تفسير القرآن
الأنبياء / من الآية 30 إلى الآية 33

 من الآية 30 الى الآية 33

الآيــات

{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ* وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ* وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِهَا مُعْرِضُونَ* وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الَّليْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (30ـ33).

* * *

معاني المفردات

{رَتْقاً }: الرتق: الالتئام والالتحام.

{فَفَتَقْنَاهُمَا}: الفتق: ضد الرتق، أي الفصل والانفصام.

{رَوَاسِيَ}: الرواسي: الجبال.

{تَمِيدَ}: الميد: الاضطراب.

{فِجَاجاً}: الفجّ: الطريق الواسع بين الجبلين.

{فَلَكٍ}: مدار كل من الشمس والقمر والكواكب.

* * *

الله سبحانه يفتق رتق السماوات والأرض

ويبقى التوحيد المطلق هو ما تريد السورة أن تعالجه وتؤكده من خلال توجيه الإنسان إلى التفكير في خلق الله، هذا التفكير الذي يوصله إلى الدليل على وحدانية الله في قدرته وعظمته، في السماء والأرض، {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بالله، أو بتوحيده في الخلق وفي التدبير، من خلال ما يشاهدونه في الكون، ويرونه بعقولهم، {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} أي مضمومتين ملتحمتين، إمّا في اتصال بعضهما ببعض، بحيث يكون المدلول أنهما كانتا تمثلان جسماً واحداً، أو في داخل كل واحدة منهما بحيث تكون مضمومة في أجزائها، لا يتخللها أية ثغرة، {فَفَتَقْنَاهُمَا} ففصلناهما، أو فصلنا كل واحدة منهما في أجزائها. وقد اختلف التفصيل التطبيقي للفتق والرتق، في ما تعنيه الآية، أو تشير إليه، فقد ذكر بعض المفسرين كما جاء في تفسير الميزان:

«لا نزال نشاهد انفصال المركبات الأرضية والجوية بعضها من بعض، وانفصال أنواع النباتات من الأرض، والحيوان من الحيوان، والإنسان من الإنسان، وظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار وخواص جديدة، بعدما كان متصلاً بأصله الذي انفصل منه غير متميز الوجود ولا ظاهر الأثر ولا بارز الحكم، فقد كانت هذه الفعليات محفوظة الوجود في القوة، مودعة الذوات في المادة، رتقاً من غير فتق، حتى فتقت بعد الرتق، وظهرت بفعلية ذواتها وآثارها.

والسماوات والأرض بأجرامها، حالها حال أفراد الأنواع التي ذكرناها، وهذه الأجرام العلوية والأرض التي نحن عليها، وإن لم تسمح لنا أعمارنا على قصرها أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية التي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها، لكن المادة هي المادة، وأحكامها هي أحكامها، والقوانين الجارية فيها لا تختلف، ولا تتخلّف.

فتكرار انفعال جزئيات المركبات والمواليد من الأرض، ونظير ذلك في الجو، يدلّنا على يوم كانت الجميع فيه رتقاً منضمة غير منفصلة من الأرض، وكذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء والأرض، وكانت الجميع رتقاً ففتقها الله تحت تدبير منظم متقن ظهر به كل منها على ما له من فعلية الذات وآثارها.

فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلوية والسفلية كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع. وقد قربت الأبحاث العلمية الحديثة هذه النظرة، حيث أوضحت أن الأجرام التي تحت الحس مؤلفة من عناصر معدودة مشتركة، ولكل منها بقاء محدود وعمر مؤجّل وإن اختلفت بالطول والقصر»[1].

وقد توضح هذا المعنى النظرية القائمة وهي أن المجموعات النجمية، كالمجموعة الشمسية وتوابعها، ومنها الأرض والقمر، كانت سديماً ثم انفصلت وأخذت أشكالها الكروية، وأن الأرض كانت قطعة من الشمس ثم انفصلت عنها وبردت. أمّا تعليقنا على ذلك، فهو أن الفكرة طريفةٌ ودقيقةٌ، ولكنها لا تقترب من الحالة الوجدانية التي يريد الله للإنسان أن يعيشها في تجربته الذاتية، في ما قد يكون له بعض من العمق، ولكنه يكون قريباً من الحسّ، من خلال ما يمكن له أن يلتقي فيه، عن طريق المشاهدة بالفكرة. هذا بالإضافة إلى أن استنتاج فكرة الرتق والفتق لما كانت عليه السماوات والأرض من التصاق، من خلال انفصال المركبات الأرضية والجوية بعضها من بعض، وانفصال أنواع النباتات من الأرض، والحيوان من الحيوان، والإنسان من الإنسان، لا يخلو من غموض وخفاء، لأن اعتبار المسألة من خصوصيات المادة لا من خصوصيات العناصر الذاتية أو النوعية للأشياء، غير واضح.

أما النظرية العلمية، فلا نستطيع إخضاع القرآن لها، لأنها لا تمثل الحقيقة الحاسمة. وهناك تفسير آخر مرويّ عن الإمام محمد الباقر (ع) ، في رواية «أن عمرو بن عبيد وفَدَ على محمد بن علي الباقر(ع) لامتحانه بالسؤال عنه، فقال له: جعلت فداك، ما معنى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَواَتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} ما هذا الرتق والفتق؟ فقال أبو جعفر(ع): كانت السماء رتقاً لا تنزل القطر، وكانت الأرض رتقاً لا تخرج النبات، ففتق الله السماء بالقطر، وفتق الأرض بالنبات[2].

وهذا المعنى أقرب من الأول، لأن الفتق في الموجودات من الأمور الحادثة الطبيعية من خلال ما يشاهده الإنسان من طريقة انفصال النبات عن الأرض، أو نزول المطر من السماء، ما يمكن أن يوحي بأصل الحدوث في المبدأ، من خلال ملاحظة الحدوث في ما يتمثل فيه الفتق والرتق في حركة الأرض والسماء في مواسم المطر والنبات. هذا مع ملاحظة اقترابه من الفقرة التالية: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي} التي هي بمثابة النتيجة للفتق الأرضي والسماوي، الذي ينزل من خلاله الماء من السماء، ويتفجر من الأرض، فيخرج منه النبات.

* * *

دلائل وحدانية الله

{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فقد خلقه الله ليكون عنصراً حيوياً في ارتباط الحياة به، سواء في ذلك الإنسان والحيوان والنبات وغيرهم مما أثبتته الأبحاث العلمية الحديثة، سواء في أصل الوجود أو في استمراره..

{أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} من خلال ما تثيره هذه الظاهرة من أفكار ومشاعر، وما تفتحه من آفاق للمعرفة، في القوة الحكيمة المدبّرة الخالقة للأشياء، ومما يجعل من الإيمان بالله حالة فكرية ووجدانية يتحرك نحوها الإنسان بفطرته التي تحرك النظر وتوحي بالفكر.

{وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} وهي الجبال التي تحفظ توازن الأرض واستقرارها مما قد يختلف طبيعته، فقد يكون من خلال التوازن بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها، مما تختلف فيها المواقع في أنحاء الأرض، وقد يكون بروز الجبال في مكان من الأرض معادلاً لانخفاض الأرض في موضع آخر، وقد يكون هناك أشياء أخرى، مما يتم به التوازن مما قد يكتشفه العلم بطريقة أو بأخرى.

{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فلم نجعلها ـ أي الجبال ـ مغلقة أمام السائرين السالكين الذين يتحركون فيها ليصلوا ـ من خلالها ـ إلى غاياتهم، بل جعلنا في داخلها فجوات وثغرات بين حواجزها العالية، لتكون طرقاً وسبلاً، ليهتدوا من خلال ذلك إلى مقاصدهم، وليهتدوا إلى الإيمان بالله عندما يدرسون ما في ذلك من دلائل على وجود الله.

{وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً} وذلك بما يتمثله الناس من صورة السماء بالنسبة إلى الأرض، في ما يشبه السقف على أساس إعطاء الفكرة من خلال الصورة الظاهرة؛ أما صفة الحفظ، فقد تكون بمعنى الحفظ من استراق السمع، الذي يذكر القرآن أنّ الجنّ كانوا يمارسونه في وقت ما، وقد تكون بمعنى الحفظ من بعض حالات الخلل الذي قد يحدث في بعض أنحاء الكون كالأرض، من زلازل وبراكين وفيضانات، ما يوجب انهدام جزء منها، أو تصدعه، أو غير ذلك من المعاني {وَهُمْ عَنْ آياتِهَا مُعْرِضُونَ}.

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الَّليْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} لتنطلق الحياة في الأرض في نظام دقيق يمنحها الدفء والحركة والاستقرار، من خلال ما يمثله الليل والنهار من تنظيم الحياة الإنسانية في حركة المعاش واسترخاء النوم والهدوء، وما يمثله الشمس والقمر من حركة كونية في إدارة أوضاع النمو والحياة، ولكل منهما دائرةٌ محدودةٌ مضبوطةٌ يتحرك فيها نظامه، من دون أي خلل أو انحرافٍ أو تجاوزٍ للحدود، في ما قدره الله لهما من أوضاع وحدود في أجواء الأرض، مما يحيط بها أو يطل عليها من أنظمة وظواهر لتمتد بها الحياة في شروطها الضرورية.

ــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج :14، ص:279 ـ 280.

2) البحار، م:2، ج:4، ص:261، باب:1، رواية:10.