من الآية 115 الى الآية 126
الآيــات
{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً* وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى* فَقُلْنَا يا آدَمُ إِنَّ هَـذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى* إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى* وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأ فِيهَا وَلاَ تَضحى* فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى* فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى* قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (115ـ126).
* * *
معاني المفردات
{عَزْماً}: العزم: القصد الجازم إلى الشيء.
{وَلاَ تَضْحَى}: لا تبرز للشمس.
{لاَّ يَبْلَى}: لا يفنى.
{يَخْصِفَانِ}: جعلا يلصقان ورقة على ورقة.
{فَغَوَى}: الغيّ: خلاف الرشد.
{ضَنكاً}: الضنك: الضيق.
* * *
عهد الله إلى آدم(ع)
ويعود القرآن إلى حديث الإنسان الأوّل ـ آدم ـ مراراً، للإيحاء بالضعف الإنساني الذي يعرّضه للسقوط أمام تجربة الإغراء، حتى يخيّل إليه أنه يمثل الفرصة السانحة السريعة التي إذا لم يستفد منها وينتهزها فإنه يتعرّض للحرمان الأبدي. ولذلك فإنه يبادر إلى انتهازها مدفوعاً بهذا التصور الوهمي، ثم يكتشف ـ بعد الوقوع في المشكلة ـ بأن المسألة ليست بهذه السهولة، وأن النتائج الإيجابية الموعودة ليست بهذا الحجم، فقد كان بإمكانه أن يصبر ويحصل على نتائج جيّدة أفضل، وأكثر دواماً وثباتاً. ثم يطل القرآن دائماً على إبليس باعتباره المظهر الحيّ للانحراف في ما يزينه للإنسان ويوسوس له، ويثير فيه المشاعر الشهوانية التي تنحرف به عن الصراط المستقيم، ليستذكر الإنسان دائماً بأن الشيطان أخرج أباه من الجنة. وقد كان من الممكن، بحسب طبيعة الأشياء، أن يستمر فيها مع أولاده، لولا ثأر الشيطان لطبيعته أمام النشأة الإنسانية الأولى.
ومن الطبيعي أن مثل هذا الجو القصصي الإيحائي لا بد أن يتحرك في رسم الخطوط العامة لموازين الثواب والعقاب.
* * *
دروس من قصة آدم (ع)
{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ} وأوصيناه وحذّرناه مما قد يواجهه من تجربة الانحراف جرّاء تسويلات إبليس الذي يحمل له أكثر من عقدةٍ منذ أن عصى إبليس أمر الله بالسجود لآدم، في الوقت الذي لم يحمل له آدم أيّ شعور مضادّ، ولكن آدم لم يتعمّق في وعي الموضوع، ولم يأخذ الأمر مأخذ الجدية والاهتمام، وبقي مستمراً ببراءته العفويّة والبساطة الصافية في مواجهته للأشياء، {فَنَسِىَ} ما ذكرناه به، فترك الامتثال للنصيحة الإلهية التي لم تكن أمراً تشريعياً يستتبع عقاباً جزائياً، بل كان أمراً إرشادياً يتحرك من المنطق الطبيعي للأمور في ما ترتبط به النتائج بمقدماتها، {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} بما يعنيه العزم، من التصميم على التنفيذ، وتحريك الإرادة في حسم الموقف بقوّة، لأنه كان يعيش الضعف البشري أمام الحرمان، والتجربة الضيّقة أمام الآفاق الرحبة للمستقبل القريب أو البعيد.
ولسنا الآن في مجال الحديث عن حكاية عصمة آدم ليتحدث المتحدثون أن هذا الموقف كان قبل النبوّة، فلا يثير مشكلةً في هذا الجانب، أو ليقول البعض بأن الأمر ليس مولوياً لتكون مخالفته عصياناً تكليفياً، بل هو أمر إرشادي يشبه النصيحة، فلا يترك أي أثر سلبي على مستوى الالتزام بالشريعة، بل نحن هنا في مجال التأكيد على أن الأسلوب القرآني لا يريد أن يعمِّق في ذهننا الإسلامي الفكرة التي تتحدث عن شخصية الأنبياء بالمستوى الذي يوحي بأن هناك أسراراً فوق العادة تكمن في داخل شخصيتهم، في ما هي الخصائص الذاتية للشخصية. فهناك أكثر من نقطة ضعف خاضعة للتكوين الإنساني في طبيعة الروح والجسد، ويمكن أن تتحرك لتصنع أكثر من وضعٍ سلبيٍّ على مستوى التصوُّر والممارسة.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْملائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى} ما يوحي لآدم بأن هذا المخلوق يعيش الذهنية السلبية ضدّه، {فَقُلْنَا يا آدَمُ إِنَّ هَـذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجكَ} وسيبذل كل جهده ليكيد لكما بألف طريقةٍ وطريقة، ثأراً لأنانيته وعصبيته وعنصريته، فانتبه إليه جيداً وتعامل معه كما يتعامل العدوّ مع عدوّه، فيحذر من كل كلماته وخططه، ولا يستسلم له انطلاقاً من طيبة قلب أو صفاء روح، {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} لأنه سيحاول أن يبعدك عن رحمة الله كما ابتعد عن ذلك بعصبيته العنصرية، وإذا لم تنتبه إليه فسيجلب لك الشقاء في مستقبلك القريب والبعيد. ولمّا كان العهد متوجهاً إلى آدم أفرد الخطاب بالشقاء، {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى* وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى} فستعيش فيها شبعان كاسياً، بعيداً عن حرارة الشمس، والمراد بعدم الضحو أن ليس هناك أثر من حرارة الشمس حتى تمس الحاجة إلى الاكتنان في مسكن يقي من الحر والبرد.
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} التي إذا أكلت منها أعطتك خلود الحياة التي لا فناء فيها، {وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى } في ما يشتمل عليه من سلطنةٍ دائمة مطلقة لا تسقط أمام عوامل الاهتزاز والسقوط.
وهكذا حاول الالتفاف على أحلامهما الإنسانية في الخلود والملك الباقي من دون أن يثير فيهما عقدة الخوف من المعصية لله، ولهذا كان أسلوبه هو أسلوب التحذير الذاتي، والغفلة الروحية عن النتائج السلبية التي تنتظرهما إذا استسلما إليه.
وهذا ما يجب أن ينتبه إليه الإنسان في مواقفه العملية، في ما قد يوسوس إليه الشيطان من التأكيد على حركة الحلم الوردي في مشاعره بطريقة غير واقعية، مستغلاً حالة الاسترخاء الروحي والغفلة الفكرية التي يخضع لها في وجدانه، ما يجعله مشدوداً إلى الجانب الخيالي من أفكاره من دون مناقشة لها في قليل أو كثير، فينحرف من موقع الغفلة لا من موقع الوعي، ومن أجواء الحلم لا من أجواء الواقع، كما حدث تماماً لآدم وحواء عندما كانا ينعمان بسعادة الجنة ونعيمها في ظلال عفو الله ورحمته ورضوانه، يتبوّآن من الجنة حيث يشاءان، فليس لديهما مشكلة هناك، إلى أن جاء إبليس الذي لم يكن منه إلا أن وسوس إليهما مستغلاً جانب الغفلة، فعزلهما عن الواقع، ودفعهما إلى التفكير بالخلود والملك الباقي، فدفعهما للأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها. ولو فكرا جيداً لعرفا أن الخلود والملك ليسا من الأشياء التي تحصل بفعل الأكل من شجرة، بل هما نتيجة الإرادة الإلهية التي تملك أمر الموت والحياة، والملك الباقي أو الفاني، ولكنهما استسلما للجو الخيالي المشبع بالأحاسيس الذاتية الحالمة.
إن الموقف المتوازن هو الموقف الذي ينطلق من القرار المبني على الدراسة الموضوعية للأشياء، وعلى النظرة الواقعية لموقعها من المستقبل، ما يفرض على الإنسان أن يتخفف كثيراً من أحلامه، لمصلحة الكثير من أفكاره ومواقفه الثابتة في الحياة.
{فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} في ما يعنيه ذلك من الإحساس بالعري الذي يعيشان معه الشعور بالعار والخزي في الوقت الذي كانا يتحركان ببساطة من دون مراعاة لوجود شيء في جسديهما يوحي بالستر، لأن مسألة الخطيئة في أفكارهما وأحلامهما لم تكن واردة في منطقة الشعور لديهما، ولهذا كانا لا يشعران بوجود عورة، لأن ذلك هو وليد الشعور بالمنطقة الخفية من شخصية الإنسان في ما يختزنه في داخله من أفكار وأحاسيس كامنة في الذات. {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} في عملية تغطية وإخفاء وتخلص من العار، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} وابتعد عن خط الرشد الذي يقود الإنسان الى ما فيه صلاحه في حياته المادية والمعنوية، ولكن هذا الانحراف الطارىء البسيط لم يكن حالة معقّدة في عمق الذات تفرض عليه الاستسلام للخطيئة كعنصر ذاتي لا يملك الانفكاك منه، بل هو حالة إنسانية تستغرق في الغفلة لحظة ثم تثوب إلى رشدها، لتدخل في عالم الاستقامة من جديد..
* * *
كيف نفسر معصية آدم (ع)؟
وهناك حديث كثير في علم الكلام، عن معصية آدم، باعتباره نبياً معصوماً، في ما تفرضه صفة النبوة من العصمة التي تحمي المجتمع من انحرافه في مقام الدعوة، أو في مقام التطبيق، ويتساءل العلماء عن الآية التي تصرّح بالمعصية، ويجيبون تارة بأن الجنة ليست موضع عمل أو تكليف حتى تكون محلاً لإثارة مشكلة الخطأ والصواب، وأخرى، بأن المعصية ليست لأمر تكليفي يستتبع الجزاء والعقاب، بل هي لأمر إرشادي يستتبع الضرر الذاتي الذي يترك تأثيره على حياة الإنسان بعيداً عن مواقع الانحراف الفكري والروحي الذي يضر بالحياة العامة للمجتمع. ويدور حديث آخر حول العصمة، وهل هي عبارة عن سر مكنون في الذات يولد مع النبي، فلا يمكن أن ينفصل عنه؟ أو هي عبارة عن حركة المسؤولية المنطلقة في حياته من مواقعها المراعية للإرادة الإلهية التي تمنحها الإيمان وقوة الالتزام والانضباط أمام الاهتزاز في الإرادة تحت ضغط نقاط الضعف؟ ويثير آخرون مسألة نبوة آدم بالمعنى المصطلح لدور النبي، وما يعنيه من حمل رسالة تتحرك في خط الدعوة والتبليغ، وينقسم الرأي في إعطاء معقولية لدوره كرسول، فمنهم من ينكرها لفقدان المجتمع الذي يمكن أن يشكل ساحة للدعوة، ومنهم من يثبتها لأن فعليتها، أي ممارسة الدور فيها ستتحدد في المستقبل بعد أن يتحول الجيل الجديد إلى مجتمع يبحث عن القاعدة الفكرية الروحية، لقيام بنائه.
وهكذا أثارت هذه الآية الكثير من الحديث عن جانب العصمة لدى الأنبياء بشكل عام من خلال الإيمان بنبوة آدم، وعن نبوة آدم بالذات في ما ألمحنا إليه مما لا نجد كبير فائدة في الدخول في تفاصيله في هذا البحث التفسيري. ولكننا نستفيد منها نقطتين:
الأولى: إن النبوة تلتقي بمواقع الضعف البشري في أكثر من موقع، ولا تفرض الكمال الذي يبتعد عن طبيعته البشرية.
الثانية: إن القرآن لا يريد أن يعطي النبي هالة مقدسة في مجال التصور، بل يريد أن يدفع بالتصور إلى أن يتحرك بشكل طبيعي في فهم الشخصية من خلال البعد الظاهري الذي يكشف عن العمق الداخلي، عبر الوسائل العادية التي يملكها الناس في معرفة عمق الأشياء من خلال ظواهرها.
* * *
الله يتوب على آدم(ع)
{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ} واصطفاه إليه واختاره لنفسه، فلم يتركه حائراً ضائعاً في قبضة إبليس، {فَتَابَ عَلَيْهِ} ورضي عنه، {وَهَدَى} وفتح له أبواب رحمته، ودله على الطريق المستقيم، وأراده أن يواجه الحياة من مواقع قوة الإرادة في ساحة الصراع مع الشيطان، ولعلَّ الله سبحانه أراد أن يجعل له من تجربة العصيان في الجنة، فترة تدريبية للتعرف على طرق وأساليب الشيطان من الكذب والغش والدجل والخيانة والرياء، وذلك قبل أن ينزل إلى الأرض التي أعدّه الله ليكون خليفة له فيها، فيستفيد من تجربة سقوطه وخروجه من الجنة نتيجة لإغواء الشيطان ويعمل على تفادي مكائده في الأرض بعد أن ذاق مرها في الجنة، خاصة وأنه سيوكل إليه دوراً رسالياً يجب أن يتسلمه وهو في مواقع القوة لا الضعف. وهكذا أراد الله له أن يعيش الشعور برضا الله عنه، وهدايته له في ما يريد له أن يتحرك فيه.
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} قالها لإبليس، كما قالها لآدم وحواء. وقد استحكمت العقدة بينهما، فهذا إبليس يريد أن يضلل آدم وولده، وينحرف بهم عن طريق الله، ويضع بينهم وبين الله الحواجز. وهذا آدم يعمل على أن يحمل الرسالة لأولاده، ويحمّل أولاده الرسالة من بعده، ليحاربوا الشيطان، وليحذروا منه، وليقعدوا له كل مرصد، وليفتحوا الحياة كلها على الله، ليكون الدين كله لله. قالها الله لهم، ثم بيّن لهم البرنامج العملي الذي يمثل خط الهلاك، وخط النجاة، {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} لأنه هو السبيل الذي يقود الناس إلى الطريق المستقيم الذي يحقق لهم سعادتهم في ما يأخذون وفي ما يدعون من شؤون الحياة الدنيا، المستندة إلى البرنامج الرسالي الذي ينظر الله فيه لخلقه في ما يصلحهم وفي ما يفسدهم، وهو العالم بذلك والخبير به، فلا يحيط الخلق بما يحيط به المخلوق.
* * *
مصير المعرضين
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} الذي أنزلته عليه، فلم يحاول أن يتفهمه ويعيه ويلتزمه كخط للحياة، ولم يحسب حساب الله في كل صغيرة وكبيرة من عمله، بل حسب حساب هواه وشيطانه الذي يغويه ويضله، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} أي ضيقة، لأنه لا يحصل على شيء منها إلا وتطلعت نفسه إلى شيء آخر، فيشعر بالقلق والحسرة إذا لم يحصل عليه، فإذا تحقق له ذلك انتقل إلى شيء آخر، فهو محاصر بحاجاته وتمنياته في ما يخلد فيه إلى الأرض، فلا يتجاوزها إلى الآفاق الرحبة التي ينطلق فيها إلى الله سبحانه، ولذلك فإنه يبقى مختنقاً بالآفاق الضيقة، والأجواء الخانقة التي مهما اتّسعت، فإنها تظل في دائرة محدودة تضيق به، فلا تمنحه الإحساس الغامر بالسعادة التي لن تحصل للإنسان إلاّ بالإشباع الروحي. حتى المادة التي يغذي بها حاجاته الجسدية، لا تعطيه اللذة إلاّ إذا ارتفع بها إلى أجواء الروح فأعطاها شيئاً من الروحية في النية والجو والحركة. ومهما امتدت به هذه الحياة الدنيا، ومهما أعطته من مباهجها، فإنها محدودة بالموت الذي يلغي ويفسد كل شيء فيها.
قد يكون هذا المعنى هو الذي أثارته الآية في ما تريده من المعيشة الضنك التي تدخل في حسابات الجانب الروحي من العيش، وقد يكون هناك وجه آخر يذكره المفسرون، في ما قال بعضهم أنه عذاب القبر، ولكن الظاهر أن الآية واردة في مقابل معيشة المؤمن الذي يتبع هدى الله في ما تشتمل عليه من خصائص في الحياة الدنيا، لا فيما بعدها، وقال بعضهم: إنه عذاب النار ولكن ذلك غير ظاهر، لأنه جعل الحشر يوم القيامة تالياً له، والمفروض أن عذاب النار متأخِّر عن الحشر.
{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى} لا يهتدي الطريق إلى الجنة، لأن الطريق مسدود أمامه، بما وضعه من حواجز أمام نفسه في طريق الوصول إليها من خلال أعماله..
{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} ربما يظهر من هذه الآية أن العمى هنا هو عمى الحس بدليل مقارنة الإنسان له بالبصر في الدنيا، فيأتي بذلك الاعتراض بأن الظاهر من الآيات التي تتحدث عن يوم القيامة، كقوله تعالى: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12]؛ وقوله تعالى {اقْرَأْ كَتَـابَكَ} [الإسراء:14]، أن هناك بصراً في يوم القيامة. ثم كيف يأتي هذا الكلام من الإنسان الذي كان بصيراً في الدنيا؟ وربما يوجه ذلك بأن «من الظاهر المسلّم به من الكتاب والسنة أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم لها في الدنيا الذي تألفه في الطبيعة، وكون البصير مبصراً لكل مبصر، والأعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي، لا دليل على عمومه للنظام الأخروي؛ فمن الجائز أن يتبعض الأمر هناك، فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته وفلاحه وفوزه بالكرامة، وهو يشاهد ما يتم به الحجة عليه وما يفزعه من أهوال القيامة، وما يشتد به العذاب عليه من النار وغيرها»[1].
ولكننا نتحفظ على هذا التوجيه، لأن الظاهر من النص القرآني أنه يتوجه إلى الناس بما يفهمونه من معاني الكلمات، بالصورة المألوفة لديهم في تصورهم للأشياء، ولذلك فإن التبعيض في مسائل العمى والبصر بحسب اختلاف النظام الأخروي عن النظام الدنيوي، لا يدل عليه شيء، إن لم يكن الدليل على خلافه، كما ألمحنا إليه. أما ما نرجحه في المسألة، فهو أن التعبير وارد على سبيل المجاز من ناحية العمى والبصر القلبيين اللذين يتصلان بمنطقة الوعي الفكري للإنسان لا بمنطقة الرؤية الحسية. وليس هذا التعبير بعيداً عن الأسلوب القرآني، فقد جاء في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، ما يوحي بأن العمى الفكري والروحي ملحوظ في القرآن، بل هو الأبرز في أجواء الحديث عن الكافرين الذين يعتبرهم لا ينفتحون على الطاقات الحسية من السمع والبصر بشكلٍ واعٍ، فإن لهم عيوناً لا يبصرون بها، ولهم آذاناً لا يسمعون بها، كما أنهم لا ينفتحون على الطاقة الفكرية التي يملكونها، فإن لهم قلوباً لا يعقلون بها. ولعل الدليل على إرادة العمى المعنوي القلبي في هذه الآية ما جاء في الآية الأخرى جواباً على تساؤلهم.
{قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} في ما يعنيه النسيان من غفلة عنها، ومن بعد عن الصورة الحقيقية للمضمون الفكري لهذه الآيات، لأنه لا يملك الرؤية السليمة التي تجعله يبصر مواقع الهدى في كلمات الله، أو لأنه أهمل التركيز عليها من خلال أجواء اللامبالاة التي يمارسها تجاه الدعوة الإلهية. {وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} ولهذا كان جزاء ذلك هو إهماله يوم القيامة، ونسيانه العملي من قبل الله، بحيث لم يفتح الله له قلبه للأجواء الروحية المنفتحة على السعادة والطمأنينة الروحيين، كما لم يفتح قلبه لله في دار الدنيا، فكان العمى في الآخرة نتيجة للعمى في الدنيا، كما كان نسيانه لله هناك سبباً في نسيان الله له هنا، من ناحية عملية. والله العالم بحقائق آياته.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:14، ص:226.
تفسير القرآن