من الآية 60 الى الآية 79
الآيــات
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى* قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى* فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى* قَالُواْ إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى* فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى* قَالُواْ يا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى* قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى* فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى* قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى* وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى* فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى* قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى* قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَـذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيَآ* إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى* إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى* وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَات الْعُلَى* جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى* وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى* فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ* وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} (60ـ79).
* * *
معاني المفردات
{فَجَمَعَ كَيْدَهُ}: المراد بكيده هنا: أصحاب كيده، وهم السحرة.
{فَيُسْحِتَكُم}: يستأصلكم ويهلككم.
{وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى}: تناجوا سراً.
{بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}: الطريقة المثلى: السُّنّة.
{اسْتَعْلَى}: غلب.
{فَأَوْجَس}: أوجس: أحس واستمر، والوجس: الصوت الخفي.
{تَلْقَفْ}: لقف الشيء وتلقفه: أخذه بسرعة.
{لَكَبِيرُكُمُ}: رئيسكم، معلمكم.
{مِّنْ خِلاَفٍ}: أي أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والعكس بالعكس.
{نُّؤْثِرَكَ}: الإيثار: الاختيار.
{تَزَكَّى}: تطهر من دنس الذنوب.
{دَرَكاً}: الدرك: اللحوق.
{فَغَشِيَهُمْ}: غطّاهم، أي أن الماء قد غمرهم.
* * *
السحر يتحدى النبوة.. فيسقط أمامها
وهكذا انصرف فرعون لتهيئة السحرة الذين سيواجهون موسى بالتحدّي، في مشهد عظيم، يشهد الناس فيها هزيمة موسى، فيقضي فرعون على أي أمل لدعوته إلى الإيمان بالله، والكفر بكلّ الآلهة المزيفين من الطغاة الجبابرة أمثاله؛ ويستقيم لفرعون بذلك عرشه وملكه وجبروته من دون خوف من أية حالة اهتزاز من أي فريق كان.
{فَجَمَعَ كَيْدَهُ} بما يتجسّد الكيد من رجال السحر الذين أعدهم للتأثير على المجتمع، في عرض مهيب للقوة التي يملكها أمام شعبه المسحور بسحرة فرعون الأسطوري الذي لا يستطيع أحد حماية نفسه منه إلا بإرادة السحرة المالكين له. وهكذا كان يكيد للناس من خلالهم، فهم أدوات كيده وحيله وخدعه أمام الآخرين من شعبه أو من أقرانه أو أعدائه، وأعدّهم إعداداً هائلاً، ثم حشد الناس لذلك، ثم استكمل كل استعداداته للحدث العظيم، {ثُمَّ أَتَى} وواجه موسى من جديد، فوقف مع السحرة في موقع، ثم وقف موسى في موقع آخر.
وبدأت المواجهة.. وبدأ التحدّي.. ولكن موسى لم يبغ استعراض القوة من وراء هذا التحدي بهدف إيقاع الهزيمة بالسحرة كمنافسين، لحساب الزهو الذاتي بعيداً عن مسألة الرسالة الهادية التي تعمل من أجل التوعية على الإيمان، لا القهر والغلبة. ولذلك وقف وقفة الرسول الذي ينذر هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم أدوات إضلال للناس لخدمة الطاغية الجبار، من دون أن يحسبوا حساب النتائج السلبية المستوجبة عذاب الله في الدنيا والآخرة. ولهذا كانت خطة موسى أن يثير الخوف من عذاب الله في أفكارهم ومشاعرهم، {قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} في ما تعتقدونه من عقائد باطلة، وفي ما تنسبونه إلى مخلوقاته من قوى خفية غامضة، وتتوسلون به من وسائل مزيفة خادعة، وتتمسكون به من شرائع باطلة كاذبة، {فَيُسْحِتَكُم} أي يستأصلكم ويهلككهم، {بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} لأنه لن ينال الفلاح في الدنيا والآخرة.
* * *
التنازع فيما بين أعوان فرعون
{فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} بما أثاره موسى في مشاعرهم وأفكارهم من الخوف والقلق والحيرة، لأنهم شعروا أن هذا الرجل ليس ساحراً، لأن لغة السحرة ليست لغة فكر وهدى وإيمان، بل هي لغة استعراضٍ للقوة، واستهانة بالآخرين، وشعور بالاستعلاء. ولهذا فقد دبَّ فيهم الخوف من صدق هذا الرجل، ومن قوته الروحية الخفية التي لا تتحرك من حالة استعراض ذاتي، وبدأ الخلاف بينهم، ولكن قوماً منهم، أو من خارجهم، حاولوا أن يصرفوا المسألة عن الموقع الحقيقي للنزاع والخلاف، وهو الإيمان بالله وحده، والكفر بكل الآلهة المزيفة المدّعاة، ليثيروا الجانب القومي أو الإقليمي الذي يربط الناس بالفئة الحاكمة من خلال الإيحاء بأنها هي التي تحمي للناس أرضهم ووجودهم فيها، أمام الجهات التي تريد أن تلغي وجودهم في أرضهم وتصادر حريتهم.
وهكذا دبروا الفكرة بطريقة خفية، {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى} وأخفوها وطرحوا الشعار المثير الذي يستهوي القلب، ويلهب المشاعر، {قَالُواْ إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ} لا يملكان أية صفة للرسالة أو للنبوة، ولكنهما يتظاهران بذلك ليسيطرا على الناس بطريقة الإيحاء بقداسة موقعهما ليحققا أهدافهما العدوانية، فإنهما {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} ليكون لهما ولشعبهما السيطرة على الأرض كلها، {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} ويغيِّرا كل أوضاعكم التي درجتم عليها مئات السنين، فأصبحت جزءاً من شخصيتكم القومية وحققت لكم الغلبة على من حولكم، وحصلت لكم بها، الامتيازات في الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فماذا تنتظرون منهما؟ هل تنتظرون منهما أن يحققا ما يريدان فتندموا على ذلك من حيث لا ينفعكم الندم، {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} بما تملكونه من حيلة سحرية، وبكل وسائلكم وإمكاناتكم، {ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً} واحداً لا مجال فيه للاختلاف ولا للتنازع، لتكونوا قوة قاهرة ساحقة في مواجهة هذين، {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} فوقف في موقف التحدي، ونجح فيه، وحصل على الموقف الأعلى في ساحة الصراع. ونجحت الخطة في إبعاد الموقف عن مواقع الفكر والحوار، إلى موقف المجابهة والتحدّي، ولكن إلى حين.
* * *
السحرة يلقون حبالهم وعصيهم
{قَالُواْ يا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} إن الساحة جاهزة للتحدي، فهل تحب أن تكون البادىء بإلقاء عصاك لنرى ماذا تفعل، أو ترغب أن نلقي حبالنا وعصيّنا لترى عظمة السحر الذي نملكه، وقوة الموقع الذي نقف فيه، {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ} لأن الخطة الإلهية هي أن يستنفذوا كل جهدهم لتكون النتيجة لموسى، في التحدي الكبير. فألقوا حبالهم وعصيهم {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} واستعملوا كل فنون السحر التي يتقنونها من أجل الإيحاء بالرهبة التي تزلزل قلب موسى وروحه، وتهزم موقفه. وكانوا يملكون الفن العظيم الذي يسحر العيون ويخلب الألباب حتى كاد موسى أن يتأثّر بها كبشريّ، طاف به خيال الإنسان الذي يتأثر بسرعة بما يحيط به، {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} حين راوده الضعف البشري، خاصة وأن موسى لم يطلع على التدبير الإلهي بكافة تفاصيله وجزئياته فتسرب إلى نفسه الخوف. ولذا فإنه كان ينتظر نداء الله وتعليماته حتى يطمئن قلبه للفوز.
* * *
الله يطمئن نبيه
{قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى} لأن موقفك هو موقف الحق الذي يستمد مصداقيته وقوته من الله سبحانه خالق كل شيء ومصدر القوة لكل قوي، فلا قوة إلاّ منه، وهو الأعلى في كل موقع.
{وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} فتتحول إلى حية عظيمة تأكل كل هذه الحبال والعصيّ التي تشبه الحيات الوهمية والتي لا حقيقة لها، {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} بما تعنيه الحيلة من سرعة الحركة، واللعب على العيون، وتغيير الشكل بطريقة فنية ساحرة، {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} لأن ما يقوم به السحر ليس إلا مجموعة حيل وخدع يسحر بها عيون الناس وعقولهم وهو يعلم ذلك تماماً. وهذا يجعل مواقعه سريعة الاهتزاز والسقوط في ما يمثله الباطل من الاهتزاز على أكثر من صعيد.
وألقى موسى ما في يده فإذا هي حية تسعى تتحرك باتجاه ما صنعوا، فأكلت كل الحبال والعصيّ، فلم يبق منها شيء.. وحدقت عيون السحرة بها، ثم بدأوا يمسحون عيونهم.. هل هناك غشاوة عليها؟ أو أن ما يرونه حقيقة؟ إن هذا ليس سحراً، فهم يعرفون جيداً فنون السحر في ما يعلمونه منه أو يعلّمونه للناس. وبدأوا يستذكرون كلامه عن الله وعن الإيمان به، وعما ينتظره المفترون عليه من العذاب؛ وبدأت عملية المقارنة بين ما سمعوه منه في البداية، وما رأوه الآن، فآمنوا بأن هذا الرجل رسول من الله وليس ساحراً مثلهم، وتعاظم شعورهم بالإيمان، وبالمستقبل وبالمصير، وأعلنوا الموقف بشكل مفاجىء سريع.
* * *
سجود السحرة وإيمانهم
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} أمام هذه الآية الواضحة العظيمة الدالة على أنها من عند الله، لا من البشر، {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسَى} وكفرنا بفرعون وبما يأمرنا به من عبادة غير الله.
وفوجىء الطاغية الجبار، وأسقط في يديه، فقد أراد أن يسخر من موسى بإظهار ضعفه أمام قوة السحرة، ليدفع الناس بعيداً عنه من خلال ذلك. لقد أراد أن يربح الشوط على موسى في ساحة المعركة، فإذا بموسى يربح المعركة كلها عليه، وها هو يفقد قوته أمام الشعب كله، ويخشى أن يفقد موقعه الألوهي أو الملكي على الأقل، فيتحرر العبيد من هذا الشعب، ويتجرّأ السادة الأحرار عليه.
ولهذا أراد أن يقوم بعملية استعراض للسلطة أمام هؤلاء السحرة الذين أعلنوا إيمانهم قبل أن يستأذنوه، فهو كان يعتقد أن كل شيء لا بد أن يمر بساحته وأن يحظى بموافقته، لأنه يملك الفكر والإنسان والحياة، فلا بد أن يمنح الإذن الرسمي للمؤمنين ليكون إيمانهم شرعياً قانونياً، وإلا فَقَد صفته الشرعية، واستحق على ذلك العقاب الأليم!
* * *
السحرة المؤمنون أمام تهديدات فرعون
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} فكيف فعلتم ذلك، إنها الجرأة على الإله السيد العظيم الذي لا يجوز لأحد مهما كانت رتبته أن يقوم بأي عمل، أو يعلن أي موقف يتعلق بنفسه أو بالآخرين، إلا بعد أن يحصل على موافقته، فهو الذي يحدد لهم ما يصلحهم، وما يفسد حياتهم، لأنه الذي يعرف من ذلك ما لا يعرفون من أمور الحياة. ثم حاول أن يغطي فشله وضعفه، ويمنع تأثر الناس بموقف السحرة الإيماني أمام موسى(ع)، فحاول أن يهرب من المسألة بتصويرها بصورة الحالة التآمرية الخفية الحاصلة بين موسى وبين السحرة للقيام بهذه التمثيلية المسرحية، للإيقاع بفرعون، وإضعاف ملكه، وإخراج أهل مصر من مصرهم. و{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} وبذلك كان دوركم دور التلاميذ الذين يخضعون لأستاذهم في ما يأمرهم به وينهاهم عنه، وفي ما يوجههم إليه. وهكذا أوحى أن دورهم كان امتداداً لدوره.
وبذلك حاول أن يستوعب مشاعر الجماهير لمصلحته، تماماً كالكثيرين من الطغاة الذين يحاولون أن يدرسوا مع الأجهزة الإعلامية الفنية ما هي أفضل الواجهات التي يثيرونها أمام الفئات المعارضة التي تهدد سياستهم وحكمهم، ليلصقوا بهم مختلف التهم التي تحاصرهم في الساحة الجماهيرية لتخفف من تأثيرهم على الآخرين. وبذلك ينجحون في عزلهم عن الأمة مستغلين عجزها عن فهم ألاعيبهم وأسرارهم، وهذا ما يجعلنا نستوحي من هذا الأسلوب الفرعوني كيف نواجه أسلوب الكثيرين من الفراعين المعاصرين والمستقبلين في ما يضللون به شعوبهم تجاه التحديات التي توجه إليهم من المصلحين الرساليين.
ثم بدأت عملية التهديد بالعقاب، في محاولة فرعونية لدفعهم إلى التراجع عن موقفهم، والابتعاد عن موسى، ليضمن بذلك الحصول على بعض ما فقده من القوة المعنوية أمام الجماهير.
{فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} أنا أو موسى، لتعرفوا من هو الأقوى، ومن هو الأبقى. وستندمون، لأن موسى(ع) لا يملك أي شيء من سلطة الدنيا وسطوتها، فلن تحصلوا منه على شيء، بينما أملك كل شيء من حولي وكل مواقع القوة والنفوذ، فأعطي من أشاء وأمنع من أشاء، وأقتل من أريد، وأعفو عمن أريد..
ولكن القوم قد دخلوا في عالم آخر..، فقد التقوا بالله في روحية الإيمان به، وقد انفتحوا من خلاله على عالم القدس والطهارة، وعاشوا مع عالم الغيب المطلق الذي لا تحده أية حدود. ولم تعد الدنيا تمثل لهم أي شيء في غناها وفقرها، ورفعتها وضعتها، وقوتها وضعفها، بل أصبحت الآخرة أكبر همهم وأفضل طموحاتهم، ولذلك كانت مواجهتهم له من موقع القوة الكبيرة المتحدية في روحيتهم الهادئة الصافية المطمئنة.
* * *
السحرة يواجهون فرعون بقوة الإيمان
{قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} الواضحة التي تؤكد لنا الحقيقة من دون شك أو شبهة، فكيف نتنكر لها، ونتركها من دون أساس؟ وماذا تمثل أنت لنا أمام حقيقة الإيمان؟ وماذا تمثل طريقتك في الحياة؟ ما هي قيمك؟ وما هي شريعتك؟ وما هي مفاهيمك؟ هل تثبت بالمقارنة أمام قيم الإيمان وشرائعه ومفاهيمه؟ إن الحقيقة تفرض نفسها علينا، وهي أن شريعة الله هي الشريعة الحقّة، وأن شريعة البشر هي شريعة الباطل، ولن نؤثر الباطل على الحق مهما كانت الإغراءات، ومهما كانت التهديدات، ولن نؤثرك على الله رَّبنا {وَالَّذِي فَطَرَنَا} وخلقنا وأوجدنا، وما زال يرعى حياتنا بنعمه ولطفه ورحمته..، فمن أنت أمام الله؟ وما حجمك وما قيمتك؟ وما هي قوتك؟ وما دورك بالنسبة إلينا وإلى بقية الناس، ليكون لك علينا وعلى الناس حق الطاعة؟ من أنت؟ إنك مجرد مخلوق ضعيف لا تملك لنفسك نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا موتاً إلا بالله. وما قدرتك؟ ومن أين لك كل هذه الإمكانات والوسائل؟ إنها من الله. فقد أعطاك إياها لحكمة، وسيسلبك إياها في أي وقت. فماذا تريد وماذا تستطيع أن تفعل؟ إنك قد تملك السيطرة الغاشمة على أجسادنا، ولكنك لن تملك السلطة على أفكارنا وأرواحنا ومشاعرنا التي ترفضك وترفض كل طريقتك وكل الواقع المنحرف الكافر الذي تتحرك فيه وتتحكم به، {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَـذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيَآ} هل تريد أن تقتلنا، هل عندك أكثر من التمثيل والصلب والقتل؟ إننا لن نخسر الكثير، إنها حياتنا الدنيا نفقدها، ونفقد شهواتها ومنافعها وملذاتها، ونخسرها، ولكنها لن تكون الخسارة الكبيرة، فهناك الدار الآخرة التي تنتظر المؤمنين، لهم فيها رحمة الله في ما أعد لهم من نعيم الجنة وسعادة الرضوان.
{إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطايانَا} التي أسلفناها في ماضي حياتنا في ممارستنا الذاتية تجاه أنفسنا، وفي معاونتنا لك في تضليل الناس وحرفهم عن صراط الحق، وها نحن نتوب إليه من موقع الإيمان به والالتزام بخطه المستقيم في الحياة، ليغفر لنا ذلك كله، {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} الذي كان أداة من أدوات الخداع والحيلة والضلال، واستعراض القوة لمصلحتك. ولكننا كنا مستكرهين في ما فرضته علينا من سلطة، وأغرقتنا فيه من ضلال، وحددته لنا من دور، وهددتنا به من قوة غاشمة، وأغريتنا به من مال وجاه وسلطة... وها نحن نضرع إلى الله أن يغفر لنا واقعنا المنحرف كله، وستزول أنت، وسيزول ملكك إن عاجلاً أو آجلاً. وسيزول كل هؤلاء الذين من حولك، ممن يزينون لك الباطل ويشوهون لك الحق، ويساعدونك في ظلم الناس، ويمنعونك عن العدل، ويبقى الله..، ويبقى ملكه..، {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} للإنسان في الدنيا والآخرة، لأنه الرب العظيم الذي يرحم خلقه ويرعاهم، ويهيىء لهم سعادة الدنيا والآخرة إذا أطاعوه وعملوا بما يحب.
{إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} عاصياً منحرفاً من دون أن يتوب إلى الله من ذنوبه، أو يصحح طريقه، {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى} لأنه لن يذوق فيها لذة الحياة، ولن يستريح فيها في هدأة الموت وراحته، بل يظل في عذاب متحرك بين الموت والحياة، جزاء على تمرده على الله وانحرافه عنه من دون حجة ولا هدى.
{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ} فكان إيمانه متحركاً في مواقع الفكر والروح والشعور، ومتجسداً في حركة الواقع العملي في حياته وحياة الناس من حوله، بما يصلح أمره وأمرهم، ويرفع مستوى حياته وحياتهم، طاعة لله، وطلباً لرضاه، {فَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} التي أعدّها الله لعباده المؤمنين الصالحين، تبعاً لدرجاتهم في الايمان والتقوى والالتزام، فكل درجة في الآخرة تقابل درجة في الإيمان في الدنيا، {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى} وطهر فكره وروحه من كل أرجاس الباطل والشهوات والمطامع والضلال وذلك هو الفوز العظيم.
وهكذا استطاع هؤلاء أن يقفوا الموقف الذي يؤكدون من خلاله إيمانهم وتمردهم على كل التهديدات القاسية التي وجهها إليهم فرعون، لأنهم ارتفعوا بإيمانهم بالله، وانفتاحهم على عالم الغيب، عن كل مواقع الخوف ونقاط الضعف، وانطلقوا مع قوة الله التي لا قوة فوقها أو معها.. إلا من خلالها..
* * *
دروس للمجاهدين
وهذا هو الدرس العظيم الذي يقدمه القرآن للمجاهدين الذين قد يقفون مثل هذا الموقف أمام طغاة زمانهم، فيواجهون التهديد بالسجن والقتل والصلب، ليتنازلوا عن مواقفهم، وليتركوا مواقعهم، وليسقطوا أمام التجربة الصعبة، فيتعلمون من هؤلاء السحرة الذين رفضوا كل الامتيازات التي كانوا يملكونها في حكم فرعون من مال وسطوة وجاه، لأنهم اختاروا الإيمان على الكفر، والهدى على الضلال، والتزموا بالله وتركوا فرعون، فلم تعد الدنيا تمثل لهم أي شيء، أمام الآخرة التي تمثل لهم كل شيء.
* * *
انتصار موسى(ع) وهلاك فرعون
استطاع موسى أن يؤكد مواقع القوة في حركة رسالته، بحيث ترك تأثيره على قومه، فعاشوا لأول مرة إرادة الحرية ونعمتها بعد أن كانوا يخافون من مجرد التفكير فيها ولو في سرهم. وبدأت عملية المواجهة على الأرض بين موسى وفرعون.
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادي} إلى أرض الحرية الجديدة بعيداً عن سطوة فرعون، فإذا لم تستطع أن تحصل على الإذن منه بأن يرسل معك بني إسرائيل، فتقدم لتتسلم زمام المبادرة من دون حاجة إلى إذنه، لأنك لم تعد بحاجة إليه بعد أن أصبحت في موقف القوة، وأصبح هو في موقف الضعف. وستجد أمامك معجزة جديدة، فستدخل البحر من دون أن يكون هناك جسر تقطعه، ولا سفينة تُقِلُّكَ وقومك، وسيحوّل الله البحر إلى أرض يابسة حتى تنتهي إلى الشاطىء الآخر، فَسْرِ بقومك، {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً} فإذا ضربت البحر بعصاك فسينشق الماء أمامك، وتبدو الأرض بشكل مفاجىء معجز، {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى} لأنك تسير بأمان الله، فلا تخاف نقصاً ولا تخشى ملاحقة ومضايقة من فرعون وقومه.
وسار موسى بقومه، وانفتح لهم الطريق في البحر، {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} وقد هالهم ما استطاع موسى أن يبلغه بتنفيذ خطته من دون رضاهم، وساروا خلفهم، وقد رأوا البحر مفتوحاً أمامهم، حتى اذا استكملوا عددهم ولم يبق منهم أحد في الشاطىء، جاءهم الموج من كل مكان، {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} من الماء، وماتوا جميعاً غرقاً، ولم يستفد أحد منهم في ما عاشه من كفر وطغيان، {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} وضيّع عليهم الدنيا والآخرة، {وَمَا هَدَى} لأنه استغلّ حياتهم لذاته، فلم يهدهم سواء السبيل.
تفسير القرآن