تفسير القرآن
طه / من الآية 99 إلى الآية 114

سورة طه

 

من الآية 99 إلى الآية 114

 

الآيات

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا* مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا* خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا* يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا* يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا* نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا* وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا* فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا* لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا* يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا* يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا* يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا* وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا* وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا* وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا* فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 99-114].

 

معاني المفردات

 

{الصور}: نفخ في الصور: كناية عن الإحضار والدعوة.

{زرقاً}: جمع أزرق، والمراد بكونهم زرقاً: كونهم عمياً.

{يتخافتون}: يتحدّثون بصوت خفيّ، يتهامسون.

{قاعاً}: القاع: الأرض الملساء.

{صفصفاً}: الصفصف: المستوي من الأرض.

{عوجاً}: العوج: الانخفاض.

{أمتاً}: الأمت: الارتفاع اليسير.

{وعَنَتِ الوجوه}: خضعت وذلّت.

{هضماً}: الهضم: البخس والنقص.

{وصرّفنا}: كررنا وفصلنا، والتصريف: التحويل من حال إلى حال.

من شاهد القيامة من القرآن

وتلك هي القصّة في مضمونها الذي يشير إلى الإنسان في التزامه العملي برسالات الله، وتحويل الحياة في مجالاتها الفرديّة والاجتماعيّة إلى ساحةٍ من ساحات طاعة الله. وذلك هو الذي يلحّ على القلب الإنسانيّ أن يخشى، وعلى العقل البشريّ أن يتذكّر، لأنّ الغفلة تعطّل دور الإنسان وتمنعه من ان يعيش مسؤوليته بقوّة وإخلاص.

{كذلك نقصّ عليك من أنباء ما قد سبق} من الرسل في التاريخ ممن كان لهم الدور الكبير في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، لتعتبر، ويعتبر الذين اتبعوك، في ما يمكن أن تأخذه من درس في تجربة الدعوة والحركة، وفي ما يمكن أن تحصل عليه من خشية الله. {وقد أتيناك من لدنّا ذكراً} بما أوحينا إليك من القرآن الذي تتنوّع فيه الأفكار والمفاهيم والقصص والمواعظ، من أجل أن تتعرّف من خلاله على حقائق الأمور وتفاصيل القضايا التي تتّصل بمسؤوليتك أمام الله في الدنيا والآخرة، ف {من أعرض عنه  فإنّه يحمل يوم القيامة وزراً} بما يمثّله الإثم من الثقل العظيم الذي ينوء بحمله الظهر في ما يكلفه من جهد كبير على مستوى النتائج السلبيّة للمسؤوليّة، لأنّ الإنسان الذي يعرض عنه، هو الإنسان الذي يبتعد عن الخطّ المستقيم بعد قيام الحجّة عليه من الله في ما أنزله من آيات، وقدّمه من البيّنات، فلم يكن له عذر في الانحراف هن الخط من شبهة أو ريب، بل لله الحجّة عليه في كلّ ذلك. {خالدين فيه} أي في الجزاء الذي يترتّب على الإثم، {وساء لهم يوم القيامة حملاً} لأنّه الحمل الذي يشقى به صاحبه، ينتهي به إلى النار وبئس القرار.

{يوم ينفخ في الصور} فيحضر الناس جميعاً إلى ربهم خارجين من الأجداث، ويقفون أمام الله، {ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقاً} وهي كناية عن العمى، لأنّ العين إذا ذهب نورها ازرق ناظرها، ويمكن أن يؤيّد ذلك بقوله تعالى: {ونحشرُهُم يومَ القيامةِ على وجوههم عُمياً} [الإسراء:97]. و {يتخافتون بينهم إن لبثتم إلاّ عشراً} عندما يدور الحديث بينهم بشكل خافتٍ لهول الموقف الذي يمنعهم من الجهر، فيقدر البعض منهم المدّة التي قضوها في الدنيا بعشرة أيّام، استقلالاً لها أمام موقف الخلود، أو لعدم شعورهم بها بشكل واقعي، {نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلاّ يوماً} لأنّه لا خصوصيّة للعشرة ليؤكدوا في تقديرهم للزمن، بل المسألة هي مسألة التعبير عن النسبة بين المدّة الأرضيّة المحدودة، أمام المدّة الأخرويّة الأبدية الخالدة، مما يفرض الحديث عنه بأقّل وحدة زمنيّة وهي اليوم، ما دامت المسألة نسبيّة على كلّ حال.

{ويسألونك عن الجبال} فيما كان يدور في أذهانهم من الفضول عند الحديث عن يوم القيامة، وعن نهاية الدنيا، فيتساءلون، ماذا يحدث لهذه الموجودات الحجريّة أو الصخريّة الضخمة. {فقل ينسفها ربّي نسفاً} فلا يبقى منها شيء ثابت على الأرض، فيذرها ويحوّلها إلى تراب يثيره الريح، {فيذرها قاعاً صفصفاً} أرضاً ملساء مستوية لا شيء عليها، {لا ترى فيها عوجاً} أي انخفاضاً في ما تتمثّل به الوديان السحيقة، {ولا أمتاً} أي مرتفعاً، بل تتساوى من جميع جوانبها بحيث تنبسط أمام الرؤية بوضوح من دون حواجز على مستوى المنخفضات والمرتفعات.

{يومئذٍ يتّبعون الداعي} الذي يدعوهم إليه ليواجهوا الموقف بين يدي الله، {لا عوج له} أي من دون توقّف أن تأخّر أو امتناع، لأنّهم لا يملكون قدرة التمرّد على الدعوة، فينساقون إليه تلقائيّاً. وربما احتمل أن يكون الضمير في قوله: {لا عوج له} راجعاً إلى الداعي، فيكون المعنى أنّه لا يهمل أحداً بسهو أو نسيان أو مساهلة. ولعلّ المعنى الأول أقرب ـ كما جاء في تفسير الميزان ـ بقرينة الفقرة التالية: {وخشعت الأصوات للرحمن} فلا يملك أحد لنفسه شيئاً للاعتراض أو للتوقّف ليرفع صوته أمامه، بل هو يستسلم لدعوة الموجهة إليه، {فلا تسمع إلاّ همساً} من خلال الرهبة المهيمنة على الموقف كلّه والذلّة الساحقة التي لا يحسّ أحد منهم بوجوده الذاتي فيها أمام الله.

{يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلاّ من أذن له الرحمن ورضي له قولاً} لأنّه المهيمن على الجميع، فلا يملك أحد منه شيئاً، فله الحكم الفصل والقضاء العدل الذي يحاصر الجميع في دائرة مسؤوليّاتهم، فيحيط بكلّ ما فعلوه، ويُجازي كلّ واحد منهم بعمله، ولا يقبل من أحد رجاءً ولا شفاعةً في حقّ نفسه أو في حقّ غيره، لأنّ أيّ واحد منهم لا يملك حقاً ذاتياً في ذلك كلّه {إلاّ من أذن له الرحمن} في الشفاعة فأراد الله أن يكرمه بها ليجعل له الكرامة باستنقاذ من يريد الله أن ينقذه من النار، ويرحمه برحمته، وذلك هو الذي رضي الله قوله في ما يعبّر عنه القول من العقيدة الصافية الحقّة، والروح الراضية المرضية، والعمل الخالص الذي يتحرّك في رضا الله من خلال وعي الإيمان، وطهر الإخلاص.

 

تقرير مبدأ الشفاعة

 

وفي ضوء هذه الآية نستفيد مبدأ الشفاعة التي تأكَّد وجودها لدى بعض الأشخاص المقرّبين إلى الله، ولكن من خلال إعطاء الله له ذلك فيكون القصد والتوجّه لله في المسألة لا للشخص، لأنّه لا يملك من أمر الشفاعة شيئاً في نفسه. وذلك هو الحدّ الفاصل بين الاستغراق في الشخص من خلال الاستغراق في ذاته، وبين الاستغراق في الله على أساس الكرامة التي يمنحها لبعض عباده في شفاعتهم للآخرين استجابةً لإرادة الله في ذلك، وهذا ما يعطي العقيدة صفاءها لا يطلب أحد من مخلوق شيئاً، بل يكون الطلب كلّه لله، والقصد إليه في كلّ شيء حتّى في الشفاعة التي لا يملكها أحد إلاّ بإذنه.

 

جزاء الله لعباده

 

{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً} لأنّه هو الخالق لهم والمحيط بهم في ما يخفون من أمرهم مما يسرّونه، أو في ما يظهرون منه مما يعلنونه، فهم مكشوفون أمامه بكلّ دقائق وجودهم، ولكنهم لا يحيطون به علماً، لأنّهم محدودون في عمرهم وفي تجربتهم وفي آفاق إدراكهم، فلا يعلمون إلاّ بما أراد لهم أن يعلموه، ولا يحيطون إلاّ بما أراد لهم أن يحيطوا به من شؤون السماء والأرض. وذلك كلّه كناية عن الإحاطة الكاملة التي توحي إليهم بأن يخلصوا له القول فلا يقولون ما لا يعتقدون، ويخلصوا له العمل فلا يضمرون غير ما يضمرون غير ما يظهرون في دوافعه ومقاصده.

{وعنت الوجوه للحيّ القيّوم}.. في خشوع الموقف، وانسحاق الذات، وانحناء الإرادة التي تتطلّع برهبة وخضوع ومحبّة. إنّها الوجوه التي تعبّر ملامحها عن عمق النفوس الكامنة خلفها، اللاهثة أبداً من أجل الفوز برضا الله، المتسامية نحو الدرجات العليا من فيوضات الله الحيّ الذي يمنح الأجساد الفانية نبضاً من حياة، وهو القادر على أن يمنع عنها الحياة، الحيّ المطلق الذي لا حدّ لحياته، لأنّها ينبوع ذاته المقدّسة التي نفيض عنها كلّ حياة، القيّوم المهيمن على كلّ شيء، القائم على كلّ أمر، المشرف على الكون والحياة والإنسان.

{وقد خاب من حمل ظلماً} لنفسه بالكفر والمعصية، ولغيره بالقهر والغلبة والعدوان.. فهو الذي لا يلتقي بالفوز في النعيم الإلهي، لأنّ الله هو العدل الذي يحبّ العادلين الذي يحملون العدل عنواناً لفكرهم وحركة لحياتهم، ومنطلقاً لأهدافهم، ويكره الظالمين الذين يملأون الحياة ظلماً، في الفكر والحركة والإنسان. فلن يفلح الظالمون في ساحة الله يوم لا ساحة إلاّ ساحته.

{ومن يعمل من الطالحات وهو مؤمن} بأن يرتكز الإيمان في خطّه العمليّ على قاعدة فكريّة في حركته الفكريّة والروحيّة، فيتزاوج العمل والإيمان في شخصيّة الإنسان ليتحوّلا إلى حركة المسؤوليّة وفاعليتها في الحياة، إن هذا النموذج الآمن المنفتح في الدار الآخرة، {فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} لأنّ الدار الآخرة هي دار العدل كما جاء في آية أخرى: {اليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت لا ظلم اليوم} [غافر:17]، ولأنّ الله لا ينقص حقّ أحد في ما يستحقّه من الحسنات، فهو القائل: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى} [آل عمران:195] {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} [الزلزلة:7]. وهكذا يواجه كلّ واحد مسؤوليته في الدائرة الإيجابيّة، وفي الدائرة السلبيّة على مستوى الثواب والعقاب.

 

القرآن.. العربيّ

 

{وكذلك أنزلناه قرءاناً عربيّاً} ليفهمه الذين انطلق القرآن من قاعدتهم، فكانوا الأمة التي استقبلت الإسلام بوعيها وروحها ووجدانها، وحملته في أفكارها عقيدة ورسالة، ومنهج حياة، وشريعة حركة، ومصير إنسان، ليتحرّك ـ من خلالها ـ إلى الأمم الأخرى في حركة الدعوة وفي خطّ الجهاد، {وصرفنا فيه من الوعيد} فيما اشتمل عليه من تنويع الأسلوب، وانتقاله من حال إلى حال من أجل أن ينفتح الناس على الخوف القادم من آفاق المستقبل الذي يحرّك في النفس بعضاً من قلق، ولوناً من ارتباك، ولكن، لا لينسحق الإنسان في إرادته التي يسقطها الخوف، بل ليرتفع في التزامه ودرجة انضباطه في حساب المصير المستقبليّ من خلال تطلعات الخوف في ساحات الواقع، ليتحرّك فيه حسّ المسؤوليّة في ما يريد أن يفعل أو يترك، ليؤكّد الخطّة في حياته من موقع دراسة واعية للمستقبل في خط الأمان، {لعلّهم يتقون} فينضبطون أمام أوامر الله ونواهيه، {أو يحدث لهم ذكراً} فيتذكّرون الحقائق الكامنة في فطرتهم التي حجبها الضباب القادم من قلب الشهوات والمطامع والأحقاد، وينطلقون من خلال ذلك، للسير مع الله في خطّ مستقيم جديد.

{فتعالى الله الملك الحقّ} الذي يملك الكون كلّه والإنسان كلّه، فلا يقترب من ساحة قدسه أحد، ولا يبلغ عمق حكمته مخلوق، ولا ينتقص من قوّته وقدرته شيء، فهو الذي يُحَبّ ويُخاف ويُرجى، وهو الذي يَستحقّ العبدة والطاعة من كلّ مخلوقاته.

{ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} أو يستكمل من الرسول الذي يأتيك به، فإذا كنت تخاف أن يفوتك منه شيء، فإنّ الله الذي تكفل بإنزاله بطريقة غير عاديّة، قادر على أن يحفظه لك بالطريقة نفسها.

{وقل ربي زدني علماً} في ما تنزل عليَّ من وحي، وفي ما تفجّره من ينابيع الحكمة في قلبي ووجداني، وتحرّكني فيه من دروس التجربة، وتفتحه لي من آفاق المعرفة.. فذلك هو الهدف الذي ينطلق الإنسان إليه في طبيعة التكامل الفكريّ والروحيّ والعمليّ، في ما يريد أن يحقّقه من بناء شخصيّته على أساس العلم الذي كلما نما في وجدانه، كلّما كان مصدر قوّة جديدة للحياة في ذاته.

وهذا هو شعار الإسلام في حركة المعرفة لدى المسلمين الذين أوكل الله إليهم أمر إدارة الأرض، باعتبارهم النموذج المميّز للإنسان، ودعاهم إلى أن يعرفوا علم ذلك كلّه، ليعرفوا كيف يجعلون من وجودهم عليها مصدر قوّة، وعامل نموّ، وحركة حياة، وأعطاهم مقاييس القيمة من خلال المعرفة في قوله تعالى: {وقيل الحمد لله ربّ العالمين} [الزمر:9].

**********