون، كما تزعم.

{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} فكان جوابه أنّ علمها عند الله، فهو محيطٌ بأشخاصهم وأعمالهم، فلا يفوته منها شيء، ولا يغيب عنه شيء، فهو مثبت في كتاب محفوظ واسع شامل لدى الله الذي لا يضل عن حقائق الأشياء ولا ينسى ما علمه منها، لأنها حاضرة لديه حضوراً مطلقاً، لا حدود له في كل جوانبها. وهكذا يملك أمرهم وحسابهم من خلال إحاطته المطلقة بكل أمورهم في ما عملوه، فيحاسبهم على ذلك بشكل دقيق.

ولكن هذا الاحتمال لا يظهر من الآية التي يبدو أنها مسوقة للحديث عن الربوبية وذلك من خلال الاستمرار في هذا الشأن في الآيات التالية المتحدثة عن صفات الله في حركة الخلق في الكون، في ما يدل على عظمته وتوحيده، وليس فيها من حديث المعاد قليل أو كثير..

* * *

فرعون يثير الأفكار السلبية في مواجهة موسى(ع)

وهناك احتمال آخر، وهو أن السؤال متّجه للحديث عن تاريخ الأمم الأولى المنقرضة، ليصرف موسى عن التكلم عن أصول المعارف الإلهية وإقامة البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ والمعاد، مما تنكره الوثنية ويشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الأولين وأخبار الماضين، فكان جواب موسى متعلّقاً بإرجاع العلم بها إلى الله، وأنه من الغيب الذي لا يعلمه إلا علاّم الغيوب..

وهناك احتمال آخر يقرب من هذا الاحتمال، ولكنه يتجه اتجاهاً آخر، وهو أن فرعون أراد إثارة موضوع القرون الأولى ليثير الأجواء السلبية حول موسى، لإيجاد جو عاطفي في المجتمع المحيط بموسى يدفع هؤلاء باتجاه الدفاع عن آبائهم الذين يرميهم موسى بالضلال، ويحكم عليهم بالعذاب. فكان إيكال موسى علم هؤلاء في مصيرهم إلى الله الذي يعلم من جزئيات أعمالهم ما لا نعلمه، مما أحاط به ولم نحط، لوناً من ألوان الخروج من أجواء الجدل الضائع الذي لا يؤدي إلى نتيجة ويدخل الحديث في متاهات انفعالية لا مجال للخروج منها إلا بالوقوع في كثير من المشاكل الاجتماعية..

وهذا أسلوب حكيم يحتاج الإنسان الداعية إلى الأخذ به في مواجهة الأشخاص الذين يريدون إيقاعه في أجواء الإثارة الاجتماعية أو السياسية الانفعالية العاطفية التي يتحرك الناس فيها بعيداً عن أية حالة عقلية، ما يخلق الكثير من الإرباك العملي في مجال الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله. فيحاول الداعية الهروب من ذلك بتوجيه المسألة إلى اتجاه لا يثير الكثير من الجدل بإيكال الأمر إلى الله في الأمور التي أحاط بها علمه، والله العالم بحقائق آياته.

* * *

الله يحثّ عقل الإنسان على التفكّر

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً} تستطيعون العيش فيه في ما مهّده لكم من قرار وثبات وراحة، {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} تمكن لكم التنقل في أرجائها، {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً} وهو ماء الأمطار الذي يتحول إلى بحيرات جوفية في أعماق الأرض، فتتفجر منه الينابيع والأنهار، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} في ما أعطى الأرض من خصب وحيوية وقدرة على تحويل التراب إلى عناصر تتكون فيها البذور التي تنمو فيها الخضرة والثمار والفواكه المتنوعة، ففي أشكالها وخصائصها وطعمها وريحها مصدر غذاء للإنسان وللحيوان، لتستمر الحياة التي تحتاج إلى قوته، {كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} لتكون الفائدة مزدوجة في ما تتغذون به، وفي ما تتغذى منه أنعامكم التي جعلها الله لكم غذاء ومركباً، {إِنَّ فِي ذلِكَ لأيَاتٍ لأوْلِى النُّهَى} الذين يملكون العقول الراجحة ويستخدمونها وسيلة للتفكر في القضايا العقيدية المتصلة بخالق الكون والحياة، التي يستدل عليها من دقة النظام، وعظمة الخلق، ووحدة القوانين الكونية.

وهذا هو الخط القرآني في مسألة العقيدة، حيث يؤكد على المسألة العقلية في حياة الإنسان، فهو يحث العقل على التفكير في القضايا المطروحة في دائرة العقيدة، ليكون العقل هو الأساس في تكوين القناعات الدينية، لا الانفعال العاطفي. وبذلك تتلخّص المعادلة القرآنية، في أن الإنسان كلما ازداد عقلاً، كلما انفتح على الإيمان من الباب الواسع، وكلما ضعف إدراكه العقلي، وزاد انفعاله، كلما ابتعد عن الإيمان وعن قضاياه، خلافاً للفكرة الشائعة التي يرددها الماديون، وهي أن المجتمع المتخلِّف هو الذي يلتزم الطريقة الدينية في الفكر والحياة، بينما يلتزم المجتمع المتحضر المثقّف جانب الطريقة المادية. فإن القرآن يؤكد في أسلوب المعرفة على عنصر الوجدان الذي ينفتح على إيحاءات الفطرة في العقيدة، وعلى عنصر العقل الذي يؤكد صفاء الفكر وعمق التأمُّل في التفاصيل، لأن القضية ليست قضية أي فكر ذي طابع ديني، بل هي قضية الفكر الذي يثير الإيمان من خلال العقل في المبدأ والتفاصيل، بالطريقة التي تبتعد عن السطحية والخرافة.

{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} فمن تراب الأرض كانت البداية، {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} وإلى تراب الأرض ستعودون بعد الموت، {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} عندما يأذن الله للحياة ببعثكم من قلب الأجداث. وهكذا ترون أنكم جزء من هذه الأرض التي خلقها الله ونظمها وأدارها، وأودع فيها قوانينه، وأنكم خاضعون لكل قوانين الحياة والموت فيها. كما أنكم تتحركون في ذلك كله، وفي ما بعد ذلك، بإرادة الله، فكيف تجحدونه، وكيف تتمردون عليه، وكيف تواجهون الحياة بعيداً عنه؟

* * *

فرعون يأبى الحقّ

.. وهكذا كان جواب موسى حاسماً في تجسيد عظمة الله في أفكار فرعون وقومه بالتفكير الهادىء، والعرض الموضوعي، والاستعداد للامتداد بالحوار في جو تتحرك فيه المعجزة بطريقة أو بأخرى، ما جعل فرعون يشعر بالرهبة في هذه القوة الجديدة التي تواجهه، {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آياتِنَا كُلَّهَا} في ما قدمه إليه موسى من آيات الله التي تدل على صدقه في نبوته، {فَكَذَّبَ وَأَبَى} كأمثاله من الطغاة الذين يعتبرون امتيازاتهم فوق كل منطق، وفوق كل حقيقة؛ ولهذا فإنهم لا يوافقون على الدخول في حوار حول قناعاتهم وأوضاعهم، لأنهم لا يريدون تغييرها، إذ قد يفقدون معها مكاسبهم الذاتية ومواقعهم الطغيانية. ومن هنا، فإنهم يمتنعون عن القبول بالطروحات الفكرية المضادة، بل يبادرون إلى رفضها من غير تبرير، ويحاولون إثارة الشكوك حولها وحول الدعاة الذين يقدمونها ويدعون إليها. وهكذا فعل فرعون في مواجهته لموسى(ع) في أسلوب من أساليب الإثارة لمن حوله، ليقفوا في وجه موسى بطريقة عدوانية على أساس الدفاع عن وجودهم في أرضهم التي يخيل إليهم أن موسى يريد اقتلاعهم منها، وإبعادهم عنها بسحره.

{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يا مُوسَى} وهذا هو الأسلوب الذي يستهدف إبعاد المسألة عن نطاقها الفكري الإيماني الذي يريد أن يحرك العقول نحو اكتشاف الحقيقة بالدخول في حوار حولها، ليضعها في نطاق السحر الذي كان مألوفاً عندهم في ما كان يستعمله السحرة من ألاعيب وأوضاع يسحرون بها أعين الناس، مما لا يرقى في نفوس الناس إلى مستوى القداسة، بل يعتبرونها جزءاً من امتيازات النظام الذي يعمل على إلحاق السحرة بخدمته، في ما يمنحهم من أموال ومواقع بشرط أن يتحركوا في مواقعه، ويتبنوا مواقفه...

ثم نراه يعمل على أساس إثارة الناس على موسى(ع)، كما يفعل الكثير من الإعلاميين اليوم في مواجهة الدعاة إلى الله، والعاملين في سبيله، لإثارة المجتمع عليهم ببعض الشعارات المضادة التي تثير عدوانية الناس ضدهم بحجة الدفاع عن الأضرار التي تلحق بهم.

{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ} فإن السحر لا يقابله إلا سحر مثله، وستجد هناك من هو الأقوى، {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} في زمان معين، {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} بل نلتزم به، {مَكَاناً سُوًى} أي مكاناً وسطاً في الساحة المشتركة.

{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} وهو من أعيادهم التي كانوا يجتمعون فيها ويتزينون بها، {وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} فيجتمعون هناك في وقت الضحى ليعرفوا كيف يكون التحدي الرسالي المستند إلى قوة الله، في مواجهة التحدي الفرعوني المستند إلى تهاويل الشيطان.