تفسير القرآن
الحج / من الآية 3 إلى الآية 4

 من الآية 3 الى الآية 4

الآيتـان

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـنٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (3ـ4).

* * *

معاني المفردات

{مَّرِيدٍ}: المريد: الخبيث، وقيل: المتجرد للفساد والمعرّى من الخير.

{تَوَلاَّهُ}: اتخذه ولياً.

* * *

نموذج ضالّ

هذا نموذج من الناس الذين يرفضون خط التقوى في حياتهم، ويمتنعون عن المواجهة الجادّة للمسألة العقيديّة بالفكر العميق والروح التقيّة، ويتحركون من خلال الأهواء في العلاقات والانتماءات، لا يركنون إلى قاعدةٍ من علمٍ، أو إلى انطلاقةٍ للفكر، لأنهم لا يواجهون الحياة بالمسؤولية الفكرية التي تعتمد على العلم في تحديد النتائج وتكوين القناعات، بل كل ما هناك، أنهم ينتهزون الفرصة السانحة للحصول على المطامع والرغبات، من أيّة جهة كانت، وفي أيّ موقعٍ.

* * *

الجدال الشخصي والجدال الفكري

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فيدخل مع الآخرين في جدلٍ حول صفات الله وأفعاله، وحول مسألة التوحيد والشرك، ولكنه لا يملك المعطيات العلمية التي تتيح له فرصة الدخول في الجدل المنتج الذي يقنع فيه المتجادلون بعضهم بعضاً بالحجة والبرهان، حيث يكون الموقف موقف فكر يصارع فكراً، لا موقف شخص ينازع شخصاً آخر، لأن الجدال الشخصي لا يؤدي إلا إلى المهاترات، بينما يؤدي الجدال الفكري إلى تكوين القناعات.

وهذه هي مشكلة الكثيرين ممن يتخذون المواقف دون فكرٍ، ويدخلون في الجدل دون امتلاك أدواته العلمية، فتكون النتيجة هي إثارة الضوضاء والصخب واستثارة الانفعالات لا أكثر. ويتمثل هؤلاء بالببّغائيين الذين يقلّدون الآخرين في مواقفهم وأفكارهم دون أن يفهموا طبيعتها وخلفياتها ونتائجها الإيجابية والسلبية، ويدافعون عن تلك المواقف والأفكار بحماس يفوق حماس أصحابها، فيستخدمون الوسائل الانفعالية الاستعراضية التي قد تؤدي إلى التقاتل والتنازع، ويثيرون المشاكل ويعيقون الثورة على الواقع الفاسد والإصلاحات الفكرية والاجتماعية والسياسية، بفعل تيار الجهل والفوضى الذي يخلقونه في الحياة العامة.

* * *

القيادات الشيطانية

{وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَّرِيدٍ} وتلك مشكلة من يتبعون القيادات المنحرفة التي تعمل على إثارة الفساد، وإبعاد الناس عن خط الخير، فيجمّدون عقول هؤلاء الناس ليتَّبعوا عقولهم دون وعيٍ أو تفكير، ليتحركوا عندها لتحقيق مخططات الشرّ والظلم والضلال.

{كُتِبَ عَلَيْهِ} في ما قدّره الله في الحياة من علاقة المسببات بأسبابها، في مسألة الهدى والضلال، مما لا يتنافى مع مسألة حرية الإرادة وعنصر الاختيار، {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ } واتّخذه مرشداً وقائداً ورأى فيه القدوة في كل شيء {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } كنتيجة طبيعية يصل إليها من يغمض عينيه، ويغلق سمعه، ويجمّد عقله، ويخضع حركته في الحياة لإيحاءات مثل هذا الشيطان، ويقلّده في أقواله وأفعاله، فإن ضلال هذا الشيطان المتّبَع سيكون سبباً في إضلال التابع وانحرافه، لأن النتائج السلبية لا بد من أن تأتي من المقدّمات السلبّية.

{وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} وهو نهاية خط الضلال والانحراف المنطلق مع آفاق الشياطين، لأنه يبعد الإنسان عن الله، فيبتعد بذلك عن الجنة ويقترب من النار.

* * *

بالعلم واتباع القيادة المؤمنة نتفادى هذا النموذج

عند قراءة كيفية تقديم القرآن الكريم لهذا النموذج المنحرف، نلاحظ أن هذا النموذج يتميز بصفتين؛ الأولى: افتقاده إلى العلم الذي يفتح أمامه أبواب الحق. والثانية: اتباعه الشيطان الخبيث الذي يريد للحياة أن تتحرك في طريق الشرّ وأن تبتعد عن طريق الخير. وفي ضوء ذلك، نفهم أن العلم قيمة أساسية في شخصية الإنسان، وفي حركة الواقع الفكري والعملي، والتأكيد عليه يمكن أن يؤدّي إلى إطلاق الخلاف العقيدي والسياسي والاجتماعي، من موقع التنوّع في الاجتهاد القائم على الدليل الذي قد تختلف الأنظار في فهمه، وبذلك يمكن أن يؤدي الحوار إلى اللقاء على أكثر من قضية من قضايا الخلاف، وإلى الانفتاح على الحق من أقرب طريق.

من هنا، يجب التأكيد على ضرورة انطلاق القاعدة من مواقع الاقتناع الفكري بالقيادة، لا من مواقع التقليد الأعمى لها، لا سيّما في المسائل التي يمكن للقاعدة أن تأخذ فيها بأسباب المعرفة، أو من قاعدة الأساس الشرعي الذي يعطي الإنسان الحقّ في اتباع قيادة مؤهّلة تملك مواصفات معينة يأمن معها من الوقوع في قبضة الضلال، لما تملكه من العصمة أو العلم أو التقوى أو الإيمان، ما يجعله ـ أي الإنسان ـ بمأمن من الوقوع في قبضة الضلال، بحيث يتحول المجتمع إلى ساحةٍ متحركة بالعلم والوعي مع القيادات المؤمنة الواعية التي تنفتح على الله وعلى المسؤولية من خلاله.