تفسير القرآن
الأنبياء / من الآية 78 إلى الآية 82

 من الآية 78 الى الآية 82

الآيــات

{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَـاهِدِينَ* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ* وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ* وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيءٍ عَالِمِينَ* وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} (78ـ82).

* * *

معاني المفردات

{الْحَرْثِ}: الزرع.

{نَفَشَتْ}: النّفش: رعي الماشية بالليل دون راعٍ.

{لَبُوسٍ}: اللبوس: اسم للسلاح عند العرب، وقيل هو الدرع.

{يَغُوصُونَ}: الغوص: النزول إلى قاع البحر لاستخراج أمتعة البحر من اللآلىء وغيرها.

* * *

داود وسليمان(ع) يحكمان في الحرث

يشير الله إلى داود وسليمان في قصة حكمهما، كنموذج للأنبياء الذين كانوا يملكون النفاذ إلى حياة الناس في تفاصيلها اليومية من مواقع الامتيازات النوعية في القوة والقدرة، وفي الخصائص التي خصّهم الله بها، وذلك، كجزءٍ من التصور العام الذي يريد القرآن أن يتمثّله المؤمنون في مسألة النبوّة والأنبياء، ليقفوا حيث يريد الله منهم أن يقفوا في قضايا الغيب المحدودة، فلا يتوسعون إلى أبعد من ذلك في ما تثيره الأوهام، مما قد يقترب إلى أجواء الخرافة، كما يريد لهم أن يدرسوا الجوانب السلبية في الأجواء المحيطة بهم، كما يدرسون الجوانب الإيجابية في ذلك.

{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} في قضية تتعلق بالزرع أو الكرم، {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} فدخلت إلى الأرض المملوءة بالزرع أو الشجر وعبثت فيه حتى أفسدته وأتلفت البعض منه؛ وجاء أصحاب الحرث إلى داود وسليمان، فاختلف داود وسليمان في الحكم في المسألة، فقضى داود بالغنم لصاحب الزرع، ولما علم سليمان بذلك قال لأبيه: الأرفق بالرجلين أن يأخذ صاحب الأرض الغنم لينتفع بها، لا على سبيل الملك، وأن يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود الزرع، كما كان، وعندها يترادّان فيأخذ هذا غنمه وذاك زرعه، فاستحسن داود حكم ولده وعمل به، {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} فقد كان حكم كل واحدٍ منهما تحت رقابة الله وفي حضوره، فهو الشاهد على ما يصدر من خلقه، سواءً كانوا من الأنبياء أو من غيرهم، ولا مانع من الإتيان بضمير الجمع في مورد التثنية باعتبار معنى الجمع، فقد يرد ذلك في بعض الأساليب، أمّا إعادة الضمير إلى الأنبياء، كما قال به صاحب تفسير الميزان، ففيه غموض، لعدم تقدُّم ذكر لهم في مجال الحكم بصيغة الجمع من خلال الواقع الخارجي.

{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي أوضحنا له الفهم الحقيقي للقضية أو للحكومة، فكان قضاؤه أقرب إلى الحق من فهم داود، {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} في ما ينطلقان به من توجيه الناس إلى الحق في حياتهم العامة والخاصة، وفي منازعاتهم واختلافاتهم للوصول إلى الموقف الصواب، لأن مهمة الرسول تتحرك في خطين، خط الوعي للحياة من خلال فكر يرفع به مستواها إلى الدرجات العليا، وخط العدل، الذي يحل المشاكل على صعيد الفرد والمجتمع. وبذلك كان العلم يمثل قوّة الرسول(ص) في شخصيته، كما أن الحكم يؤكد التزام العدل في حركته.

* * *

الآية في خط العصمة

وقد نستطيع أن نثير السؤال كما أثاره الكثيرون، كيف نفهم هذا الاختلاف بين سليمان وداود في فهم حكم الشريعة في هذه القضية، وكيف يصيب سليمان من حيث أخطأ داود مع أن مسألة العصمة في عقيدتنا في الأنبياء أساسية، لا سيما في مسألة التبليغ للأحكام أو في مسألة التطبيق في مقام القضاء.

وقد ورد في الجواب عن ذلك أكثر من وجه، فقيل إن حكم سليمان كان ناسخاً لحكم داود، فقد حكم داود بما حكم به الأنبياء من قبله، ولكن الله أوحى إلى سليمان أن كل غنمٍ نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلاّ ما خرج من بطونها؛ وقيل: إن داود أراد أن يعرّف بني إسرائيل أن سليمان وصيّه من بعده، فلم يختلفا في الحكم، لأن داود لم يكن في مقام بيان الحكم الواقعي، بل في مجال إظهار موقع سليمان في النبوة، بالطريقة التي توحي بالثقة به. ولكن الجوابين لا يخلوان من غموض، لأن النسخ لا يمنع خطأ داود في حكمه، ولو بلحاظ هذه الحالة في هذا الزمان، كما أن الظاهر من الآية أنهما كانا ينطلقان من منطلق واحد، فلا تباين ولا تعدد أمام إظهار الخطأ ليبدو حكم سليمان في دائرة الصواب، فهذا لا يتناسب مع طبيعة الواقع، باعتبار أن مجرد اعتماد داود على سليمان ووضعه في موقع الحكم يمكن أن يؤدي هذه المهمة، من دون الإساءة إلى مقام داود، فإن مثل هذا الأسلوب يبعث على فقدان الثقة بحكمه.

وربما كان أساس الحكم واحداً في المسألة، وهو ضمان صاحب الغنم للزرع، ولكن الاختلاف هو في طريقة تنفيذه، فحكم داود برقابها لصاحب الحرث، وحكم سليمان بما هو أرفق منه، وهو أن يستوفي ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة، مع ملاحظة أن قيمة الزرع تساوي قيمة رقاب الغنم، كما أن قيمة الرقبة تساوي منافعها المستوفاة في كل سنة عادة. وبذلك لم يختلفا في حكم الله وإنما اختلفا في إجرائه في الدائرة التي يملكان فيها الحرية في التطبيق، في ما يكون مرجع الأمر فيه إلى رأي الحاكم في الموارد التي لا تشتمل على تشريع محدّد، كما في موارد التعزيرات وأمثالها من التفاصيل التي تقع في منطقة الفراغ التشريعي، فيكون للحاكم أن يملأه بما يكون صالحاً، وبذلك يكون تفهيم الله لسليمان المسألة، هو الإيحاء له بالأسلوب الأرفق في إجراء الحكم بالضمان. وقد لا يكون هناك أيّ مانعٍ عقليٍّ في خطأ النبيّ بهذا المستوى، إذا كان ذلك لمصلحة أخرى، في تربية نبي آخر على الحكم، وإظهار فضله، واذا كان هذا النبي الموعود ابناً للنبي الأول، وخاضعاً له ومعترفاً بفضله، مما لا يبعث على الإساءة إليه. وقد لا يكون من الضروريّ أن يكون في ذلك إساءة لموقعه لدى الناس، لأن الناس قد اعتادوا على اختلاف الحاكمين في الحكم، مع اعترافهم بأنهما ينطلقان من علم ومعرفة، لا سيما إذا لم يكن هناك تشريع محدّد في تفاصيل الحكم، بل كان الأمر تابعاً لاجتهاد الحاكم وإن كان نبيّاً.

وربما لا نجد في أدلة عصمة الأنبياء ما يفرض مثل هذه الدقة في صواب الحكم، في ما لا يؤدّي إلى ترك الحكم الواقعي، كما في مثل هذه الحالة التي جاء فيها الحكم على لسان سليمان مع موافقة داود عليه كما يبدو.

وإننا ندعو إلى دراسة المسألة من جديد، على مستوى البحث القرآني من خلال ما صوّره القرآن من الملامح العامة لشخصية النبيّ، في ما يؤكد بشريته، مع الإيحاء بالموقع المميّز من الوحي والانفتاح على آفاق الكمال الإنساني من مواقع القيادة.

* * *

تسخير الجبال لداود(ع)

{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} كيف كان هذا التسبيح؟ هل هو صوت ينبعث من الجبال ومن الطير، كما ينبعث من الإنسان، أو هو شيء خفيّ اختصت به الجمادات الصامتة، ولغة الطير المتمثلة بالأصوات المنبعثة منها في الهديل والزقزقة والتغريد ونحوها؟ أو هو الإبداع الفنّي الذي يتمثل في الصوت التسبيحيّ لداود في لحنه وأنغامه، الذي يهتز له الشعور حتى ليخيّل للإنسان بأن الكون يُسبّح معه، من خلال ما يثيره من الأجواء الخاشعة في الأفق الذي يُسبّح فيه، فتشعر كما لو كانت الجبال والطير يسبّحن معه؟! وربما كان هذا قريباً إلى أجواء الخصوصية التي يثيرها التسبيح في الكون، ولكن كلمة التسخير توحي بوجود نوع من المشاركة الحقيقية التي لا نحيط بعلمها، ولكننا نؤمن بها من خلال الله الذي يعلم من أسرار خلقه ما لا نعلمه، مما اختص بعلمه ولم يعطه لأحدٍ من عباده، {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} في ما نريد أن نخص به الأنبياء من الكرامات المعنوية التي نريد من خلالها إظهار فضلهم على العالمين.

{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} حيث علّمه الله صنعة الدروع، {لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ} فتحميكم من ضربات السلاح الموجهة إلى أجسادكم، وذلك حين ألان الله الحديد لداود مما جعل إنتاجه للدروع سهلاً بحيث يمكنه صنع الكثير منه، {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} لهذه النعمة الكبيرة التي تحمي حياتكم من الهلاك، من دون أن تبعدكم عن ساحة الصراع.

* * *

تسخير الريح لسليمان(ع)

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي سخّرنا له الريح في شدّة هبوبها، وسرعة حركتها، وقوّة اندفاعها، {تَجْرِي بِأَمْرِه} فيوجهها في أغراضه حيث يشاء، ولعلَّ التأكيد على الريح العاصفة التي لا تختلف في تسخيرها له عن الريح الهادئة، يعود إلى أن تسخير العاصفة أكثر دلالة على القدرة من الهادئة، {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} وهي الأرض المقدسة، أرض الشام، وربما كان المراد من تسخيرها وجريانها بأمره، هو أنها تحمله إلى حيث أراد منها لا جريانه إليها لتردّه إليها وتنزله فيها بعدما حملته، والله العالم.

{وَكُنَّا بِكُلِّ شَيءٍ عَالِمِينَ} إذ نحيط بحقائق الأشياء وأسرارها، ونسيطر عليها، ما يجعلنا نتصرف بها كما نريد وحيث نريد.

{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ} فيستخرجون له من البحر ما يشاء من اللآلىء وغيرها، {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ } في ما حدثنا الله عنه بقوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13]، {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} حيث نحفظ دورهم في خدمته، فلا يهربون منه، ولا يمتنعون عنه، ولا يفسدون أمره وعمله.