تفسير القرآن
الأنبياء / من الآية 19 إلى الآية 25

 من الآية 19 الى الآية 25

الآيــات

{وَلَهُ مَن في السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ* أَمِ اتَّخَذُواْ آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ* لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ* لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ* أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ* وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} (19ـ25).

* * *

معاني المفردات

{يَسْتَحْسِرُونَ}: الاستحسار: الانقطاع عن الإعياء.

{يَفْتُرُونَ}: من الفتور، لا من الافتراء، والفتور: السكون.

* * *

العبودية المطلقة لله

.. ويستمر الحديث عن الله في دائرة التوحيد المطلق الذي يُطلّ على الوجود كله، بكل ما فيه من موجوداتٍ ومخلوقاتٍ، ليوحي بالعبودية المطلقة الناشئة من الملك المطلق الذي يحتويهم جميعاً، فلا أحد إلاَّ وهو مخلوقٌ له، ولا شيء إلاَّ وهو مملوك له، وبذلك فلا مجال لأن يتألّه أحد أمام الله، في ما يدّعيه لنفسه، أو يدّعيه له الآخرون، بمجرد أنه يعيش في ذاته الإحساس بالحاجة المطلقة، والخضوع العميق بطريقة الممارسة العملية، أو بطبيعة ما يختزنه من شعور.

{وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} هم خاضعون لإرادته لا يملكون من دونه لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وله أن يتصرف بشؤونهم بما يريد وكيف يريد. {وَمَنْ عِنْدَهُ} الذين يعيشون في مواقع القرب من رضوانه من الملائكة المقربين، {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} لأنهم يرون العبودية له أمراً طبيعياً راسخاً، ويرون العبادة التي هي مظهر الاعتراف الحيّ بالعبودية، لازمةً له في معناها، ولهم في ذاتهم، فهم خاشعون له منسحقين أمام عظمته، {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} أي لا يعتريهم إعياء ولا كلال مهما امتد بهم الزمن، أو كبر حجم العبادة، أو كثر عددها، لأنّ وعيهم الوجداني والروحي لعلاقتهم بالله يجدّد نشاطهم، ويقوّي روحانياتهم، ويبعث فيهم روح التجدّد.

{يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ} في شعورٍ مستمر بالعظمة المطلقة التي تدفع بهم إلى الإعلان الدائم، والذكر المستمر المتحرّك، {لاَ يَفْتُرُونَ} أي لا ينقطعون عنه أبداً. {أَمِ اتَّخَذُواْ آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} ويحيون الموتى، وكيف يساوون بين المخلوقين والخالقين؟ وهل هذا إلاَّ وهمٌ بائسٌ مريضٌ، صادر عن عقليةٍ متخلّفةٍ لا تملك الفهم الواعي لقضايا العقيدة والشريعة؟ فإذا كان هؤلاء من مخلوقات الأرض التي تموت، ثم يبعثها الله وينشرها، فكيف يكونون آلهةً يمنحون الحياة للآخرين، وهم لا يملكون أن يمنحوها لأنفسهم، بمنع الموت عنها أو بعثها من جديد؟ ثم هل تملك الفكرة التي ينطلقون منها وهي تعدد الآلهة أساساً من عقلٍ وفكر، بقطع النظر عن طبيعة الأشخاص الذين يعتبرهم الناس بهذه الصفة؟ إن الفكرة لا تملك احتراماً عقلياً يمكن الركون إليه في تصور الأشياء.

* * *

تعدد الآلهة يستلزم الفساد

{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إن الكون يتحرك بطريقة متوازنة دقيقة في كل مجالاته وظواهره، الثابتة والمتحركة، حتى في الأمور التي يعتبرها الناس مظهر خللٍ في حركة الواقع، أو حالة تمرّدٍ في الطبيعة، فإنها تخضع لضوابط وقواعد، تمنعها من الذهاب بعيداً في نتائجها السلبيّة، وتقرِّبها من الاتصال بالنتائج الإيجابية في حركة الوجود الكوني من جهة أخرى؛ وذلك في مثل الفيضانات والبراكين والزلازل والعواصف ونحوها.

وهكذا نجد ذلك متمثلاً في حركة المجتمعات البشرية والحيوانية في جميع الأسس التي ترتكز عليها في ولادتها وفنائها، وفي ارتفاعها وسقوطها، فلا مجال للفساد في ما يحيط بها من ظروف وقواعد وأحكام.

إنه الدليل على القوة الواحدة الحكيمة القاهرة التي تخلق الشيء بحساب، وتحركه بنظام، وتفنيه بقاعدة، في إدارة حكيمة تشمل الكون كله، وهو الدليل على وحدانية الله. ولو كان الأمر كما يقول المشركون الذين يقولون بالتعدُّد في خلق الكون، أو في تدبيره، لما كان هذا الأمر ممكناً، لأن طبيعة التعدُّد في الذات الإلهية الخالقة المدبّرة تفرض اختلافاً في الإدارة وتنوّعاً في التدبير، ما يؤدّي إلى التجاذب والتنازع والاختلال عندما يريد أحدهما شيئاً لا يريده الآخر، أو يريد خلافه، فإن ذلك يبطل الوجود إذا كان ذلك متعلقاً بالخلق، أو يعطل حركته إذا كان مرتبطاً بالتفاصيل، لأنَّ التعدد في الألوهية يفرض التوازن في القدرة، في ما يقتضيه من القدرة المطلقة للإله المطلق.

وقد يفرض البعض إمكانية التكامل في التخطيط والتدبير، كما قد يحدث عند بعض المخلوقين الذين يتكاملون في الإشراف على بعض الأعمال أو الأوضاع، من دون أن يؤدي التعدد إلى الاختلال، بل ربما قد يؤدّي إلى التوازن في إغناء التجربة بالقدرة المتنوعة.

ولكن ذلك قد يتمّ في بعض الأمور، ولا يتم في جميعها، وقد يحصل في داخل النظام الذي يخضع له هذا الشخص أو ذاك، في ما يمكن أن يؤثر في نموّ العقل هنا أو هناك، ولكن ذلك لا يتم في مستوى الآلهة التي لا تتأثر بالنظام الذي يحكمها من الخارج ليمكن فيه التكامل في التفكير، بل هي التي تخلق النظام وتصنعه، فكيف يمكن أن يتوحّد تدبير الآلهة من خلاله، وبذلك يكون التعدد في الذات أساساً للتعدد في خصوصيات الخلق وبالتالي في حركة الإيجاد. وإلاّ لم يكن للتعدد معنىً أو ضرورة ما دامت المسألة لا تخضع لما هو خارج عن الذات، بل لما هو داخل في عمق طبيعتها، وفي ذات التعدُّد.

وعلى ضوء ذلك، فإن الدليل لا يتحرك من منطق جدليٍّ فلسفيٍّ، بل ينطلق من عمق الحقيقة الواقعية للكون وللتعدُّد وللفساد.

* * *

سلطة الله المطلقة

{فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ} الذي يملك الكون كله في أعلى مواقعه ومظاهره، من خلال ما يمثله العرش من السلطة المطلقة المهيمنة على الوجود بجميع مجالاته، فكيف ينسب إليه المخلوقون شريكاً له في الخلق والقدرة والتدبير، فيبتعدون بذلك عن موقع جلاله ومجالات عظمته، فتعالى الله {عَمَّا يَصِفُونَ} مما يتصل بصفات المخلوقين التي ينسبونها إلى الخالق القادر القاهر الجبّار الذي {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ} لأنه هو الذي يملك الهيمنة على الكون كله بجميع مخلوقاته، فمن هو الذي يسأله عن أمره وفعله، أو يعترض عليه في تدبيره، ومن هو الذي يحيط بالأشياء، كما يحيط الله بها، ومن هو الذي يعرف أسرارها، في ما يجب أن يحدث أو ما ينبغي ألاّ يحدث، أمام الله، وهو الحكيم المطلق الكلي الحكمة الذي لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو الحق في ذاته وهو الحق في خلقه وتدبيره وفعله.

إنها الكلمة التي تعبِّر في أسلوب كنائيٍّ تعبيريٍّ عن السلطة المطلقة، والإشراف المطلق، لأن من خصوصيات ذلك ألاّ يكون مسؤولاً أمام أحد في كل شيء، فليس لأحد أن يقول له لِمَ وكيفَ، فله أن يفعل ما يشاء، ويترك ما يشاء كيف يشاء من دون حسيبٍ ولا رقيب. أما الآخرون كل الآخرين، مهما بلغوا من الحجم في القوّة والكثرة والنوعية، فهم مخلوقون له، خاضعون لقوّته وإرادته، فلا يملكون أن يفعلوا شيئاً إلاّ برضاه، ولا تتحرك إرادتهم إلاّ من خلال إرادته. ولذلك فإنهم مسؤولون أمامه عن كل شيء، فعليهم أن يقدّموا تفسيراً عن كل كلمة، وعن كل عمل، وأن يطلبوا الإذن في ذلك كله، فيأخذوا الرخصة منه، وذلك هو الفرق بين الخالق والمخلوق، وبين الإله والمألوه، والسيد القادر القاهر والعبد الضعيف المقهور الذي لا يقدر على شيء، فكيف يمكن أن يكون غيره إلهاً معه من دون أن يكون له أيّة صفة من صفات الإله؟!

* * *

وحدانية الله

{أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً} صنعوها بأيديهم، أو منحوها الهالة القدسية بأوهامهم، وكيف فعلوا ذلك؟ وما الأساس الذي اعتمدوا عليه؟ {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} لأن العقيدة لا بد أن تخضع للحجة القاطعة التي تملك على العقل قناعاته، فأين هو البرهان من ذات الإله وصفاته، أمام الإله الحق الذي دل على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته.

وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه واحد

فإذا كان لكم برهان فقدّموه.. ولكنكم لم تقدموا شيئاً يدلّ على ذلك، بل قام الدليل على خلافه، لا سيما وأن الكتب السماوية تنفي وجود إلهٍ آخر غير الله، وتؤكد وحدانيته، {هَـذَا ذِكْرُ مَن مَّعِي} وهو القرآن النازل عليّ من الله، {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} من الكتب النازلة على موسى(ع) وعيسى(ع) التي تتحدث عن الإله الواحد في مواجهة عقيدة الشرك، فهل تجدون فيها أيّ إشارة إلى أيّ شريك لله كما تزعمون؟ وهل هناك كتاب آخر قد أنزله هذا الإله على الناس؟ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} ولا يملكون الرؤية الواضحة للأشياء، لأن الغفلة قد سيطرت على عقولهم، ولذلك فإنهم لا يملكون القاعدة التي تميّز بين الحق والباطل، ولا يملكون الذهنية التي تقودهم إلى العقيدة الحاسمة في ذلك كله، {فَهُمْ مُّعْرِضُونَ} عن كل دعوة للتوحيد وعن كل دليل يؤكد الدعوة.

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ} في خطاب مستمر موجّه إلى الناس كافّةً، في إعلان حاسم لعقيدة التوحيد، باعتبار أنها العقيدة الصحيحة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وفي دعوة لتأكيد هذه العقيدة في حركة الإنسان في الحياة من خلال ما يتعبّد به المتعبّدون، ويمارسه المطيعون، وذلك بعبادة الله وحده في نداءٍ ينطلق من الله بالذات، من موقع الألوهية الحقّة المهيمنة على الأمر كله، {لا إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ} في ما تفكرون به، وتعيشونه من شرائع وأوضاع وعلاقات، وفي ما تخضعون له من انتماءات.