من الآية 5 الى الآية 7
الآيــات
{يا أيها النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ في الأرحام مَا نشاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فإذا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يحي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن في الْقُبُورِ} (5ـ7).
* * *
معاني المفردات
{عَلَقَةٍ}: العلقة: الدم الجامد.
{مُّضْغَةٍ}: المضغة: القطعة من اللحم الممضوغة.
{مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}: تامة الخلقة وغير تامتها، وقال ابن الأعرابي: مخلقة: قد بدا خلقُها، وغير مخلقة: لم تُصوَّر.
{أَرْذَلِ الْعُمُرِ}: أحقره وأهونه.
{هَامِدَةً}: الأرض التي لا نبات فيها إلا اليابس المتحطِّم. وهمود الأرض: أن لا يكون فيها حياةٌ ولا نبت ولا عود ولم يصبها مطر.
{وَرَبَتْ}: زادت وعلت.
* * *
حياة الإنسان والطبيعة دليل على البعث
تحدثت الآية السابقة عن الجدال بغير علمٍ، ومنشأه فقدان الوعي بالدار الآخرة وعدم التركيز على الجانب الفكري في العقيدة، لذا جاءت هذه الآيات لتؤكد على الدار الآخرة كحقيقةٍ إيمانيةٍ، وعلى الأسلوب العلمي في الاستدلال عليها، ليصبح الجدال من موقع العلم، منفتحاً على المسؤولية يوم القيامة.
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ} لأنه ليس شيئاً منظوراً حتى يثبت حسيّاً لكم، وبالتالي فإن وجوده قد يثير الشك لدى من لا يحركون أفكارهم أمام الأشياء غير المألوفة، في مثل هذه القضية التي يستبعدها الاحتمال ولا يوافق عليها الفكر. ولكن تقريب المسألة إلى الحسّ الإنساني، وذلك عندما نقارب أمثالها من الظواهر المحسوسة في الواقع، بحيث تصبح إرادة خلق الحياة من التراب الميّت، وتشكُّل إنسان حيّ منه ينمو ويكبر ويتحرّك، أمراً معقولاً إذا ما نظر الإنسان إلى بداية خلقه، فيصل الفكر بذلك إلى اليقين من مواقع الشك الإيجابي الباحث عن الحق. {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} ميّتٍ تحوّل إلى نباتٍ حيّ، فغذاء يتفاعل مع أجهزة الجسم، ثم تحول إلى دم {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} وهي القطعة من اللحم في الطور القابل للمضغ بحسب حجمه، {مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي تامة الخلق من حيث اكتمال الصورة في الجنين ونفخ الروح فيه، أو غير تامة من حيث عدم اكتمال الحياة فيه، {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} أن البعث ليس أمراً بعيداً عن الوقوع، ففي حياة كل واحدٍ منكم حالة بعث من التراب إلى الحياة، ولكن الفرق أن البعث فيكم يتحرك بطريقةٍ تدريجيةٍ، بينما البعث في الآخرة يأتي بشكل كامل ودون مقدّمات.
{وَنُقِرُّ في الأرحام مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} فتنمو المضغة حتى تتحول إلى كائن حيٍّ ينمو بواسطة ما نرزقه إياه في الرحم من غذاء يتكامل نموّه {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي نخرجكم من بطون أمهاتكم وأنتم أطفال، وقد ذكرت بصيغة المفرد لأنه مصدر كما قيل، {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} وهو السنّ الذي تشتد فيها الأعضاء وتتكامل فيها القوّة {وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى} وهو في سنّ الشباب، أو في سن الكهولة التي لا يفقد فيها الإنسان وعيه وقوّته، {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُر} وهو أحقره وأهونه، وهو سنّ الهرم التي يفقد فيها الإنسان قواه، وربما يفقد وعيه وذاكرته، {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} فلا يبقى له من العلم ما يستطيع به إدارة حياته أو تدبير أمره.
{وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} وهذه صورة أخرى من صور الحياة التي تنطلق من صلب الموت، حيث يتحوّل التراب الميت إلى قوّةٍ خضراء تزهو بالحياة، وهي صورة الأرض اليابسة الخالية خلوّاً تاماً من علائم الحياة والنموّ، والتي يمر عليها الإنسان عادة دون وجود شيء يستدعي انتباهه فيها، {فإذا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء} الذي ينفذ إلى أعماقها ويسقي البذور المنثورة فيها {اهْتَزَّت} وتحرّكت بالنبات الذي يبدأ عملية النمو {وَرَبَت} وأخذت تعلو ويزيد ارتفاعها {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} من أنواع النبات التي تزهو في نضارتها فتبهج القلوب والأبصار. وهكذا تخرج الحياة من قلب التراب الميّت.
{ذلِكَ} أي أطوار خلق الإنسان، وخلق النبات، وتدبير أمرهما في الحدوث والبقاء، يوحي بالدليل القاطع {بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} الذي يعطي الحق معناه، في ما يخلقه من موجوداتٍ وأوضاعٍ وأنظمةٍ للكون وللحياة التي لا يقترب إليها الخلل في تكوينها من قريب أو من بعيد، وذلك من خلال هذا التدبير الدقيق الشامل في كل شيء، {وَأَنَّهُ يحيي الْمَوْتَى} وهو ما نستوحيه من صيرورة التراب الميت إنساناً حيّاً، ومن صيرورة الأرض الميتة بنزول الماء نباتاً حيّاً. {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ} لأن ذلك كله جزءٌ من نظام الوجود الذي يكشف عن شمول القدرة لكلّ شيء.
* * *
بين فكرة البعث وترسيخ الإيمان
{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} لا من حيث إمكانها في ذاتها، لأن القدرة على ما يماثلها دليلٌ على القدرة عليها، ولا من حيث وقوعها، لأن الله هو الحق الذي يؤكد الحق في الواقع، كما يؤكده في وحيه الذي يبلّغه لرسله، {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن في الْقُبُورِ} ليحاسبهم على أعمالهم؛ إن خيراً فخيرٌ، وإن شرّاً فشرٌّ، فذلك ما يدفع فكرة عبثية وجود الإنسان، ويعطي للحياة معنى الحق في ما يمثله من حركة المسؤولية التي تربط النهاية بالبداية، وتثير المسألة على أساس العناصر الثابتة التي توحي بأنها هي سرّ الوجود في التكليف وفي الجزاء. وهذا ما ينبغي للإنسان أن يستحضره في وعيه لمسألة وجوده، فلا يرى فيه مجرّد فرصة للّهو والعبث، بل يرى فيه تمثلاً لحركة القيم الروحية الثابتة التي توحي له بالمعاني الإنسانية كخطٍ مستقيمٍ من خطوط المصير. هذا إضافة إلى إحساسه العميق بأن الإيمان بالله ليس حالةً فكريةً مشابهة للمعادلات الرياضية، بل هو ـ في طبيعته ـ حالة روحية تطل بالفكر على منطقة الشعور، لتتحول إلى تجسيدٍ واقعيٍّ للعقيدة والشريعة في وعي الإنسان وحياته.
وهذا هو التأثير الذي يستهدف الإسلام أن تتركه فكرة البعث في حركة الإنسان في وجوده وفي إيمانه، لئلا يبقى وجوده مجرد مظهر عبثي، ولئلا يتحول الإيمان إلى فكرٍ جامدٍ لا يوحي إلا بالأفكار التجريدية التي تضيع في آفاق الخيال ولا تلتقي بحركة الواقع، ليكون ـ بالتالي ـ وجهاً للوعي المنفتح على الله من موقع المسؤولية.
تفسير القرآن