تفسير القرآن
الحج / من الآية 8 إلى الآية 10

 من الآية 8 الى الآية 10

الآيــات

{ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِير* ثاني عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ في الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ* ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلعَبِيدِ} (8ـ10).

* * *

معاني المفردات

{ثاني عِطْفِهِ}: الثني: الكسر، والعطف ـ بكسر العين ـ الجانب. وجاء عن ابن عباس في قوله تعالى {ثاني عِطْفِهِ } أي متكبراً في نفسه[1]. وقيل: معناه: لاوي عنقه إعراضاً وتكبراً عن الله ورسوله.

{خِزيٌ}: الخزي: الهوان والذلة والفضيحة.

* * *

نموذج الضالّ المضلّ

وهذا نموذج آخر للذين يتحركون في الجدال من مواقع الجهل والضياع ويُعرضون عن كل دعوةٍ للعلم والتأمّل والحوار المنفتح على الفكر... هؤلاء الذين لا يكتفون بضلالهم الذاتي الذي يتخبطون فيه، بل يعملون على جعل الحياة كلها من حولهم ضلالاً وابتعاداً عن الحق المنطلق من وحي الله.

{ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ} فيثير الحديث حول الذات والصفات والأقوال والأفعال والوحي والنبوات والمعاد، ونحو ذلك مما يتصل بالله، {بِغَيْرِ عِلْمٍ} دون مخزون من الأفكار والتأمّلات الذاتيةٍ التي ينتجها العقل المجرّد أو التجربة الشخصية، {وَلاَ هُدًى} يتعلمه مما أنزله الله من وحي على رسله، {وَلاَ كِتَـابٍ مُّنِيرٍ} مما كتبه أهل الحق من تعاليم الله عقيدةً وشريعة، {ثاني عِطْفِهِ} أي الذي ينحرف بجانبه، فيكسره، كالمعرض الذي لا يلتفت إلى من حوله، وهو كناية عن الاستكبار والإعراض عن الحق، وذلك {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّه} من خلال الجدال الذي يحركه في اتجاه الضلال، بجميع الوسائل التي يثيرها في الساحة.

وقد ذكر البعض أن الفرق بين هذا النموذج والنموذج السابق، مع التقائهما بأنهما يجادلان في الله بغير علم، أن هذا النموذج هو في المقلَّدين ـ بفتح اللام ـ والآية السابقة في المقلِّدين ـ بكسر اللاّم ـ[2].

ولكن ذلك غير واضح، فإن الآية الأولى إذا تحدثت عن اتباعه لكلِّ شيطان مريد، فإن هذه الآية انطلقت من عدم استناده إلى شيء ثابت، ما قد يوحي بأنه قد يشبه الأول في انطلاقه من موقع الانتماء إلى المضلّين، وقد يكون الفرق بينهما، أن الأوّل يعيش الضلال في ذاته، أما الثاني فيمارس الدعوة إلى الضلال، إضافة إلى ضلاله في نفسه، ما يجعل جريمته أكبر، لأنه يعمل على إخضاع الحياة للضلال.

* * *

الخزي والعذاب للضالّ المضلّ

{لَهُ في الدُّنْيَا خزي} لما يمثله الانحراف والضلال من عار وذلّ وفضيحة على صاحبه، لأن جهل الإنسان بالحقائق الواضحة، وابتعاده عن التفكير المنطقي في مواجهة القضايا العامة، يفضحانه في ساحة الصراع الفكري والعقيدي، {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } جزاءً لتمرّده على الله، بعد قيام الحجّة عليه، في ما أنكره وجحده، وفي ما أشرك به دون علم.

{ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} ذلك هو الخطاب الحاسم الذي يواجه به عندما يستنكر أو يحتج أو يتساءل، فقد قدّمت يداك ـ وأنت في الدنيا ـ كل هذا النتاج الضخم من الأعمال الشريرة القائمة على الكفر والضلال، دون ركيزة من علم، ودون قاعدةٍ من إيمان، فهل هناك أيّ ظلم في ما تلقاه الآن من عذاب؟! فعذاباتك نتيجة طبيعية لأعمالك، وقد أنذرك الله وحذّرك من كل ما تتعرض له الآن. {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلعَبِيدِ} ولكن الناس يظلمون أنفسهم بالكفر والمعصية والضلال الشديد.

وهذا النموذج الذي تقدمه الآية يمكن معاينته في الواقع في صورة الذين ينطلقون مع انتماءات الكفر والباطل ويتحملون مسؤولية الدعوة إلى الأفكار الضالة التي تمثلها تلك الانتماءات، في مجال العقيدة والشريعة والمنهج والحياة، فيحفظون شيئاً مما يلقى إليهم، ويختزنون ملاحظات سريعة، ويشكلون أفكاراً سطحية ينطلقون بها إلى الناس، مستغلين بعض الأوضاع القلقة، والزخارف الزاهية، والمواقف المثيرة، ليضلوهم بالشبهة والوهم والخيال، وليحاصروهم بالمشاكل المتحركة في كل موقع من حياتهم التي توحي لهم بألف موقف ضلال.

ـــــــــــــــــ

(1) الطبرسي، أبو الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار المعرفة، ط:1، 1406هـ ـ 1986م، ج:7، ص:116

(2) انظر: الزمخشري، أبو القاسم، جار الله، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنـزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الفكر، بيروت ـ لبنان، ج:3، ص:6.