تفسير القرآن
الأنبياء / من الآية 16 إلى الآية 18

 من الآية 16 الى الآية 18

الآيــات

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ* لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَـهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ* بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (16ـ18).

* * *

معاني المفردات

{نَقْذِفُ}: القذف: الرمي البعيد.

{فَيَدْمَغُهُ}: دمغه دمغاً أي: شجّ رأسه حتى يبلغ الدماغ. والمراد بالدمغ هنا: القمع والإبطال.

{زَاهِقٌ}: زهق الشيء يزهق أي: هلك.

* * *

الغاية من خلق السموات والأرض

كيف يفكر هؤلاء الذين يعتبرون الحياة الدنيا فرصتهم الأولى والأخيرة؟

فيعتبرون أن لا هدف ولا غاية من وجود الإنسان؟ وهم ينكرون أمر المعاد الذي سيواجه فيه الإنسان النتائج الإيجابية والسلبية على أعمال الخير أو الشر الصادرة عنه في حياته، لتتوازن الحياة في دائرة الهدف الذي يحكم مسألة الوجود عنده، ومسألة المسؤولية لديه.

ما معنى كلامهم هذا؟

إنهم ينسبون العبث واللهو إلى خلق الله! فهل عملية الخلق هي لمجرد أن تثير الانفعالات المرضية في النفس من خلال ما تتوزعه من حركات ومشاهد وأوضاع، وتخلقه من الأجواء اللاهية ثم تنتهي المسألة؟ وليس هناك إلا اللهو الذي يملأ الفراغ، ويثير الإحساس.. ولا يترك وراءه أي شيء في طبيعة الواقع، وحركة الوجدان؟!

ولماذا يعبث الله أو يلعب أو يلهو، لينسبوا ذلك إليه؟!

إن هذه المعاني وليدة حاجة للإثارة، ولملء الفراغ الذي يعانيه اللاعب أو اللاهي، وللتخلص من حالة السأم والملل التي يعيشها، مما لا يطيق معه الطمأنينة إلى الهدوء النفسي والسلام الروحي، فيلجأ للعب واللهو، ليلقى عندها بعضاً من الهدوء..

ما يدّعيه هؤلاء هو من صفات المخلوقين الذين يعيشون الحاجة والفقر والفراغ والسأم والملل والارتباك، فيتخلصون من ذلك بالعمل تارة، وباللهو واللعب أخرى.. وهذا ما يجعل المسألة في أجواء المستحيل العقلي على الله، ويجعل نسبة ذلك إليه عدواناً على مواقع عزته وجلاله، ويوحي بالتخلُّف الفكري والسقوط الروحي اللذين يتمثلان في شخصية هؤلاء المتحدثين بهذه الطريقة، ويدلل على أنهم لم يفهموا طبيعة الأسس والقوانين الإلهية التي تحكم الكون كله، ما يجعل لكل ظاهرة قانوناً، ولكل حادثة سبباً..، وهذا ما أرادت هذه الآيات أن تثيره أمام الإنسان في تصويرها للمفاهيم الخاطئة المنحرفة المتخلفة التي كان يعيشها الناس في عهد الدعوة الإسلامية، ويواجهها الدعاة إلى الله في كل زمانٍ ومكانٍ في مجتمعاتهم المتخلفة.

* * *

غايـة الخلـق

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} إنه النموذج الأمثل على الجد الذي لا جدّ مثله، وعلى الحكمة التي تمتد إلى كل خصوصيات الأشياء، وتنفذ في أعماقها، حتى تجد أن هناك خطةً دقيقةً لهندسة الكون من بدايته إلى نهايته، في استقراره واهتزازه، وفي ضعفه وقوته، وفي نموّه وتطوّره، في الظواهر الكونية والاجتماعية، في ارتفاع المجتمع وسقوطه، وفي الحالات النفسية التي تحكم حركة الإنسان الداخلية، وفي تأثّره بما حوله من الكائنات الحية والجامدة. وهكذا يجد المفكر الباحث في داخل وجدانه، إحساساً عميقاً بأن وراء كل شيء في الوجود سرّاً وحكمةً، ولذا فإن المشكلة المطروحة لديه ليست هي البحث عمّا إذا كانت الحياة خاضعةً لحكمة أو أنها مرتكزة على أساس الصدفة أو الفوضى، بل المشكلة هي في اكتشافه نوعية الحكمة، وطبيعة السرّ، بعد أن كان وجوده من بديهيات الكون، من ناحية المبدأ.

ولهذا فإن القضية التي تتحدث عنها الآية تتحرك لتأكيد نفسها في الوجدان العميق، في خطين:

الأول: هو استحالة نسبة اللعب إلى الله لأنه لا يتناسب مع حكمته، ولا يليق بجلاله، ولا معنى له، إذ يمثل اللعب حاجة ذاتية لملء الفراغ والحصول على الراحة النفسية مما لا يتناسب مع عظمته ـ سبحانه ـ وغناه المطلق عن كل شيء، وتنزيهه عن كل نقاط الضعف مهما صغرت.

الثاني: هو الدراسة الدقيقة للظواهر العامة في الكون والحياة والإنسان التي توحي بأن الأرض خاضعة للتخطيط الدقيق في عمق الجدية الحكيمة لأسرار السُّنّة الإلهية، وبأن السماء والفضاء الذي يفصل بينها وبين الأرض ـ فيما اكتشفه الإنسان منهما ـ خاضع لمثل ذلك، ما جعل الهاجس الذي يحسّ به العلماء والمكتشفون في ملاحظاتهم الدقيقة للظواهر، هو البحث عمّا وراء ذلك الذي يحسون بوجوده، بالفطرة والملاحظة، ويعملون على معرفة كنهه.

{لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاتّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} أي مما نملك من قدرة مطلقة، تمنح الأشياء وجودها، {إِن كُنَّا فاَعِلِينَ} ولكننا لم نتخذ ذلك ولم نرده، لأننا لا نتخذ شيئاً إلا من مواقع الحكمة التي تخضع لها كل أفعالنا في حركة الوجود السلبية والإيجابية. فليس الأمر، إذا لم نفعله، هو النقصان في القدرة، بل الأمر، هو ابتعاد ذلك عما يتناسب مع مقام الألوهية في حكمته وغناه وقوته التي لا ينفذ إليها شيء من الضعف.

وقد اعترض صاحب الميزان على هذا التفسير الذي تعرّض صاحب الكشاف لبعض ملامحه، «وفيه أن القدرة لا تتعلق بالمحال واللهو ـ ومعناه ما يشغلك عما يهمك بأي وجه وجّه ـ محال عليه تعالى. على أن دلالة {مِن لَّدُنَّآ}على القدرة لا تخلو من خفاء»[1].

ويمكن أن يرد ذلك، بأن التفسير يرتكز على أساس أن الله لو أراد أن يفعله لما كان هناك أي ضعف في قدرته، مانع من حصوله، ولكن طبيعته لا تتناسب مع كماله وجلاله، وبذلك يكون التعبير وارداً على أسلوب الكناية، في تصوير رفض المسألة من ناحية المبدأ، بحيث لو كان ممكناً لكان مرفوضاً، وهكذا يمكن رد استبعاده لدلالة كلمة {مِن لَّدُنَّآ} على القدرة، فإنها واردة أيضاً على سبيل اختزان الكلمة للقدرة من خلال دلالتها على ما عند الذات الإلهية من القدرة المطلقة. والله العالم.

وهكذا نجد أن الله لم يخلق الحياة في السماء والأرض وما بينهما لاعباً، ولو شاء ذلك لكان قادراً عليه، كقدرته على كل الأشياء، ولكنه لم يشأ ذلك ولم يرده، لأنه أراد للحياة أن تخضع للحق في كل مظاهرها وحركاتها بحيث يقف ـ بقوة ـ ضد الباطل.

* * *

الحق يدفع الباطل

{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} إذ يريد الله للحق أن يحتوي الحياة كلها من خلال ما أودعه فيها من أسرار، وشرائع أنزلها على رسله، أو من خلال الفطرة الكامنة في أعماق الوجدان الإنساني، والعقل المرتكز في كيانه، فيعطي للحق معناه وفاعليته وقوّته، ويمنع الباطل أن يفرض نفسه على منطق الحياة والوجود، لأنه لا يملك عناصر البقاء في ذاته، بل يعيش القوة كحالة طارئة محكومة للأوضاع الخارجية المحيطة به. وبذلك، لا بد أن تنتهي حركة الصراع فيما بينهما بأن يُسقط الحق الباطل، فيفجره من الداخل، بضربةٍ قويّةٍ في نهاية المطاف، {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أمام الحجة القاطعة القوية التي لا تمنح الواقع الفرصة للخلود، وأمام تفاصيل الوجود التي لا يمكن للحق معها أن يسمح للباطل بالنفاذ إلى عمق الوجود. وهكذا تكون النتيجة في النهاية لصالح الحق، كما كانت البداية له أيضاً، ما يجعل مسألة الجدية التي هي المظهر الأعلى للحق في معناه وحركته، قانوناً ثابتاً في الكون. وبذلك كانت قضية المعاد، بما تمثله من الهدف الكبير لحركة الإنسان في الحياة، ضرورةً عقليةً وكونيّة، في ما أرسله الله من رسالات، وبعث من رسل، بالرغم من كل الكلمات اللامسؤولة، والخيالات المنحرفة التي يثيرها الكافرون والضالون، {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} من كلمات الكفر والضلال المتمثلة بجحود أمر الرسالة والمعاد من دون حجةٍ ولا برهان.

إن المسألة التي تفرض نفسها في صراع الحق والباطل، هي أن الحق يحمل في داخله عناصر البقاء من حيث انسجامه مع حاجة الحياة، وطبيعة الأشياء، بينما يمثل الباطل في حركته ووجوده، الظروف الاستثنائية الطارئة التي قد تتغذى من أكثر من جهة.

ولهذا فقد يكون من الضروري للعاملين في ساحة الصراع أن يحددوا العناصر المحقة الثابتة لأي موضوع، وأن يدرسوا الظروف المتصلة به من حيث علاقتها بالصورة والموقع والعمق والامتداد، لأنها ربما تغير طبيعة الأشياء، فمسألة الحق والباطل قد تكون نسبية في ما يتعلق بالواقع المتحرك للإنسان، إذ قد يكون الشيء حقاً في زمان أو في موقع، وباطلاً في زمان أو في موقع آخر، تبعاً لحركة المتغيرات من حوله، حتى لا نقع في سوء التقدير أو الفهم للقضايا عندما نواجه الأمور في دائرة المطلق، فيخيل إلينا أن الحق باطل والباطل حق، لأننا لا نملك مقياس العناصر الثابتة والمتحركة في هذا المجال.

وقد ينبغي لنا أن نواجه الظروف الطارئة التي تمنح الباطل قوة على مستوى الأوضاع والساحات والأشخاص والأزمنة، لنعرف كيف نحرك الصراع في مواجهتها، من حيث النظرة إلى طبيعة الفكرة والظروف، حتى نحدِّد الأدوات التي نستعملها في هذا المجال أو ذاك، لئلا نخطىء من حيث نريد الإصابة، أو نعتبر الإصابة حركة في مواقع الخطأ.

وربما كان من مشاكل الساحة العملية، هذه النظرة المطلقة للحق والباطل، ما يجعل المسألة في دائرة المثال، فيبتعد بنا عن الدائرة الواقعية التي تتغيّر فيها ملامح الأشياء تبعاً لتغير ملامح الظروف المحيطة بها؛ ثم هذا الاستغراق في عمق الباطل في النظرة بعيداً عن الأجواء والأوضاع المحيطة به التي تعطيه قوة في ذاته، أو تزيده قوة على قوة، قد يدفعنا إلى الكثير من الارتباكات والانحرافات في التحرك نحو الأهداف الكبيرة في مواقع التحدّي في المعركة.

ومن خلال ذلك، نستطيع أن نفهم كيف يمكن انتصار الحق على الباطل على أساس الأخذ بأسباب النصر، بما نفهمه من طبيعتها وأدواتها وأساليبها والمدى الزمني الذي يجب أن تقطعه، كما نعرف من خلاله الأسباب التي تكمن وراء الهزائم الكبيرة التي تصيب الحق وفي أكثر من موقع ابتعد فيه العاملون عن فهم الأسباب الحقيقية لعوامل الصراع.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:14، ص:261.