من الآية 37 الى الآية 47
الآيــات
{خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ* وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ* لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ* بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ* وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ* قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ* أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ* بَلْ مَتَّعْنَا هَـؤُلاءِ وَآبَآءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ* قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْي وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ* وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا ويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ* وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (37ـ48).
* * *
معاني المفردات
{لاَ يَكُفُّونَ}: لا يدفعون، يقال: كففته عني: أي دفعته ومنعته.
{فَحَاقَ}: نزل.
{يَكْلَؤُكُم}: يحرسكم، يحفظكم.
{يُصْحَبُونَ}َ: يجارون، يقال: أنا صاحب لك من فلان، أي مجير لك منه.
{نَفْحَةٌ}: النفحة: الوقعة من العذاب.
{الْقِسْط}: العدل.
{حَاسِبِينَ}: حسب يحسب حسباً: أحصى.
* * *
خلق الإنسان من عجل
{خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} تلك هي مشكلة هؤلاء في سلوكهم أمام الرسالة والرسول، إنها مسألة العجلة، التي تمنع الإنسان من التفكير الهادىء العميق الذي يحدد له حسابات الحاضر والمستقبل في نتائجها السلبية والإيجابية في قضية المصير، فيحاول أن يواجه المواقف التي تحذره من المشاكل الصعبة التي تنتظره كنتيجة لكفره بالرسالة التي يحملها الرسول بطريقة انفعالية استعجالية لا تعبأ بالعواقب، ولذلك فإنهم يستعجلون الآيات التي يقترحونها من دون إبداء الاستعداد للإيمان بها، الأمر الذي يؤدي إلى إنزال العذاب بهم في نهاية المطاف.
{سَأُوْرِيكُمْ آياتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} مما يوحي به ذلك من عذاب نار جهنّم الذي هو النتيجة الطبيعية للكفر، في ما جعله الله من ملازمة بين العذاب ونزول الآيات، فلماذا العجلة؟ وما مكاسبها على مستوى حياتكم في دنياكم وآخرتكم؟
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في كلمة تحدٍّ وتعجيز للنبي والمؤمنين في تحديد يوم القيامة الذي يعرفون أو يحسون بأنه لا يملك أمر تحديده، لأنه من أمر الله الذي اختص بعلمه، وكأنهم يهدفون من خلال ذلك إلى إثارة الحَيْرة والقلق والشعور بالضياع في إيمان المؤمنين.
* * *
جاءهم العذاب بغتة
إنهم يتساءلون عن يوم القيامة، ولكن هل يعرفون ماذا ينتظرهم في ذلك اليوم؟ {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} فلا يملكون لها دفعاً عندما تواجههم من بين أيديهم ومن خلفهم، {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} لأنهم لا يجدون أحداً من هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله، لينصروهم من عذاب الله، {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً} بشكل مفاجىء {فَتَبْهَتُهُمْ} وتقودهم إلى الحيرة، فلا يعرفون ماذا يفعلون أمامها، وهي تهاجمهم من كل مكان {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} عنهم لأنهم لا يجدون أية جهة، مما حولهم، تحميهم من لهيبها، {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أية لحظة يتخففون منها.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} بكل الأساليب العابثة التي توحي بالاحتقار والسخرية، {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ} وحل بهم {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ} من العذاب الذي توعدّهم به الأنبياء، فها هم يواجهونه ولا يستطيعون فكاكاً عنه، {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} ومن الذي يتولى حفظكم ورعايتكم من كل ما يمكن أن يأتيكم بالليل والنهار من أهوال الدنيا وبلائها؟ ولكنهم لا يتوقفون أمام علامات الاستفهام التي تتحدى جمودهم وانحرافهم وعصيانهم، فلا يلتفتون إلى ما تثيره في حياتهم من قضايا ومواقف للوعي والحذر، {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ} فلا يعيشون عظمة الله في وجدانهم، ولا يفكرون في نتائج انصرافهم عن ذكره في مصيرهم، فيهربون من واقعهم الفاعل، إلى الواقع اللاهي العابث دون تحمّل أيِّ مسؤولية أمام ما يواجهونه من مصير. ولكن الذين يعرضون عن الله لا بد أن يفكروا بالحماية التي تنقذهم من عذاب الله، في ما يملكون من قوة للدفاع، ولو فكروا لما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. وهذا ما أراد القرآن أن يثيره أمامهم زيادة في إثارة شعورهم بالإحباط.
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} لأنهم الضعفاء المخلوقون لله، الخاضعون لإرادته، {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} ويحفظون أنفسهم من الله. والاستفهام إنكاري بمعنى النفي.
* * *
الله الغالب على عباده
{بَلْ مَتَّعْنَا هؤُلاءِ وآبَآءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} وامتد بهم العمر بفيوضات الأمل الطويل، ولكنهم لم يستفيدوا من التجربة الماثلة أمامهم في ما ينظرون من الأمم السالفة التي عايشوها وانقرضت جيلاً بعد جيل.
{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} بما يوحي به ذلك من زوال الأمم وانقراضها الذي هو وجه من وجوه انتقاص الأرض من ساكنيها، أفلا يفكرون بأن من الممكن أن ينقرضوا كما انقرض أولئك ويزولوا كما زالوا من دون أن يملكوا أية قوة مضادة للدفاع والحماية؟ {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} أم الله الغالب إن أراد أن يضرهم أو يهلكهم أو يمسهم بعذاب؟
{قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْي} النازل من الله، بما ينذر به عباده الكافرين والعاصين والطاغين، فليست كلماتي هي الكلمات التي ألقيها عليكم، وليست تهديداتي هي التي أطلقها في ساحاتكم، بل هي كلمات الله وإنذاراته التي أريد أن أصدم بها أسماعكم وقلوبكم، وأثير فيها خوفكم وحذركم، لتتوازنوا وتستقيموا في خط الإيمان والطاعة. ولكن المشكلة هي أن أسماعكم مغلقة بالغفلة، وقلوبكم مخنوقة بالضلالة {وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ} الذين أغلقت آذانهم وقلوبهم {الدُّعَآءَ} للخير والهدية والاستقامة {إِذَا مَا يُنذَرُونَ} بالنتائج السلبية التي تواجههم عند الإعراض والانحراف.
{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ} الذي يعذبهم به على أعمالهم، {لَيَقُولُنَّ يا ويْلَنا} في نداء صارخ بالويل والإحباط، {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بما ظلمنا به أنفسنا بالكفر والضلال الغارق في الغفلة المطبقة عن نداء العقل بالإيمان، ونداء الله بالاستقامة والطاعة، فلم نكن نعرف، من خلال الحس، ما ينتظرنا من عقاب في الدار الآخرة، ولو كنا نعرف ذلك لما عملنا بما عملناه.
* * *
عدل الله
{وَنَضَعُ الْمَواَزِينَ الْقِسْطَ} العدل {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} في حساب الناس على أعمالهم، وهي كناية عن المقاييس التي يخضع لها التقييم الإلهي للأعمال في ما يستحقه الناس عليها من عقاب وثواب، من خلال ما تشتمل عليه من دوافع وخصائص في ذاتها ونتائجها، {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شيْئاً} فلا يضيع منها شيء، {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} باعتبار صغر وحدة الخردل في الوزن، وهو كناية عن الإتيان بالخفي الدقيق من الأعمال، {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} في ما نعرفه من خفايا الأعمال ودقائقها.
تفسير القرآن