من الآية 105 الى الآية 104
الآيــات
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ* إِنَّ فِي هَذَا لَبلاَغاً لِّقَوْمٍ عابِدِينَ* وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ* قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ* فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ* إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ* وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ* قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (105ـ112).
* * *
معاني المفردات
{آذَنتُكُمْ}َ: الإيذان: إفعال من الإذن: وهو العلم بشيء، أي أعلمتكم، ويتضمن معنى التحذير والإنذار.
* * *
الأرض يرثها عبادي الصالحون
كيف يجب أن يفكر أتباع الرسالات الذين يعيشون الإيمان فكراً وموقفاً ومنهج حياة؟ هل يواجهون المستقبل الذي يتحرك من حاضر مليء بالصعوبات والتحديات التي يمثلها الكافرون والمنافقون والمشركون والضالون، وقوى الشر والظلم والطغيان؟ هل يتساقطون في وهدة اليأس أمام ذلك كله، أو يتماسكون في مواقفهم، ليتطلعوا إلى الأمل الكبير القادم من وعد الله لعباده الصالحين بالنصر الرسالي في نهاية المطاف؟
إن الله يوحي إلى المؤمنين الصالحين بأن المسألة لا تحتمل الشك، بل هي في حجم الحقيقة الكونية التي يمثلها التكوين الإلهيّ في نهاية الحياة.
ولهذا فإن عليهم أن يتابعوا الجهاد في كل المواقع، ويؤكدوا الرسالة في جميع المواقف، ليثيروا قضايا الحق في كل مجالات الحياة، وكل مواقع الإنسان، ويتحملوا الكثير الكثير من المشاكل والآلام والتضحيات، لأن ذلك هو الذي يحقق للمستقبل ثباته وقوّته، ويدفع به إلى الآفاق الرحبة في موعد الشروق.
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} الذي أنزله الله على داود(ع) {مِن بَعْدِ الذِّكْرِ} وهو التوراة، كما قيل، لأن الله سمّاها به في قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. وقيل: هو القرآن، لأن الله أطلق عليه ذلك في أكثر من آية؛ {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} فيسيطرون عليها سيطرة حكم وقيادة ورسالة، فينفذون برنامج الرسالات الذي يحوّل الأرض إلى ساحة للإيمان بالله، وإطاعة لأوامره، وربما يضاف إلى ذلك وراثة الأرض، في ما وعد الله عباده المتقين منم وراثة الأرض التي تطل على الجنَّة التي يتبوّأون فيها مواقعهم كما يشاءون.
فهم الذين يرثون الحياة كلها في الدنيا والآخرة، ليشعروا بالثقة بأن الأرض ليست مجرد فرصة للأشرار في حكمهم وعبثهم وفسادهم، بل قد تكون، ولو في نهاية المطاف، فرصة للأخيار من أتباع الرسالات، لينطلقوا بالحركة الرسالية لتشمل الحياة كلها في مواردها ومصادرها وأوضاعها وأشخاصها..، ليكونوا هم الجيل الأخير للبشرية الذين يسلمون الحياة إلى الله في الأرض على خط الأمانة التي حمّلها للإنسان ليؤدّيها الى أهلها كاملةً غير منقوصة، وليتسلموا من الله مواقعهم من رضوانه ومن جنته.
وقد كثرت الأحاديث المروية عن النبي(ص) وعن أهل بيته وأصحابه، بأن الإمام المهديّ(ع) هو الذي يرث الأرض مع أصحابه الصالحين ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
{إِنَّ فِي هذَا لَبلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} يعبدون الله، كما يريد الله لهم أن يعبدوه في إقامة العدل وإزهاق الظلم، وفي الانفتاح عليه في كل أمورهم وقضاياهم، ليجعلوا الحياة كلها في طاعته وفي خدمته، وفي الحصول على رضاه. وهؤلاء هم الذين يشعرون أن في ما أنزله الله عليهم ما يبلغ بهم إلى ما يريدون من أهداف في الدنيا والآخرة، إذا ساروا على نهجه واتبعوا هداه وانطلقوا مع شرائعه.
* * *
الرسول رحمة للعالمين
{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} لأنك جئتهم بالرسالة التي تنفتح عليهم في كل أمورهم لتقودهم إلى الصراط المستقيم في الدنيا، وإلى النعيم الخالد في الآخرة، وتثير فيهم كل نوازع الخير، وتبتعد بهم عن نوازع الشر، وتركز العلاقات فيما بينهم على أسس ثابتة من القيم والمبادىء، فلا تهتز ولا تنحرف ولا تسقط بفعل المطامع والأهواء والشهوات، وتوحي إليهم بالسلام الروحي الذي يطوف بهم في كل آفاق الصفاء والنقاء والإشعاع والإيمان والهدوء النفسي القائم على الخير والعدل والحياة.
أما رحمته في شخصه، فقد كان يمثل الخلق العظيم الذي ينساب في قلب كل من حوله حباً وعاطفةً وروحاً وخيراً وسلاماً... وهكذا اجتمعت فيه رحمة الرسول، ورحمة الرسالة في الفكر والحركة والإنسان والحياة.
وهذا هو ما يجب أن يعيشه المسلمون في دعوتهم للإسلام، وفي ممارستهم له، وفي حركتهم من أجله، وذلك بتجسيد الرحمة في مواقفهم وكلماتهم وعلاقاتهم وروحيتهم في كل المجالات، لا أن تكون الرحمة حركة انفعال، بل أن تكون موقف حق وخير واستقامة وإيمان، لأن الرحمة تمثل العمق في شخصية الإنسان الفكرية والعملية، فتتفاعل في كل دوائره الصغيرة أو الكبيرة، ليكون القدوة في الرحمة، والرحمة في القدوة، {قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} فهو الذي وحّد الحياة في ربوبيته، وفي خلقه، وهو الذي يريد للناس أن يتوحدوا في عبادته، وفي شريعته، وفي منهجه في حركة الحياة، لأنه يريد للبداية أن تحكم النهاية، كما تحكم الخط الذي يربط بينهما، فلا يريد الانحراف والالتواء والابتعاد عن الاستقامة في الخط الذي هو المظهر الحقيقي للوحدة.
قل لهم ـ يا محمد ـ هذا الوحي التوحيدي، ليقبلوا عليه، وليسيروا في خطه، وليؤمنوا بنهجه، وليجعلوه قمّة الوعي العقيدي والشعوري والعمليّ في حياتهم كلها.
* * *
عذاب الكافرين بوحدانية الله
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} وأعرضوا واتبع كل واحد منهم إلهاً آخر يعبده من دون الله، وتفرقت بهم السبل، فأخذ كل منهم طريقاً يؤدي به إلى مطامعه وأهوائه وشهواته، بعيداً عن الدار الآخرة في ثوابها وعقابها، {فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ} أي أعلمتكم وحذرتكم من الأخطار التي تواجهكم في هذا الطريق المنحرف الذي تسيرون عليه، فيتساوى فيها الجميع، فلا فرق بين قوم وقوم، فستواجهون الموقف الصعب جميعاً، {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} من العذاب الذي ينتظر الكافرين والعاصين والمنحرفين، {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} لأنه يعلم السرّ والعلانية، لأن الله لم يوكل إليّ أمر ذلك ولا علمه، ولكنه الحق الذي لا مرية فيه ولا ارتياب.
{وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} فقد يريد الله أن يمتحنكم ويختبركم ويفتنكم، في ما أرادني أن أبلغكم إياه ليظهر ما في نفوسكم من مشاعر ومواقف إزاء الدعوة إلى الله، {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في ما يمهلكم ويستدرجكم إلى إخراج كل ما تفكرون فيه، وما تبطنونه في أعماقكم من شرٍّ وفساد.
* * *
الحكم لله رب العالمين
{قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ} فقد بلّغت كل ما أمرتني أن أبلّغه، وأديت كل ما أردت أن أؤديه، وقمت بكل ما أردتني أن أقوم به، وها أنت يا إلهي تعرف كل ما حدث، مما قاموا به من كفر وجحود وإعراض، فاحكم بيننا بالحق، وأنت رب الحق، ومنك وحيه ونهجه، {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} فأما أنتم أيها الكافرون الضالون المتمردون، فإني أستعين بالله عليكم وعلى ما تفعلونه وتصفونه من الباطل في ما تلتزمونه من دينكم وفي ما تنكرونه عليّ من دين الله، فالله هو المستعان في كل أمور الإنسان في ساحات الصراع، وإليه الملجأ وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تفسير القرآن