تفسير القرآن
الأنبياء / من الآية 48 إلى الآية 73

 من الآية 48 الى الآية 73

الآيــات

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ* وَهَـذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ* وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ* إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُواْ وَجَدْنَآ آباءنَا لَهَا عَابِدِينَ* قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وآبَآؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ* قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعِبِينَ* قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَواَتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذلِكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ* وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ* فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ* قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ* قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ* قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ* قَالُواْ أأَنْتَ فَعَلْتَ هَـذَا بِآلِهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ* قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ* فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُؤوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ* قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فاعِلِين * قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ* وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ* وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَآءَ الزَّكَاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} (48ـ73).

* * *

معاني المفردات

{الْفُرْقَانَ}: التوراة، وسميت التوراة بالفرقان لكونها يفرق بها بين الحق والباطل.

{رُشْدَهُ}: الرشد: خلاف الغي، وهو الاهتداء وإصابة الواقع.

{لأَكِيدَنَّ}: الكيد: التدبير الخفيّ على الشيء بما يسوؤه.

{جُذَاذاً}: الجذ: كسر الشيء وتفتيته، أي قطعاً مكسورة.

{نُكِسُواْ}: النكس: قلب الشيء على رأسه، والمراد به هنا: العجز وعدم التراجع عن المكابرة.

{أُفٍّ}: تباً لكم ولأعمالكم.

{نَافِلَةً}: عطية.

* * *

التفاعل الحي بين النبي والناس

وهكذا أكدت الآيات السابقة مفهوم النبوة في قاعدته الإنسانية المطلة على الغيب من خلال الوحي النازل من الله على البشر الذين اصطفاهم لرسالته، من أجل أن تتفاعل النبوة بقيمها التي يجسدها النبي(ص) في حياة الناس، في خط الدعوة التي تحول المؤمنين إلى دعاة للرسالة، وفي خط الممارسة التي تثير فيهم رسالية الفكر والكلمة والحركة والمنهج، لتعيش الحياة النبوية في حركة التفاعل بين النبي وقاعدته. وأثارت الكثير من الحديث حول النتائج الإيجابية والسلبية التي تتصل بالمؤمنين والكافرين، كما حاورت الكافرين في الجوانب المتصلة بالشرك وباليوم الآخر. وجاء دور الحديث عن الأنبياء في حركة التاريخ في الدعوة وفي الواقع، بين إجمال وتفصيل تبعاً للنقاط التي يريد القرآن إثارتها في هذه السورة.

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} وهي التوراة التي كانت أوّل كتاب سماوي شامل في العقيدة وفي الشريعة، لتكون الفارق بين الحق والباطل، {وَضِيَآءً} ينير الدرب للسالكين في حركة الفكر والحياة، {وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} في ما يريد أن يثيره في وجدانهم الروحي من عناصر الوعي التي تبتعد بهم عن الغفلة، أو تفتح قلوبهم على الحقيقة لتذكرهم ما قد نسوه، لتوجههم إلى ما أغفلوه، لأن هؤلاء ليسوا من النماذج الغارقة في عالم الحس، الغائبة عن آفاق الله، بل هم {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} لأنهم إذا لم يكونوا قد رأوه بعيونهم فقد عرفوه بقلوبهم، وأحسوا به بوجدانهم، وعاشوا معه في عقولهم ومشاعرهم، وشاهدوه في كل آية من آيات عظمته، حتى أنهم يقفون أمامه وجهاً لوجه، في إحساس عظيم بحضوره في حياتهم كأقوى ما يكون الحضور، وفي التزام كبير بالخط المستقيم الذي يؤدي إليه، كأعمق ما يكون الالتزام، في شعور بالخوف والخضوع والرهبة، وتعبير صارخ بالعبادة والابتهال، {وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} فكأنهم ينتظرون حلولها بين لحظة وأخرى ليواجهوا عندها مسألة المصير بين يدي الله، في النتائج الإيجابية والسلبية للحياة التي عاشوها من قبل.

وهكذا عشنا في هاتين الآيتين مع موسى وهارون، قصة الكتاب كيف تحرك في تأثيره الإيجابي على الوعي والحياة، وقصة المؤمنين به الذين عاشوه نهجاً للفكر وللعمل، فالتقوا ـ من خلاله ـ بالالتزام في الخط، وبالإيمان بالله من أقرب طريق.

ثم يطل تعالى في كتابه الكريم على المسلمين ليذكرهم بهذا الكتاب الذي نزل عليهم ضياءً وذكراً وفرقاناً بين الحق والباطل، من أجل أن يتخذوه دليلاً على كل ما يواجههم في الحياة من أحداث وقضايا ومشاكل، ويلتزموا أحكامه ومفاهيمه، ويسيروا في خط شريعته.

{وَهَذَا} القرآن {ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} على محمد(ص) كما أنزلنا الكتاب على موسى(ع) {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} من غير حجة ولا برهان، بل انسجاماً مع أجواء الشرك والانحراف التي تعيشون فيها، فتبتعدون بذلك عن المنهج الذي يصلح لكم حياتكم ويبني لكم آخرتكم.

* * *

إبراهيم(ع) في مواجهة قومه

ويعود الحديث إلى النبي إبراهيم الذي يتميز بالشخصية المتحدية للشرك بالأسلوب الهادىء القوي الذي يترك المسألة تتحرك على الأرض من خلال ما يصنعه من مفرداتها، ويثيره من علامات الاستفهام من حولها، ليشعر الناس بالمشكلة كما لو كانت صدمة عنيفة تواجه تصوراتهم وعقيدتهم بشكل حاسم لا يستطيعون الهروب منه، فكان ينقلهم دائماً من مواقع الهجوم ضد فكرة التوحيد، إلى مواقع الدفاع عن فكرة الشرك التي يلتزمونها، ما يخلق في داخلهم الشعور بالضعف على أكثر من صعيد.

وهذا هو المنهج الأمثل في الأسلوب العملي في قضية الصراع، عندما تدفع خصمك إلى مواقع الدفاع، لتضطره الى التراجع بسهولة من خلال ما أعددته للساحة من وسائل الهجوم بطريقة واعية؛ ومن خلال ذلك، كان إبراهيم(ع) يدير عملية الحوار معهم، ليهزّ قناعاتهم المتحجرة أولاً، وليقودهم ـ في محاولة جادة مدروسة ـ إلى قناعاته في نهاية المطاف.

{وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ} فقد أعده الله في تكوينه الفكري والروحي إعداداً صالحاً، من خلال ما أثاره في نفسه من علامات الاستفهام، وأدار فكره من المواقع التي تعطي لكل سؤال جواباً في دقة وعمق وانفتاح، وعرف من حركة الواقع من حوله الكثير الكثير من شؤون الناس في أفكارهم وتوجهاتهم ومواقفهم، حتى استطاع أن يختزن في وعيه الحسّ الاجتماعي الذي يعرف من خلاله كيف يكتشف نقاط الضعف عند الآخرين، ونقاط القوة في نفسه، ليواجه نقاط ضعفهم بنقاط قوته. وهكذا استطاع أن يحصل على الرشد الفكري الذي يهدِيه إلى معرفة مواقع الخطأ والصواب في الأشياء المطروحة في الساحة.

{وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} لأن الله هو الذي تعهده بالعناية والرعاية، بما هيأ له من إمكانات على جميع المستويات، ومن خلال ما يتعهّد به الأنبياء من تربية فكرية وأخلاقية وروحية، ليكونوا في مستوى حمل الرسالة، وفي موقع الاختيار الإلهي، لتقوم بهم الحجة على الناس من موقع القوّة الفكرية والروحية، لأن الذي يريد أن يقود الناس إلى الرشد، لا بد من أن يملك رشده، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولأن الذي يحمل الرسالة من موقع إرادة التغيير الشامل للواقع يجب أن يكون بالمستوى الذي يستطيع من خلاله أن يحرك عملية التغيير على أساس الإمكانات الواسعة التي يملكها في هذا المجال.

وقد نستوحي من ذلك، أن الموقع النبوي لا يملك خصوصية في هذا المجال، إلا من خلال طبيعة المستوى الأعلى الذي تتميز به النبوّة عن المواقع الأخرى في ساحات الدعوة والتبليغ، فإن المسألة هي ـ في العمق ـ مسألة الداعية إلى الله، والعامل من أجل التغيير في خط هداه الذي يقف في الموقع القيادي للأمة، من حيث طبيعة الملكات الفكرية والروحية والاجتماعية التي يجب أن يملك فيها رشده، ليعطي للأمة رشدها. لذا لا يجوز أن تكون هذه المهمة ـ مهمة الدعوة والتبليغ والتوجيه السياسي والاجتماعي ـ ملقاة على عاتق الذين لا يحسنون حركة الدعوة في الفكر والمنهج والأسلوب، ولا يستطيعون وعي الواقع في عمقه وامتداده، لأن ذلك ينعكس سلباً على مستقبل الإسلام والمسلمين، في ما يؤدي إليه من النتائج السلبية، ومن سيطرة التخلُّف على المسيرة الإسلامية كلها.

* * *

حوار بين إبراهيم(ع) وأبيه

{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} قالها لأبيه، في موقف يوحي بأن الأبوّة، مهما كانت تختزن في داخلها من الاحترام والهيبة، لا تمنع الولد من مواجهتها بالأسئلة الحاسمة في القضايا المتصلة بالعقيدة، لأنها تتجاوز كل الانفعالات الشعورية في العلاقات الإنسانية، لتتركز في دائرة المواقف المصيرية، ما يعني بأن الحواجز النفسية لا تمثل حائلاً بين الإنسان وبين الآخرين في شكليات التقاليد والعادات، بما يريد أن يؤكده من قضايا الفكر والحياة. وقالها لقومه الذين يملكون في المجتمع القديم السلطة الضاغطة على كل فرد من أفراد العائلة، لا سيما كبار السن مثلهم، وذلك بشجاعة الروح الرسالية التي تملك أن تطلق التحدّي وأن ترده، في عملية الدعوة والهداية والدفاع عن الحق.

{مَا هَـذِهِ التَّمَاثِيلُ } الحجرية التي تتعبدون لها في خشوع وابتهال؟ ما دورها في حياتكم وحياة الناس؟ وما الأسرار الكامنة في داخلها التي تميزها عن الأحجار الأخرى؟ هل هو الشكل والصورة أو ماذا؟.. إنكم أنتم من صنعها، فلم تكن منزلة عليكم من الغيب، ولولاكم لم يكن لها أية ميزة نوعية، فهل فكرتم في ذلك كله؟ وهل وعيتم معنى العبادة في العمق ومستوى المسؤولية المرعية بين العابد والمعبود، في ما يمثله المعبود من قوة مطلقة، في الخلق والهيمنة والنعم الشاملة لكل جوانب الحياة.. وفي الموت والحياة؟ فهو الذي يملك الأمر كله، فلا يملك أحد منه ما يملكه منه، وهو الذي يكفي من كل شيء، ولا يملك منه أحد شيئاً، فماذا تملك هذه التماثيل من ذلك كله، وهل تستطيع أن تدفع عن نفسها الضرر القادم من أي واحد منا؟

هل تملكون تفسيراً لذلك؟ وبالتالي هل لديكم ما تدافعون به عن عقيدتكم هذه، ليكون ذلك مبرراً لكم ولمن حولكم للسير في هذا الاتجاه؟

* * *

جاهلية قوم إبراهيم(ع)

{قَالُواْ وَجَدْنَآ آباءنَا لَهَا عَابِدِينَ} فهم الذين أعطوها القداسة والاحترام عندما عبدوها خاشعين، فقد رأيناهم يطلبون منها الرزق والولد والأمن والحياة..، ولم نعرف لماذا يقدسونها ويحترمونها، وما هي مبررات ذلك كله، فلم يشرحوا لنا شيئاً منه؛ بل كل ما هناك، أنهم أمرونا بالطاعة فأطعنا، وبالعبادة فعبدنا، كما هو شأن الأولاد النجباء مع آبائهم العقلاء، فليس لهم أن يعترضوا أو يناقشوا، بل يجب أن يسلّموا لهم الأمر كله.

{قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وآبَآؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} لأن خط العبادة في العقيدة التي تعتنقونها، لا ينطلق من وحي منزل، بل هي الأهواء العابثة، التي تجعل من الوهم حقيقة، ومن العبث قاعدة، ومن الخرافة أساساً للحياة. إنه التخلُّف العقلي والروحي والعملي، يعيشه هؤلاء الآباء فيقودهم إلى الضلال في ما يلتزمون به، وما يتحركون فيه من شؤون العبادة والحياة، ويحولونه في عقولكم وحياتكم إلى إرث مقدس لا يحمل في ذاته شيئاً من عمق القداسة، ولكنه التقليد الأعمى الذي يفرضه الآباء الجاهلون على الأبناء المتخلفين. إنه الضلال الواضح الذي لا شبهة فيه ولا ارتياب.

{قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعِبِينَ} إنهم يتساءلون في تعجب واستنكار لما صدر منه من كلام ضدّهم وضدّ أصنامهم، كأنهم لا يصدّقون جدّيته، لأن من البعيد أن يفكر هذا الفتى بهذه الطريقة المتشنّجة. ولذا فإنهم يصوغون اعتراضهم بصيغة الاستفهام ليقودوه إلى التراجع من دون إحراج، ليعتذر إليهم بأنه قال ما قاله بأسلوب العبث واللعب، {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذلِكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ} إنه يريد تأكيد الرفض للأصنام من موقع الجدية الفكرية التي تصل إلى مستوى الحقيقة التي يشهد بها، كما لو كان شاهداً عليها من صميم الحس والوجدان، فهو لا يرى إلهاً له ولقومه وللناس وللكون كله في السماوات والأرض إلا الله الواحد الذي خلقهن من العدم من قاعدة القدرة المطلقة التي لا تقف عند حد، فكيف يمكن أن يدّعي أحدٌ ألوهيّة غيره، لا سيما إذا كان ذلك في صورة هذه الأحجار الصمّاء التي حولوها ـ بالفن البشري ـ إلى تماثيل منحوتة من دون أيّ معنى، ولذلك فإنه يواجههم بالحكم بالضلال في موقفهم بطريقةٍ حاسمةٍ لا تقبل الجدل.

* * *

إبراهيم(ع) ومنطق القوة

{وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} في تدبير خفي محكم يستهدف وجودها واحترامها وقداستها في عملية تكسير وتحطيم، لأن المسألة هي أن من الضروري أن نواجه العقيدة الضالة المتخلفة، بالتحليل الفكري المضاد الذي يفسح المجال للقناعة الإيمانية من مواقع الفكر، وبالتحطيم العملي الذي يدمِّر هيبتها واحترامها في النفوس، ليراها الناس، على الطبيعة، مجرد أحجار جامدة لا تملك أن تدفع عن نفسها ضرّاً ولا تجلب لها نفعاً. وهكذا كانت أفكاره تتجه للتدبير الخفي الذي يؤدي إلى تكسيرها في عملية إثارة للجدل الفكري الذي يقودهم إلى التفكير في الموضوع من موقع جديد، فخاطبهم بلهجة التهديد ولكن في سره، لأن الإعلان لا يتناسب مع الكيد، باعتبار أنه قد يدفعهم إلى الاحتياط في المحافظة عليها، ويُبعد الخطة عن الوصول إلى أهدافها في إثارة الحوار. لقد كان عقله يتحرك في أكثر من اتجاه، ليكتشف الأسلوب المتحرك الذي يستطيع من خلاله اقتحام التحجُّر الفكري الذي يعيشون فيه، ليواجههم في مناجاته الذاتية، في خطاب عقلي موجّه إليهم، وتالله لأدمرن هذه الأصنام في خطة دقيقة لا تملكون الوقوف أمامها، على صعيد الفكر والواقع، {بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} فيخلو الجو له في التحرك بحرية في ما يريد أن يقوم به..

وذهب القوم إلى أعمالهم، وبقي إبراهيم هناك، أو أنه عاد إليها خلسة من دون أن يشعر به أحدٌ، وتوجه إليها مكسراً ومحطماً.

{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي قطعاً مكسورة ـ من الجذ وهو كسر الشيء وتفتيته ـ، {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} وهو الصنم الأكبر، {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} في إيحاء خفي بأنه هو الذي صنع ذلك على أساس ما يعتقدونه فيه من سر القدرة التي تخوّله القيام بما يشاء، كما يصنع الإله في حركة الحياة. فقد يفكرون بهذه الطريقة فيرجعون إلى الصنم الأكبر ليسألوه، فلا يملك جواباً، فيدفعهم ذلك إلى التفكير في الاتجاه السلبي لإعادة النظر في العقيدة الوثنية، أو يرجعون إلى إبراهيم ليتهموه ويناقشوه، فيكون ذلك وسيلة لإثارة الحديث معهم حول سلبيات المسألة، أو لعلهم يرجعون إلى الله بالعبادة عندما يكتشفون أن هذه الأصنام لا يمكن أن تكون آلهة. ولعل الأول أقرب، لأن الظاهر أن هدف إبراهيم هو أن يوحي إليهم باتهامه في ظاهر الكلام، ليقودهم إلى الصدمة الفكرية التي تهز قناعاتهم حول الموضوع.

وجاءوا إلى المعبد ليمارسوا طقوس العبادة المألوفة لديهم، واكتشفوا طبيعة الحدث، وثارت بهم الحمية، وأقبلوا عليه من كل مكان بعد أن شاع الخبر في الاعتداء على الالهة، وبدأوا يتساءلون فيما بينهم لاكتشاف المعتدي الذي تجرأ على المقدسات، {قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِـآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} وأي ظلم أعظم من أن يسيء إنسان إلى مقام الآلهة المقدسة التي تملك حق التعظيم والاحترام على الجميع، وتمثل الكرامة الاجتماعية للناس كلهم؟ فلا بد من اكتشافه لينال الجزاء العادل على جريمته.

{قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} فهو الوحيد بيننا الذي يرفض عبادتها، ويرمي الذين يعبدونها بالضلال والتخلُّف، ويسيء إليها في كلامه ونظرته إليها، فهو المؤهّل للقيام بهذا العمل الشنيع، وإليه يجب توجيه إصبع الاتهام.

{قَالُواْ فائتواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} وأحضروه إلى الاجتماع العلني العام الذي يشهده الجميع، {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} بما سمعوه منه، فيحرجونه بذلك، فيعترف بما فعله أمامهم، فيقررون عقابه.

{قَالُواْ أأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلهَتِنَا يا إِبْرَاهِيمُ} إننا نوجه الاتهام إليك لأنك الوحيد من بيننا الذي لا يعبد الأصنام مما يجعلك في الموقع الطبيعي للاتهام، لأن الذي يعبد الأصنام لا يمكن أن يسيء إليها، لأنه يخاف من نتائج ذلك على نفسه وأهله، {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} فهو الوحيد الذي بقي سالماً من هؤلاء، ما يوحي بأنه هو الذي قام بالعدوان عليهم، إذ يختلف معهم، من خلال ما يفرضه عامل الكبر من عظمة القوة المؤهّلة لإسقاط قوة الباقين.

{فَاسألُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} فهم الذين يجب أن يوجه إليهم السؤال، لأنهم هم الذين كانوا محلاً للاعتداء، وهم الأعرف بالمعتدي. فوجِّهوا إليهم السؤال إن كانوا يملكون منطقاً للجواب. إنه يريد أن يصدم عقيدتهم بالحقيقة الدامغة، ولكنهم لا يريدون أن يفكروا في نتائجها السلبية على العقيدة، ليقودهم إلى التفكير من جديد، وإلى القبول بإدارة الحوار حولها. وعلى ضوء هذا، فإن إبراهيم لم يكذب في كلامه باتهام الصنم الكبير، لأنه لم يقصد الحكاية عن الواقع، بل قصد التمهيد لإظهار الحقيقة للوصول إلى النتائج الإيجابية في خط الدعوة.

* * *

عجز القوم عن مواجهة حجج إبراهيم(ع)

{فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ} وفكروا في المسألة بطريقة عصبية، في هذه التماثيل التي يعبدونها وفي هذا العجز الذي بدا من قدرتها، فلا تملك أن تدافع عن نفسها، ولا تستطيع النطق، {فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} قالها كل واحد لنفسه، لأنه ظلم نفسه بهذه العقيدة المتخلفة التي لا معنى لها، ولا مبرر إلا التقليد الأعمى للآباء، أو قال كل واحدٍ للآخر في عملية اعترافٍ مباشرٍ بذلك.

{ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُؤوسِهِمْ} أحسوا بالعجز عن مواجهة إبراهيم في اتهامه للصنم الكبير بالعدوان، لأن ذلك يكشف زيف عبادتهم لها؛ ولكنهم لا يملكون التراجع، بل يريدون الإصرار على الخطأ، فمضوا يواجهونه بأن ما طلبه منهم من توجيه السؤال إلى الأصنام لا معنى له، {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـؤُلاءِ يَنطِقُونَ} فكيف نوجه السؤال إليهم، وكيف نوجه الاتهام في ذلك إلى الصنم الكبير الذي لا يحس ولا يعقل ولا ينطق، إن ذلك كله يعني أنك أنت الذي حطم الأصنام.

{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ} لأنهم لا يملكون الوعي ولا النطق ولا القوة، فكيف يمكن أن يكونوا آلهة، وهم لا يملكون أدنى صفات المخلوق الحي، {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} إن ذلك يدعو إلى التأفف النفسي الذي يشعر الإنسان معه بالضيق، نتيجة ما يعيشه الناس من ضلال وتخلف وضياع، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وتحكمون عقولكم في ما تلتزمونه في شؤون العقيدة من الباطل والضلال، {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} فقد ثبت من أجواء كلامه أنه هو الفاعل، فيستحق الإحراق الذي هو جزاء المعتدين على الآلهة، فإن ذلك هو المظهر الطبيعي لنصرة الآلهة، ما يمنع كل المعتدين من فعل ذلك في المستقبل.

* * *

الرعاية الإلهية لإبراهيم(ع)

{قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسلامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فقد ألقوه في النار إنفاذاً لحكم الإحراق، ولكن الله سبحانه ـ بقدرته ـ برَّد النار التي ألقوه فيها، وجعلها سلاماً عليه، فلم تضره شيئاً، ولكن كيف ذلك؟ كيف عزلها الله عن التأثير في جسد إبراهيم؟ هل هو بإيجاد طبقةٍ عازلةٍ بينها وبين جسده، أو بتبريد النار أو بغير ذلك؟ إننا لا نملك الجواب عن ذلك، لكننا لا نرى ضرورة للخوض في ذلك، لأن المسألة من مسائل الإعجاز الإلهي التي اختص الله بعلمها في ما يتمثل فيها من روابط التأثير.

{وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} في ما أرادوا اتهامه به، ومن إصدار الحكم عليه وتنفيذه ليقتلوه ويحرقوه، {فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ} الذين واجهوا المعجزة الإلهية بالإحباط والسقوط عندما رأوا كيدهم من دون تأثير ولا نتيجة، بل ربما كان ذلك موجباً لإيمان الناس بهذا الفتى الذي يتصرف بطريقة عقلانية تجلب انتباه الناس إليه وإلى كلماته، بحيث، لولا قوة تأثير التقاليد على قناعاتهم، لكان له شأن آخر في حياتهم، فكيف تكون الحال، وهو الآن في موقع الإنسان العجائبي الذي يحمل في اللهب الأحمر الناري سرّ المعجزة في هذه البرودة المنعشة. وهكذا يريد الله أن يعزز موقع رسوله في قلوب الناس من حوله بما يؤكده من الدفاع عنه في خط التحديات الكافرة المضادة.

* * *

تجربة النبي لوط(ع)

{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً} الذي آمن به وهاجر معه في ما حدّثنا الله به : {فَـَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26]، {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} وهي الأرض المقدسة، وهي أرض الشام التي هاجر إليها إبراهيم(ع)، التي جعل الله فيها من البركة الروحية التي تمثلت بالأنبياء الذين قادوا المسيرة الرسالية بكل وعي وإيمان وإخلاص وانفتاح على الناس، وتلك هي البركة في العمق الروحي الذي يحتوي الفكر والضمير والشعور والوجدان، ويهيىء الحياة لموسم إيمان متحرك جديد.

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} بما تمثل كلمة النافلة من معنى العطية الإلهية التي تعبِّر عن محبته ورعايته له{وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ}.

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} وذلك عندما جعلهم الله أنبياء يحملون الرسالة ويقومون بمهمة الإمام الذي يقوم بقيادة الأمة نحو أهدافها الكبيرة، في ما يعيشه من فكر وخلق وروحانية وانفتاح على كل معاني الخير والحب والسلام من أجل هداية الناس إلى الله حتى لا يقوموا بشيء ولا يتركوا شيئاً إلا أن يعلموا أن في ذلك لله رضا، وتلك هي مهمة النبوة والإمامة، أن تتحقق للإنسان الصلة العميقة الواسعة بالله في عملية اهتداء روحيّ وعمليّ، فلا انفصال بين حركة إنسانيته وبين حركة عبوديته، بل يتواصلان ويتلاقيان ويتداخلان في وحدة إنسانية روحية لا تجزئة فيها ولا ازدواجية، وهذا هو الخط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي عنده. ولعل من البديهي أن يكون للإمام كل الغنى الروحي والفكري والعصمة الفكرية والعملية، ليؤكد غنى التجربة في عناصرها الرسالية التي لا انحراف فيها ولا سقوط ولا ابتعاد عن الأهداف، وهكذا أراد الله لهؤلاء الأئمة أن يهدوا الناس بأمره.

{وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} في مواقع القدوة العملية، في ما يفعلون، وما يريدون للآخرين أن يفعلوه، من خلال ما يريد الله لهم أن يحققوه من حركة ومنهج وهدف، {وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَآءَ الزَّكَاة} حيث يلزمون بهما أنفسهم في سلوكهم الشخصي، ويوجهون الناس إليهما في حياتهم العملية، {وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} إذ إنهم يتمثلون الشعور بالانسحاق أمام الله والانقياد إليه من خلال عبادة واسعة شاملة تتحرك في كل موقع لله فيه أمر فيطيعونه، وتقف في كل ساحة لله فيها نهي فيتركونه، ليكونوا عباد الله الذين {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27] في خط الرسالة وخط الحياة.