من الآية 101 الى الآية 104
الآيــات
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ* لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ* لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ* يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (101ـ104).
* * *
معاني المفردات
{حَسِيَسَهَا}: الحسيس: الصوت الذي يُحس به.
{كَطَيِّ السِّجِلِّ}: السجل: حجر كان يكتب فيه. ثم سمي كل ما يكتب فيه سجلاً.
* * *
من أحسن الله إليه لا يحزن
جاء في تفسير الميزان نقلاً عن القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر «محمد الباقر»(ع) قال: «لما نزلت هذه الآية يعني قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} وجد منها أهل مكة وجداً شديداً، فدخل عليهم عبد الله بن الزبعري وكفار قريش يخوضون في هذه الآية، فقال ابن الزبعري: أمحمَّد تكلّم بهذه الآية؟ فقالوا: نعم، قال ابن الزبعري: لئن اعترف بها لأخصمنّه، فجُمع بينهما، فقال: يا محمد أرأيت الآية التي قرأت آنفاً، فينا وفي آلهتنا خاصة، أم الأمم وآلهتهم؟ فقال: بل فيكم وفي آلهتكم، وفي الأمم وآلهتهم إلا من استثنى الله، فقال ابن الزبعري: خصمتك والله، ألست تثني على عيسى خيراً؟ وقد عرفت أن النصارى يعبدون عيسى وأمه، وأن طائفة من الناس يعبدون الملائكة، أفليس هؤلاء مع الآلهة في النار؟ فقال رسول الله(ص): لا، فضجَّت قريش وضحكوا، قالت قريش: خصمك ابن الزبعري، فقال رسول الله: قلتم الباطل، أما قلت: إلا من استثنى الله وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَـئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ* لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ}»[1].
وقد روي هذا المعنى بعدة طرق في روايات السنَّة والشيعة، وهذا يؤكد الفكرة التي يستوحيها القارىء من أجواء الآية السابقة، من أن الذين يعبدهم المشركون لا يتحملون مسؤولية ذلك الشرك، إلا من خلال موافقتهم على ذلك، وتعريض أنفسهم لموقع الربوبية. أما الذين يرفضون ذلك جملةً وتفصيلاً، فإنهم بعيدون عن أي موقع من مواقع العذاب، لأنهم قريبون من الله بإخلاصهم وتوحيدهم له في العقيدة وفي العبادة، ولذلك فإن هذه الآية إذا كانت استثناءً من الآية السابقة، فإنها تكون بمثابة التصريح بما توحيه أجواء تلك الآية {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى} وهم الذين وعدهم الله بالمغفرة، وبشرهم بالنجاة في الآخرة، من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وبلّغوا رسالات الله، فأقبلوا على الإيمان بقناعة فكرية عميقة واعية، وانسجموا مع الموقف الذي ينطلق في خط العمل الصالح، وهؤلاء لا يختصون بجماعة معينة، بل يشملون كل الناس المؤمنين الصالحين. وبذلك يخرجون من الآية السابقة ممن ذكرتهم الرواية، من ضمن المجموع، لا من خلال الخصوصية، لتختص الآية بهم، لأنها تقرّر المبدأ الذي ينجو به الناس من عذاب جهنم، وهو الإيمان بالله والعمل بمقتضياته.
{أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فهم بعيدون عن النار لبعد أعمالهم عن أعمال الذين يدخلونها في جميع المجالات، {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} في ما يمثله صوتها الذي يثير الإحساس ويخيفه ويهزّه ويرعبه، لأن الله أراد أن يبعدهم عن كل شيء يذكرهم بها أو يربطهم بأهوالها، ليعيشوا الهدوء النفسي الذي لا يعكر صفوه شيء مما يرى أو مما يسمع، {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} حيث يعيشون في نعيم الجنة ورضوان الله، في هذا الجو الخالد من السعادة واللطف واللذة والنعيم، الذي يوحي لهم بالاكتفاء الذاتي في كل ما يشتهون، حتى لا يبقى هناك شيء آخر يفكرون به في أية حاجة.
{لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ} وهو الخوف الأعظم الذي يفزع منه كل من في السماوات والأرض فترتجف منه القلوب، وتخشع فيه الأصوات، وتحزن فيه النفوس، بل يواجهون بدلاً من ذلك البشارة الإلهية من الملائكة، {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} باللطف والبشرى، {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} حيث وعدكم الله الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين.
* * *
سيطرة الله المطلقة
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ} فتغيب وتختفي حتى لا يراها أحد، وتبقى في علم الغيب عند الله، {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} وهو الصحيفة التي تشتمل على الكتب من خلال ما تعبر عنه من الألفاظ والمعاني التي تسجل فيها فتغيب عندما يغلق السجل، فلا يراها أحد. وذلك هو المظهر الحيّ لقدرة الله، في ما يوحي به من سيطرته المطلقة على الكون كله، فيتصرف به كما يشاء، فلا ينتقص من قدرته شيء، في ما يألفه الناس وما لا يألفونه. وبذلك فإن الله قادر على أن يبعث الناس من الموت، فيعيدهم إلى الحياة، كما خلقهم من العدم، {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} لأن القادر على الخلق قادر على الإعادة، وسيحدث ذلك حتماً، لأن الله وعد به، والله لا يخلف وعده، {وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} كل شيء مما نريد أن نفعله، حيث وعد به العباد في رسالات الرسل.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:14، ص:335.
تفسير القرآن