من الآية 34 الى الآية 36
الآيــات
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ*كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ* وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُون} (34ـ36).
* * *
كل نفس ذائقة الموت
.. وكانوا إذا ضاقوا بالنبي ذرعاً، فَلَم يستطيعوا أن يهزموا موقفه، أو يُسقطوا حجته أو يقابلوا دعوته، تمنوا له الموت، لتنتهي قصة الصراع معه بموته، ليخلو لهم الجو لعبادة الأصنام، وحماية امتيازاتهم وعاداتهم وتقاليدهم التي جاء الإسلام من أجل أن يستبدلها بعادات وتقاليد جديدة، تنسجم مع مبادىء الإسلام في حياة الناس.
وأنزل الله آياته التي تناقش هذه التمنيات وتحاصرها في الدائرة: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} فقد خلق الله الناس في آجال محدودة، لا يملكون الامتداد في الحياة إلى ما هو أبعد منها، من دون فرق بين الأنبياء وغيرهم، فليس للمقربين عند الله أي امتياز في هذا الجانب، إذا كان لك امتياز في النبوة أو غيرها من خلال درجات القرب إليه، فستموت كما مات من قبلك، وسيموت من بعدك من هؤلاء وغيرهم، {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ليخططوا ما شاؤوا من الخطط الممتدة في المستقبل بعيداً عنك، في مواجهة دينك، لذلك فإن كل هذه التمنيات في انتظار موتك لا تنفعهم في شيء، فقد يموتون قبلك، وقد يموتون معك، ومهما امتدت بهم الحياة بعدك فسيموتون إن عاجلاً أو آجلاً.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} والمراد بالنفس، الذات الإنسانية التي تتعلق بها الحياة عندما تدب الروح في الجسد، وتموت عندما تخرج منه. وهذا قانون عام من القوانين الكونية التي أودعها الله في الحياة، وبذلك كانت الفرصة الوحيدة التي يمكن للإنسان أن يرتفع بها إلى أسمى الدرجات عند الله، من خلال ما يقدمه من عمل صالح مرتكز على خط الإيمان.
* * *
بلاء الخير والشر
{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} بما يمثله البلاء من امتحان لكم في ما تعيشونه من فكر إيماني، وملكة روحيّة، من خلال الأوضاع المتقلبة من فقر أو غنى أو مرض أو صحة أو خوف أو أمن، وما إلى ذلك من شؤون الشر والخير، ليظهر قوة الإيمان في النفس أو ضعفه فيها من مواقع حركة الصراع في الحياة بين الخير والشر في نفوسكم، {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} لتقفوا في مواقف الحساب الذي لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها.
{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} لأن مقاييسهم في تقويم الأشخاص ليست هي الكفاءات العلمية، والملكات الروحية والعقلية التي يملكها الإنسان، للحصول على احترامهم الذاتي والاجتماعي، بل هي الامتيازات المالية أو الطبقية، أو غير ذلك مما يتصل بالأمور الخارجة عن الذات، مما يستعيره الإنسان من نسبه أو ماله أو موقعه الاجتماعي، وبذلك فإنهم ينظرون إلى الرسول(ص) نظرة سخرية وهزء، لأن مستواه الاجتماعي في دعواه للنبوة تحتاج إلى مركز كبير ورفيع، وهذا ـ في نظرهم ـ لا يتناسب مع فقره ويتمه وفقدانه للمقومات الطبقية المرموقة في عرفهم، {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} ويهاجمها ويعمل على إبعاد الناس عن عبادتها، في الوقت الذي لا يملك أي موقع يسمح له بذلك؟
{وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ} لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا برسالاته، ولذلك فإنهم يتنكرون لرسله، ويستصغرون قدرهم، ولا يفهمون طبيعة العلاقة بين الرسالة والرسول في ما يفرضه المعنى الروحي للنبي، بعيداً عن المعاني المادية للإنسان وللمجتمع.
تفسير القرآن