تفسير القرآن
الأنبياء / من الآية 74 إلى الآية 77

 من الآية 74 الى الآية 77

الآيــات

{وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ* وَأَدْخَلْنَـاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَـاهُمْ أَجْمَعِينَ} (74ـ77).

* * *

الله ينجّي أنبياءه.. لوط ونوح (ع)

{وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} من أجل أن يفتح عقول أبناء المجتمع وقلوبهم على الله وعلى الحياة، ويقودهم إلى السلام في الأمور التي يتنازعون فيها، أو التي يختلفون عليها، وذلك من خلال حكمه الذي ينفذ إلى عمق المشاكل ليحللها فيفهم كل خصوصياتها، وذلك أن النبوّة هي إلى جانب أنها حالةٌ رساليةٌ فكريةٌ، هي حالة قيادية حركية تنفيذية تصل إلى الواقع النظري بالعقل العملي.

إلا أن لوطاً العالم الحاكم الحكيم عاش حياةً صعبةً بين قوم لا يفهمونه ولا يعرفون تطلعاته وأهدافه، ولا ينفذون ـ في وعيهم ـ إلى الجانب العميق من تعاليمه، وإلى الأفق الواسع من حكمته، بل كانوا مستسلمين لشهواتهم الجسدية، فقد كانوا يعملون الخبائث ويثيرون المشاكل في وجهه، ويتعرّضون لكل الناس القادمين إليه ليعتدوا عليهم بالعمل السيىء؛ وقد عمل لوط على هدايتهم، وصبر عليهم كأشد ما يصبر نبيّ على قومه حتى استنفد تجاربه كلها، إلا أن ذلك كله لم يؤد إلى نتيجة إيجابية في حساب الإيمان؛ فكان مثله مثل العالم الحكيم الصابر الثابت في موقفه، المتمرد على كل نقاط الضعف في الموقف فلا يكلّ ولا يملّ ولا ييأس، خلافاً للعلماء الذين ينظرون إلى المسؤولية من خلال مزاجهم، فلا يرتاحون للمصاعب التي تواجههم، ويتعقدون من الكلمات التي يسمعونها، والتحديات التي يواجهونها، فيسقطون أمام ذلك كله ويتراجعون عن الرسالة، في موقف ضعف وهروب، فينسون الآفاق الواسعة التي تتيح لهم الحركة للوصول إلى الهدف المنشود.

{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ} والمقصود أهل تلك القرية {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} فلا يستحقون رحمة الله، التي عرضها عليهم فرفضوها، لأنها ترتكز على الإيمان والعمل الصالح في موقف العباد من الله. أما لوط فقد فتح كل قلبه لله، وجعل كل حياته بكل إمكاناتها في خدمته، فمنحه الله بذلك كل خير ورحمة، {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ} في ما أفاض الله عليه من لطفه ورضوانه، وأنقذه من الواقع الصعب الذي كان يعيشه، ومن العذاب الذي نزل على قومه، {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} في فكره وروحه وموقفه من الحياة ومن الناس.

* * *

نجاة نوح(ع)

{وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ} حيث واجه تمرد قومه وتعنّتهم وكفرهم وجحودهم، بالرغم من كل الأساليب المتنوعة، والوسائل الكثيرة التي سلك سبلها من أجل هدايتهم إلى الله، في مدى ما يقارب الألف سنة، حتى طلب الاستغاثة ـ في نهاية تجاربه ـ لكي يُنَزِّل الله عذابه بهم، ويستبدلَ بهم جيلاً جديداً خالياً من العقد التي تمنع من ولوج طريق الإيمان، فكان نداؤه في استغاثته الأخيرة نداء النبي ـ الرسول الذي لا يحمل عقدة اليأس في روحه، ولكنه يعيش هم الرسالة في تطلعاته، ليبحث لها عن أفق جديد، وجيل جديد، {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} نداءه عندما قال: {أَنُّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} [القمر:10]، {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} الصالحين {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} الذي كان يعانيه في ذلك الجو الكافر الساخر الذي يمارس القوة ضده، ويحاصر دعوته في كل مكان، ويمنع الناس من الاستماع إليه، ويضيق عليه غاية التضييق حتى يحبس عليه أنفاسه، الأمر الذي جعله يشعر بأن كل جهوده تذهب هباء، وأن الناس من حوله يتجهون إلى الانتحار الروحي من خلال أجواء الكفر والتمرد والطغيان.. وكان يحب لهؤلاء الناس أن ينفتحوا على الله، وأن يهتدوا بهداه، وأن يقتربوا من ساحة رحمته ورضوانه، لأن ذلك هو سر سعادة الدنيا والآخرة. وكان يتألم للمستضعفين منهم أنهم يخضعون للقوى المستكبرة، وينسحقون تحت وطأة ظلمهم، من دون أي أساس لذلك، ومن دون أية فائدة لهم على مستوى الحاضر والمستقبل.

{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} فكانوا يمارسون الاستعلاء والسيطرة ويوحون لأنفسهم وللآخرين بأنهم هم الذين يقررون الصواب والخطأ في الأشياء، ولا يريدون لأحد، مهما كانت درجته، أن يقرر لهم ما يعتقدونه وما يلتزمونه وما يفعلونه. ولذا فإن أي طرح جديد لأي مفهوم مضاد لما يحملونه من مفاهيم، لا ينال قبولهم، بل يبادرون إلى تكذيبه من دون تفكير أو مناقشة. وهذا ما فعلوه عندما جاءهم نوح ـ النبي ـ بآيات الله فكذَّبوا بها، وسخروا منه، واضطهدوه، {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ} إذ تتمثل عناصر السوء في أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم، {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} لينتهي جيل البشرية الأول الذي تحجّر فيه الكفر وامتد به الضلال، وأغلق كل منافذ الوعي في شخصيته، ليستسلم للأجواء المتعفّنة الخانقة في حياته.