من الآية 1 الى الآية 15
الآيــات
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ* مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ* لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ* قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ* مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ من قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ* وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْألُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ* وَمَا جَعَلْناهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ* ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ* لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ* فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ* لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ* قَالُواْ يا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} (1ـ15).
* * *
معاني المفردات
{مُّحْدَثٍ}: جديد، وقيل: أي نزل سورة بعد سورة.
{قَصَمْنَا}: القصم: الكسر، والمراد به: الهلاك.
{أُتْرِفْتُمْ}: الإتراف: من الترف، وهو: التوسعة في النعمة.
{حَصِيداً}: الحصيد: المقطوع.
{خَامِدِينَ}: الخمود: السكون، والسكوت.
* * *
اللهو عن ذكر الله
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} إن الحساب يقترب من الإنسان حتى ليكاد يواجهه في كل لحظةٍ تقترب به من الموت، لأن الموت يعني الانتقال من دار العمل، التي هي الدنيا، إلى دار الحساب التي هي الآخرة، فيما عبر عنه الإمام علي(ع) في كلمته المأثورة: «اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل»[1]. وقد جرى القرآن على إثارة النتائج السلبية أمام الإنسان في مجال التعبير عن الموت كما في قوله تعالى: {وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ* وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} [الزمر:54 ـ 55]، حيث عبّر عن الموت بالعذاب، بلحاظ أن العذاب يستتبع الموت للخاطئين المسرفين على أنفسهم الذين لم يتوبوا إلى الله.
وهكذا اقترب للناس حسابهم باقتراب الوصول إلى دار الحساب من دون تحديد لموعده، هل هو بعد الموت مباشرة، كما جاءت الروايات عن حساب القبر، أو هو عند قيام القيامة، عندما يقوم الناس جميعاً لرب العالمين، لأن المسألة هي إثارة الحساب في وعيهم ووجدانهم، {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} فقد عاشوا الغفلة كأعمق ما يعيشها الإنسان الذي يبتعد فكره عن الحقيقة، لأن هناك أكثر من حاجز يحجزه عنها، فيدفعه إلى الإعراض عن كل دعوة للحق، لأنه لا يعيش الوعي المنفتح عليه.
وقد أثار بعضهم التساؤل حول الجمع بين الغفلة التي توحي بعدم الانتباه، وبين الإعراض الذي يستلزم الالتزام، لأنه يُمثل موقفاً سلبياً اختيارياً من الموضوع؟! والجواب عن ذلك، أن الإعراض يعبر عن حالة سلبية واقعية، قد تلتقي بالوعي للموقف، أو بالغفلة عنه، وذلك لأنه يمثل الإهمال الفعلي لحركة المسؤولية في حياته من خلال موقف الحساب. والله العالم.
{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} فهم لا يعيشون الجدية في مواقفهم أمام المسؤولية، بل يواجهونها من موقع اللهو واللعب، كمن يلعب بمصيره غافلاً عن النتائج السلبية التي يلاقيها. وهذا ما كانوا يمارسونه عندما كان الأنبياء يأتونهم برسالات ربهم التي ترشدهم إلى الفلاح في الحياة، وتثير في داخلهم الشعور بالسمو الروحي الذي يلتقون من خلاله بالله، ويتضح لهم الكثير من المشاكل الواقعية التي تصادفهم في قضايا الفكر والحركة والشعور. فقد كانوا يستمعون إلى الأنبياء استماع اللاعب الذي لا يريد أن يشغل عقله بما يسمع، أو يربي روحه به أو يعيش المعاناة من خلاله، بل يريد أن يُحرك حسه، ويشغل فراغه، فلا يكون همه مما يسمعه إلا الأصداء التي تنطلق من الكلمات، بعيداً عن معانيها، أو الأجواء الساخرة التي يحاول أن يثيرها في ما يتخذه من المواقف المضادة تجاهها.
* * *
اللهو القلبي
{لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} بكل زخارف الدنيا وزينتها، وبكل مواقع الشهوات ومراتعها، وبكل مظاهر القوة وأدواتها، فهي مشغولة بذلك كله، مبهورة بالألوان اللامعة، بالصور الساحرة، في حالة من اللهو المتحرك في نبضاتها، المهتز في مشاعرها، حيث لا تطمئن إلى هدوء الفكر، وصفاء الروح، وإشراقة الوجدان، لتكتشف، من خلال ذلك كله، أن وراء كل هذه الأوضاع اللاهية الباهرة عمقاً للحياة، بما تختزنه من مشاكل ومتاعب وبلايا وآلام، مما قد ينسف كل هذا الواقع الذي يسترخون فيه، ويطمئنون إليه، فلو تصوره الناس بحقيقته لابتعدوا عن الاستسلام لما يستسلمون له الآن، وأعرضوا عن اللهو الذي يأخذون به.
ولعل مشكلة اللهو القلبي أخطر من مشكلة اللهو الجسدي، لأنه يستنزف كل عناصر الإحساس الجدي في عمق الذات، بينما يتحرك اللهو الجسدي ليشغل العين واليد واللسان..، وبذلك يبتعد الإنسان عن خط الالتزام في حركة الواقع من خلال الرسالة.
وقد أبعدهم هذا اللهو عن الارتباط بالحقيقة الرسالية، ولكنه لم يبعدهم عن الشعور بالخطر الذي قد يتهددهم، نتيجة ما يثيره الرسول في أفكارهم من إيمان يهزّ معتقداتهم، وهداية تصيب عقول أبنائهم بالانحراف كما يتصورون. ولِذلك كانوا يحاولون أن يرسموا الخطط، ويدرسوا الأساليب التي تنقذ ساحتهم من ذلك كله. وهذا ما أثارته الفقرة التالية من الآية {وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر والانحراف، وائتمروا فيما بينهم في أجواء المناجاة التي كانوا يتداولون فيها الشعار المثير الذي يطرحونه في الناس لإبعادهم عن خط الرسول ويحذرون به بعضهم البعض من الانجذاب إليه، مما يمكن أن يتأثروا به من دعوته، وذلك في الدائرة السرية من أحاديثهم.
* * *
مناقشة الكفار
{هَلْ هَذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} إنه تساؤل الكفار المتخلِّف الذي يطرح مسألة البشرية كعنصر مضاد لفكرة النبوة في إيحاء يفرض النبوة غيباً لا يليق إلا بالمخلوقات الغيبية المتميزة عن الناس بأشكالها الخاصة، وطاقاتها المختلفة. وفي ضوء ذلك، فإن القضية لا تعدو أن تكون من الأسرار الخفية للبشر من خلال ما يتميز به السحرة الذين يتقنون الأساليب الفنية الساحرة والألاعيب العجيبة المثيرة التي تأخذ بألباب الناس، وتسحر أبصارهم، وتثير فيهم الأحاسيس والمشاعر الحميمة. إنه السحر الذي يتمثل في الكلمات، فهل تتركونه يؤثر فيكم من دون اختيار؟!
{أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} الأشياء المحيطة بكم، على طبيعتها، في نظرة سليمة لا مجال فيها للإشكال والارتياب، فكيف لا تواجهونه بالرفض، لتنقذوا عقولكم من سحره؟
ولكن الرسول الذي يعيش وضوح الرؤية في صفاء الوحي والرسالة، لا يهتز أمام هذه التصورات والكلمات، لأنه يعرف العقدة النفسية التي تكمن خلفها، والزاوية الضيقة التي تتحرك فيها، بل يبقى ثابتاً يتطلع إلى الله كمسؤول أمامه، خاضع له في كل شيء، فهو يشير إليه، في حديثه معهم، ليوحي إليهم بأن كلماتهم لا تهمه ولا تثيره، ولا تُسقط موقفه، لأنه ليس مسؤولاً أمامهم ليفكر في غضبهم ورضاهم، أو في طريقة إيمانهم به، أو تنكرهم له. ولذلك كان جوابه حاسماً، مؤكداً أنه لا يملك من الأمر شيئاً، فقد بلّغهم رسالة الله، وانتهى دوره في ذلك.
* * *
القرآن يضع المسألة في نصابها الصحيح
{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَآءِ وَالأرْضِ} فهو الذي يقرر إن كنت صادقاً في ما أدّعيه من رسالته أو كنت كاذباً في ذلك، وهو الذي يعلم إن كان ما جئت به هو السحر، أو الحق؛ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الذي يسمع كلامي وكلامكم، ويعلم سرّي وسرّكم في ما أضمر وتضمرون من الخير والشر في ذلك كله. فليست المشكلة ما تقولون، بل المشكلة ماذا يعلم الله من الحق الذي يمثل حقيقة الموقف كله.
وهذا هو الموقف النبوي الثابت الذي يعبر عن الثقة بالله والنفس من خلال الله، ما يجعله يتابع طريقه بقوة، ويمارس دعوته بصلابة، ليوحي، في ذلك، للآخرين بالثقة بالموقف الذي يربط الأشياء كلها بالله، ويتحدث عنه من موقع حضوره الدائم المهيمن على الأمر كله الذي يحيط بكل شيء علماً، ويحاسب الناس على ما افتروه عليه في الدنيا والآخرة. ولكن القوم يتخبطون في كلماتهم واتهاماتهم، فهم لا ينطلقون فيها من قاعدة، بل من حالة معقّدة يريدون أن يخرجوا من خلالها من المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه، أو وضعتهم الرسالة في داخله، لأنهم لا يملكون حجة منطقية ضده ليبرّروا للآخرين في مجتمعهم هذا الموقف السلبي في مواجهتها. ولهذا كانوا ينتقلون من تهمة إلى أخرى، فإذا كان السحر هو ما يمثل طابع الرسالة والرسول، فإن معنى ذلك أن هناك قاعدة لكل الموقف في ظواهره وفي خفاياه، لأن السحر علم دقيق كبقية العلوم بما يشتمل عليه من أسرار وضوابط وقضايا؛ ولكنهم يشعرون أن الكلمة لا تعطي مفعولها السلبي في الساحة لأن الناس تعرف السحرة في منطقهم وفي حركاتهم مما لا يمت إلى القرآن أو إلى ما يفعله الرسول بصلة. وهكذا انتقلوا إلى كلمة أخرى، {بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} في ما تعبر عنه الكلمة من الرؤى التي تتمثل للإنسان في صور مضطربة، وأحداث غير متناسقة، مما يراه في المنام، من دون أن يكون لها أساس في الواقع، أو موقع من الفكر.
ولكن كيف تكون كل هذه الآيات المليئة بالفكر والروح والحركة والحياة أحلاماً مبهمة متناثرة؟ وكيف يمكن أن يعطي الضباب الوضوح في الرؤية، أو يمنح السحاب الأفق مزيداً من الإشراق؟ ولهذا أعرضوا عن ذلك لأنه لا يرتكز إلى أساس معقول، فلا يقبله منهم أحد من ذوي العقول، فانتقلوا إلى كلمة أخرى أقرب إلى التصديق، {بَلِ افْتَرَاهُ} فهو يصنع الفكرة من داخل ذاته ثم ينسبها إلى الله، ليصدقها الناس من خلال القداسة؛ وبذلك يملك كل المعطيات التي تؤكدها.
ولكنهم يلاحظون هذا الإقبال العجيب على الإيمان بهذه الآيات مما لا يحصل في كل مواقع الافتراء التي لا تترك أثراً عميقاً، ولهذا اختاروا كلمةً تعطي المسألة قوّتها في نطاق الذوق الفني، {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} يملك الفن الرفيع الذي ينحت الكلمة الرائعة، ويبدع الفكرة الرفيعة، ويثير الإحساس، ويلهب الشعور، ويقترب في إيحاءاته من السموّ في اللمحة واللفتة والأسلوب. وبذلك كان القرآن يمثل الشعر في بلاغته. ثم تركوا التحدث عن طبيعته من خلال العنوان الذي يثيرونه في ذاته، ليثيروا المسألة من جانب آخر. فهم يناقشون صفة الرسالية لدى النبي محمد(ص) من خلال المقارنة بينه وبين الرسل الآخرين؛ فهو يعترف، كما يعترفون، بأنهم رسل الله، وقد جاؤوا بالمعجزات الخارقة للعادة، كدليل على رسالتهم، {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون}؛ ولكنه لم يستجب لذلك، فلم يأت بآية مماثلة، فكيف تريدوننا أن نصدق بنبوته، وهل يؤمن الإنسان من دون دليل واضح؟
ولكن القرآن يناقش طريقتهم في عرض المسألة، لأنهم ليسوا جادّين في طلب الآية، فهم لا يعيشون إرادة الإيمان في وجدانهم، ولهذا كانوا لا يناقشون قضاياه بطريقة هادئة علمية، بل يواجهونها بطريقة انفعالية لا تستريح للهدوء الفكري في مناقشة الأمور.
ولو أرادوا الإيمان لأمكن لهم أن يكتشفوا في القرآن، من خلال براهينه الواضحة، وآياته وأساليبه، ما يمكن أن يقودهم إلى الإيمان من أقرب طريق. وهم لم يكونوا بدعاً من طلبهم المعجزة الخارقة، بل كانوا كالكافرين الذين تقدموهم، فقد طلبوا من رسلهم المعجزات، حتى إذا جاءتهم رفضوا الإيمان بهم، وقالوا عنها أنها سحر، كما قال هؤلاء عن القرآن إنه سحر، وتحدثوا عن البشرية كعنصر مضادّ للنبوة، كما يتحدث هؤلاء. فما الفائدة بعد ذلك من إنزال المعجزة، ما دام الهدف الذي تؤكده لا يحصل منها وما دام هناك أكثر من طريق تقوم به الحجة على الناس؟
* * *
نماذج حيّة
{مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ} طلبت ما طلبوا، واستجاب الله لها، حتى إذا لم يتحقق منها الوفاء بما وعدت، {أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} وهم يشابهونهم في العناد والاستكبار ومواجهة الأمور الحيوية بطريقة اللامبالاة. {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ} فهل يكون الرسول الذي يرسله الله الان، إلاَّ كمثل الرسل الذين أرسلهم الله قبلك، {فَاسْألُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} من العلماء بالكتاب الذي أنزل على النبيين، ممن تعتمدون عليهم، في علمهم واطلاعهم ومعرفتهم بالرسالات، فذلك هو سبيل العلم بما يجهله الناس، وذلك بالرجوع إلى أهل الخبرة في ما يختلفون فيه ليكونوا الحكم الذي يحسم الخلاف؛ وستجدون أن كل هؤلاء متفقون على أن أنبياء الله لم يكونوا ملائكة، ولا طينة مميزة عن البشر، بل كانوا بشراً كبقية البشر في حياتهم وموتهم، وضعفهم وقوتهم، فلم تنقل لنا أية حقبة زمنية من التاريخ نبياً ليس ببشر..
{وَمَا جَعَلْناهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} فقد كانوا يمارسون كل خصوصيات البشر في وجودهم الجسدي المادي الذي يحتاج إلى الطعام والشراب، فيفنى عندما يصل إلى نهايته الطبيعية كما يفنى أي جسد آخر، من دون أية خصوصية تربطه بالخلود.
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ} في ما وعدناهم به من النصر على هؤلاء المتمردين، ومن النجاة منهم ومما يحل بهم من عذاب، {فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ} من المؤمنين الذين اتبعوهم بإحسان، ونصروهم بقوة، وواجهوا أهلهم بصلابة، وتحمّلوا الاضطهاد بإرادة مؤمنة قوية، {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ} الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود المعقول في ما يضمن النجاة للناس في الدنيا والآخرة، فلم يلتزموا بالإيمان الذي قامت به الحجة عليهم من الله، ولم يستجيبوا لنداء الله، بل اختاروا الكفر والانحراف الذي لا يستجيب لأي موقع قوة من مصلحة الإنسان. وهكذا حقّت عليهم كلمة العذاب من الله، فأهلكهم وعذبهم بمختلف ألوان العذاب في الدنيا قبل الآخرة.
{لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} الذي يفتح قلوبكم على الحق من أوسع أبوابه، ويرفع منزلتكم العقلية وموقعكم القيادي في الأمة، بما يتضمنه من المعارف والعلوم، وما يثيره من المفاهيم العامة التي تنفتح على مختلف خصوصيات الواقع المتحرك على أكثر من صعيد، ويؤكد بذلك الدور المميز للأمة التي تعمل على تجسيده في الحكم والتشريع والمنهج والأسلوب والحركة. {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وتعملون على الأخذ بأسباب النمو العقلي في حركة الفكر في مفرداته العقلية وروحيته الإيمانية الإيحائية بما يختزنه من أسرار الكون، وآفاق الغيب والتخطيط للواقع الإنساني، في دنياه وآخرته. وهكذا نجد القرآن يثير ـ دائماً ـ أمام الإنسان أهمية العقل في بناء شخصيته، حيث يعتبر الوحي والتجربة والتفكير منطلقات إثارة وتركيز لقوته العقلية، باعتبار أن العقل هو الذي يمثل عنصر المسؤولية في حياته، وهو الذي يساهم في رفع مستوى الواقع من حوله، ويتجه به إلى سعادة المصير في الدنيا والآخرة.
* * *
القريـة الظالمـة
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} فكسرنا قوتها وأهلكناها، لأنها ظلمت نفسها بكفرها وضلالها، وظلمت غيرها بتمردها وعدوانها، {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ} ليستمر الوجود في لون جديد من الإنسان والحركة، ليجدد الحياة من حوله، كدليل على أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الناس، مهما بلغوا من القوة، فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، أمام إرادته التي تهلك قوماً وتنشىء آخرين.
{فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} وعذابنا القادم إليهم، حاولوا الهرب منه ليجدوا هناك ملجأ يلجأون إليه، {إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} ولكن إلى أين المفر والمهرب، وكيف يفكرون أن يعثروا على مكان لا يملك الله أمره؟ {لاَ تَرْكُضُواْ} ولا تبتعدوا عن مواقعكم، {وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} من أسباب الترف، حيث أعطاكم الله من نعمه المثيرة ما لم تشكروه عليها، ولم تتوازنوا في إدارتها، ولم تتحملوا مسؤوليتكم في تحريكها لمصلحة الناس من حولكم ممن كلفكم الله إعانتهم ورعايتهم بما يحتاجون إليه منها؛ فعودوا إلى ذلك، {وَمَسَاكِنِكُمْ} التي اتخذتموها مواقع للظلم والاستكبار، {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} من جديد، عن هؤلاء الفقراء والمساكين الذين كنتم تطردونهم عندما يلجأون إليكم، وتستكبرون عليهم عندما يرفعون إليكم حوائجهم. إنها العقلية الاستعلائية التي تريد أن تتألّه أمام المستضعفين من عباد الله من خلال ما كنتم تعيشونه من أفكار ومشاعر وامتيازات، ولكن أين هي الآن؟ هل تجدونها إذا بحثتم عنها في كل هذه المواقع التي كنتم فيها؟ هل تحاولون الرجوع إليها؟ ألا تزالون في هذا التفكير المريض الذي يتحرك من مواقع العظمة الفارغة المتحرك من حالة الانتفاخ الذاتي التي تحيطكم بمظاهر القوة، وأوهام الخيال؟ وهكذا يخاطبهم الله بالأسلوب الذي يسخر به منهم.
{قَالُواْ} وهم يواجهون المصير المحتوم، في حالة شديدة من الشعور بالإحباط والهزيمة، والإحساس بالندم، والشعور بالويل، في صراخ عميق للشخصية المستكبرة المهزومة في داخلهم، {يا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} فلم نفكر بالأمور بطريقة واقعية، تبتعد عن تضخيم الأشياء الهزيلة وتصغير الأشياء الكبيرة، لأننا فقدنا قدرتنا على وضوح الرؤية، مما كنا نأخذ به من الخيالات والأوهام المريضة، والاستسلام للمظاهر الخادعة التي تحيط بنا في عملية استكبار واستعلاء، {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ}المتوسلة الذليلة أمام المصير المحتوم، غير المحكومة بإرادة التراجع والاعتراف، بل انطلقت من خوف ساحق من النتائج السلبية المرعبة التي تنتظرهم، {حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً} فحصدناهم وقطعنا وجودهم من الأرض في عملية إبادة واستئصال، {خَامِدِينَ} في حالة سكون، لا مجال فيها للحركة، ولا مظهر فيها للحياة.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) الإمام علي، نهج البلاغة، ضبط نصه وفهرسه د. صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني، ط:2، 1982م، خطبة:42، ص:84.
تفسير القرآن