من الآية 127 الى الآية 135
الآيــات
{وَكَذلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخرةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى* أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لأوْلِي النُّهَى* وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى* فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى* وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى* وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى* وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِـآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْناهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى* قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} (127ـ135).
* * *
معاني المفردات
{أَسْرَفَ}: تجاوز الحد.
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ}: أفلم يبيّن لهم.
{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ}: مدّ العين: مدّ نظرها وإطالته إلى شيء، وهو كناية عن التعلق به وحبه.
{زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: زينتها وبهجتها.
{مُّتَرَبِّصٌ}: التربص: الانتظار.
* * *
العقل كأساس للمعرفة والإيمان
{وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ} وتجاوز عن الحد في علاقته بالله، كمن أعرض عن ذكر الله ونسي آياته، فإن الله يضيّق عليه معيشته، ويبعده عن رحمته {وَلَعَذَابُ الآخرةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} من عذاب الدنيا، {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ} أي ألم يسلكوا سبيل الهدى، ويتبين لهم حال الأمم السابقة التي أهلكناها في القرون الماضية، وهم {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ولم يعد لهم أي أثر. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأولِي النُّهَى} أي أصحاب العقول الذين يحاولون أن يثيروا التفكير في ما يشاهدونه ليحلِّلوا الفكرة التي توحي بفكرةٍ أخرى، ليخرجوا بالنتيجة الواقعية، وهي أن مواقع القوّة الطارئة التي يملكها الكثيرون من الناس فيطغون ويعيثون في الأرض فساداً، لا تدوم لهم، لأن الله سيدمّرهم في الدنيا، كما دمّر السابقين من قبلهم، ويعذبهم في الآخرة، ليعيدوا النظر في مواقفهم المنحرفة في خط الكفر والضلال حتى لا يحل بهم ما حل بأولئك..
وتلك هي قيمة العقل عندما يتحرك ليواجه الأمور بدقّةٍ وموضوعيةٍ، لينتهي إلى النتائج الصحيحة، من موقع المسؤولية عن الفكر والحياة، بعيداً عن الانفعال، أو الانجرار تحت تأثير وضع تقليدي أو نفسيّ أو اجتماعي، لأن ذلك هو الذي يحفظ للفكر توازنه، وللحياة ثباتها وقوّتها واستقامتها في الاتجاه السليم. ولذلك كان التوجيه القرآني يؤكد على قيمة العقل كأساس للمعرفة وللإيمان، وعلى دور أصحاب العقول، كنموذج للفئة الواعية المؤمنة التي تحمل مسؤولية الحياة من موقع الحسابات العقلية الدقيقة.
* * *
بناء الأمم وفنائها خاضع للسنن الكونية
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أي لولا كلمة سبقت من ربك لكان الهلاك لزاماً على هذه الأمة التي عاندت الرسول وكفرت به، ووقفت في وجه الدعوة إلى الله، لأنهم يستحقون ذلك بأكثر مما كان يستحقه السابقون من الكفار، ولكن الله سبحانه أراد بكلمة القضاء والحسم التي يقدر فيها الأمور أن يؤخر عذابهم، كرامةً للدور الرسولي الذي يتمثل في شخصية النبي محمد(ص)، فلم يرد أن ينزل العذاب على الأمة مع وجوده فيها، بل أراد للتجربة أن تمتد معه بالأسلوب العقلاني الذي يمنح الناس فرصة بعد فرصة لكي يفكروا ويعتبروا ويستخلصوا النتائج الحاسمة في أمر العقيدة، لأن الفرق بين مرحلة الإسلام وبين مرحلة الأديان الآخرى، هو أن الأديان الآخرى السابقة انطلقت لتلبية حاجة مرحلةٍ زمنيةٍ محدودة، بينما انطلق الإسلام ليكون دين الحياة الذي يستمر إلى نهايتها. ولهذا كان العذاب يمثل الصدمة التي قد لا تتناسب مع الطبيعة الهادئة المنسجمة مع دور الإسلام في التعبئة الفكرية لمصلحة الإيمان. هذا بالإضافة إلى أن الله أراد للحياة في حركة الأمم في بقائها وفنائها أن تعيش في نطاق السنن الكونية التي تخضع لها الحياة في الأشخاص والأمكنة والأوضاع.
* * *
الصبر في مواجهة الأضاليل
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} من كلماتهم اللامسؤولة التي ينفسون فيها عن غيظهم، ويهربون فيها من إحساسهم بالعجز أمام قوة الرسالة. فليست المشكلة في ما يقولون من أضاليل، بل المهم هو مدى تأثير هذا القول في ساحة الدعوة. وهذا ما لا يستطيعون أن يحققوا فيه شيئاً كبيراً، لأن الحقيقة سوف تفرض نفسها على الحياة، ولو بعد حين. ولذا فإن الصبر يمثل العامل الإيجابي في هذا المجال، لأن هؤلاء سوف يستهلكون كل وسائلهم ويجربون كل أساليبهم، وستتساقط بأجمعها أمام الرسالة في نهاية المطاف، وسيدخل الجميع، بعد ذلك، في دين الله أفواجاً عندما ينقشع الضباب عن عيون السائرين.
* * *
التسبيح عامل قوة للإنسان
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} فإن التسبيح الذي ترفعه إلى الله تعظيماً وتنزيهاً له عن كل ما يلصقه به المشركون والكافرون، يفتح لك آفاقاً واسعة من الشعور بالقوة المستمدة من الله العظيم المنـزّه عن كل عيب، ويجعلك تعيش الإحساس بالاحتقار لكل من عداه مهما بلغت قوته. كما أن الحمد الذي يتحرك مع التسبيح سوف يطل بك على كل صفة كمال وجلال لله سبحانه، فينفتح لك الحق كله، والخير كله، والكمال كله، والجلال كله، بما تمثله كلمة الله من آفاق المطلق الذي لا حدود له. وهكذا يكون التسبيح بالحمد انطلاقة روحية تخفف من أثقال الجهد الشديد الذي قد يسقط الإنسان من خلاله في حالة من الإعياء أو اليأس، ويقوده ـ بعد ذلك ـ إلى التراجع أو الانسحاب، لأن اللقاء بالله ـ والعيش معه من خلال الذكر ـ في تسبيح الله وحمده، يعطي الإنسان الشعور بتجدد القوة وتعاظمها، وبحيوية النشاط وفعاليته، ويدفعه إلى الامتداد تحت عناية الله ورعايته، قبل أن يبدأ يومه، لتكون بدايته من موقع الاستعداد ليوم عمل رسالي جديد في الدعوة وفي الجهاد، وقبل أن يبدأ ليلته، لينفض عنه سلبيات ما عاناه في يومه من صدمات وتحديات، فلا تترك تأثيرها على مشاريعه في الليل، وليخطط لنشاط روحي إسلامي في الليل بعيداً عن الانسحاق تحت تأثير الضغوط النفسية والمادية من حوله.
{وَمِنْ آنَآءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} فإذا امتد الليل، وانفتح في أعماق الكون، فسبح بحمد ربك لتعيش الصفاء الروحي الذي ينفذ إلى فكرك وقلبك ووجدانك من ينابيع النور الإلهي الروحاني الذي يحول الليل إلى إشراقة روحية ممتدة في كل زوايا النفس، وجنبات العقل، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} أي وسبحه في فتراته التي تتوزّع في مواقيته، للمقابلة بين الليل والنهار، تماماً كما هي المقابلة بين ما قبل بدايته ونهايته، ليكون التعبير شاملاً للوقت كله في مجمله، وفي بداياته بطريقة بلاغية. وربما استفاد البعض الإشارة في توزيع التسبيح على الأوقات، أن المقصود بذلك هو الصلوات الخمس، وليس ذلك واضحاً من التعبير، بل ربما نستفيد مما يأتي من التأكيد على الصلاة، أن الحديث عنها ليس مقصوداً هنا، وإن كان الأمر ممكناً بلحاظ بعض الاعتبارات، والله العالم.
{لَعَلَّكَ تَرْضَى} وتطمئن وترتاح إلى اتصالك بالمبدأ الأعلى في تسبيح وتحميد وتمجيد ومناجاة موصولة بالله، في رعايته ولطفه ورضوانه، ما يجعلك راضياً بكل شيء يحدث لك من حلو الحياة ومرها، وبؤسها ونعيمها، وسعادتها وشقائها، لأن ذلك لا يمثل مشكلة للمؤمن ما دام يتحرك في محبة الله ورضاه.
* * *
القناعة بقسمة الله ونعمته
{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} فقد يغفل القلب فيستغرق في الأجواء المحيطة به، وقد يسرح البصر فينشغل بالزخارف والمباهج التي تمتد أمامه، فتتحرك العينان في قلبه وفي وجهه.. لتتلهيا بما أغدقه الله على هؤلاء الطغاة أو غيرهم، من مال وجاه وبنين وشهوات، يؤدي إلى الانبهار بالدنيا المحيطة بهم، والمتحركة في أوساطهم، فيتمنى الإنسان لنفسه ما قسمه الله لغيره، ويشعر بالحسرة إذا لم يحصل على ما حصلوا عليه، فيندفع للاعتداء على الآخرين بهدف الحصول على ما يريد ولو بطريقة غير شرعية، فينحرف عن الخط المستقيم، وينزلق إلى مهاوي الدنيا ومغرياتها. ولكن الدنيا زائلة مهما كبرت واتسعت وامتدت، لأن زخارفها زينة ليس إلاّ، وهي لا ترفع شأناً ولا تضع وزراً، بل هي شيء يحلو للنظر فينبهر به، أو هي شيء يتوهّج ويشتعل ويلتهب، ثم يخبو تدريجياً ويتحول إلى رماد. ولهذا فإن على الإنسان المؤمن ألاّ يتعلق بها إن أقبلت أو يتحسر عليها إن أدبرت، بل أن يراها على حقيقتها كظاهرة طارئة فانية مستهلكة زائلة، وزعها الله على عباده تبعاً لحكمته وبحسب مقادير الأشياء في الكون على كل المستويات.
{وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} بما يهيئه لك من رزق الدنيا والآخرة، فهو الأقرب إلى صلاحك في الدنيا في ما يصلح لك فيه أمر حياتك، وهو الأقرب إلى سعادتك في الآخرة في ما يقرر لك سعادتك في مصيرك، فتطلع إليه، فهو الأفضل والأبقى، ولا تتطلع إلى غيره، وحاول أن تشغل نفسك بمسؤوليتك في ما أوكل الله إليك أمره من مسؤوليات.
هل هذا دعوة إلى الابتعاد عن الحياة، لتكون من آيات الزهد العملي الذي ينصرف فيه الإنسان عن مباهج الحياة وطيباتها وزخارفها؟ أو هي دعوة للتوازن في النظرة إليها، فلا يستغرق فيها، ولا يتحسر عليها، لما يحقق التوازن في التعاطي معها بالمقادير المناسبة ودون مغالاة أو مبالغة ؟!. إننا نفهم من الآية المعنى الثاني الذي يريد للإنسان أن يقنع بما رزقه الله، وألاّ يعيش الانبهار الذي يسقط روحه، ويثقل فكره، والله العالم.
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} لأنها هي التي تعرج بك إلى الله، فتصفّي لك روحك، وتطهر قلبك، وتفتحه على الخير كله، وهي التي توحي لك بكل المعاني الطاهرة، والقيم الروحية، والأخلاق العالية، لتكون ملهمة للتسامي الروحي، والتركيز العملي. ولذلك فإن الإنسان المؤمن هو الذي يعمل كي يكون مجتمعه الأقرب إليه، مجتمع صلاة يتعبّد فيها لله، ويخلص فيها له، ويقترب فيها منه بروحه وقلبه وضميره، ليكون المجتمع الذي يراقب الله في سره ويتّقيه في علانيته، لأن ذلك ما يحقق له التوازن في العلاقات المنفتحة على الله من موقع المسؤولية، وعلى الإنسان من موقع الرحمة، وفي المعاملات الخاضعة للشروط الشرعية في ما يحل منها وفي ما يحرم، وفي الكلمات المسؤولة التي تعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي في ما يصلح أمر الحياة من شؤون المعرفة والحركة. ثم الأمر بالاصطبار عليها في نفسه، في ما تحتاجه إلى وعي للموقف فيها، وللخشوع معها، ولاستلهام معانيها في أقوالها وأفعالها، فلا يسرع فيها إسراع من يريد أن يفرغ منها، من دون أن يستوعب دروسها، ولا يهملها في أوقاتها ومواقعها، لأنها هي الأساس الذي يرتكز عليه امتداد العمل في سائر جوانب الحياة، لأنها تشير إلى العمق الأعمق في المسألة، وهو الانفتاح على الله، وتأكيد العلاقة معه في حركة التقوى في داخل النفس وخارجها.
{لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} فليست الصلاة، أو مطلق العبادة حاجة لله لدى عبده، لتكون بمثابة الرزق الذي يطلبه منه، لأنه الغني المطلق الذي يطلب ما يطلبه من عبده من موقع الناصح الذي يريد له المصلحة. فالإنسان هو الذي يحتاج إلى الله في كل شيء، فهو الذي يرزقه في كل ما يحتاجه من شؤون الرزق في الحياة؛ ولكن المسألة هي مسألة التقوى، وهي العنوان الأنقى لحياة الإنسان في الدنيا، ولمواقعه في الآخرة، فهي التي تبقى وتستمر، وتحقق للإنسان أفضل النتائج على مستوى قضية المصير.
* * *
المعجزة وسيلة لإقامة الحجّة
{وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ} ويبقى الهاجس الذي يطوف بخيالات المشركين في حديثهم عن النبي، هو المعجزة الخارقة التي تدهش النظر بتغيير المألوف من الظواهر الكونية من حولهم، تماماً كما كانوا يسمعونه عن عصا موسى(ع) وإبراء عيسى(ع) الأكمه والأبرص وإحياء الموتى؛ ولذلك فقد كانوا يقترحون عليه أمثالها أو ما يقرب منها. ولكن المعجزة ليست عملاً استعراضياً يقوم به النبي من أجل إبراز قدرته التي تصدم الحس، وتلهب الخيال، بل هي وسيلة من وسائل إقامة الحجة على الناس، في ما يعتبر بينة للرسالة، في حالات الشك والريب في صدقية النبي ورسالته. ولذلك فإن النبي محمد(ص) جاء بالقرآن الذي يشتمل على كل ما في الصحف الأولى التي جاء بها الأنبياء السابقون مما لم يتعلمه عند أحد من الناس، كما يعرفونه من أمره، في ما يعرفونه من دقائق حياته، وهو الكتاب الذي {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، ولم يستطع أحد منهم ولا من غيرهم أن يأتي بسورة من مثله، بالرغم من التحدي الكبير الذي أثاره أمامهم، {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} فيجدون من خلال ذلك الدليل على صدق القرآن في أحكامه وشرائعه وبيناته..
وربما كان المقصود ـ كما يذكر البعض ـ التهديد بما يمكن أن يأتيهم من العذاب على ما يقترحونه من الخوارق والمعجزات للتعجيز، فإذا جاءتهم امتنعوا عن الإيمان به، كما كان يحدث للأمم السالفة، إذ كان العذاب يرافق الكفر بعد قيام المعجزة، فيكون ذلك سبباً لهلاكهم، فتكون الآية تحذيراً لهم من ذلك لينتهوا عنه.
{وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ} أي من قبل إنزال القرآن وإرسال الرسول، لأثاروا علينا المطالبة بالحجة القائمة على ما نريد منهم من مسؤوليات، لنرى كيف يلتزمون بها، ويطيعوننا من خلالها، و{لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} في ما تنزله علينا من العذاب، {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ} في ما ننتظره من وعد الله لنا بالرحمة والمغفرة، وما أعدّه لكم من عقاب، وفي ما تنتظرونه، أنتم، من المشاكل التي تحيط بنا وتحاصرنا لتبطل دعوتنا، وتهزم موقفنا. وتبقى ساحة الصراع بيننا وبينكم حالة حركة دائبة وجهاد مستمر، لتكون النتيجة الحاسمة لمن يملك الحق، ويلتزم بالصراط المستقيم، {فَتَرَبَّصُواْ} لأنكم لا تزالون في حالة شك، أما نحن فإننا نملك الرؤية الواضحة من خلال الإيمان المنفتح الواعي، ولذلك فإننا لسنا في موقع الانتظار القلق، بل في مواقع الانتظار الحاسم الجازم الذي يعرف ما يريد، وستظهر النتيجة، {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} منا أو منكم، {وَمَنِ اهْتَدَى} في ما يلتزم به من خطوط الحياة ومناهجها المتحركة من أجل سعادة الإنسان في قضايا المصير في الدنيا والآخرة.
تفسير القرآن